الجزائر

النار داخل الدار


l ربما تحوز ولاية تيزي وزو على الرقم القياسي الوطني في مجال الانتحار، بـ 40 حالة منذ بداية السنة الجارية، في الوقت الذي غطت فيه هذه الظاهرة الخطيرة، عن سابقتها ''الحرفة''، التي مازالت في الحقيقة تؤرق الأولياء الذين ينجبون أولادا يهدون أجسادهم للحوت، والمحتشدات والحياة السرية إذا نجوا من الغرق في البحر، في هروبهم من الأرض، التي من المفروض أن يعيشوا فيها.
وجاءت حادثة ثانوية سويح الهواري بوهران، أمس الأول، التي أحرق تلميذ في الـ19 من العمر جسده في ساحتها، لأنه فشل في إقناع القائمين على المنظومة التربوية، سلميا، بمنحه حق تجديد حظه في نيل الشهادة التي حطم فيها بن بوزيد رقما قياسيا ''تاريخيا'' في نسبة النجاح.
هذه الحادثة ''المؤسسة'' لشكل جديد من أشكال التعبير عن اليأس في أوساط جيل محير، تعتبر في غاية الخطورة. لتشابك الأمل المشروع فيها بالعنف الأقصى. وكانت فيها الغلبة للعنف المأساوي.
التلميذ الذي حاول الانتحار في حرم الثانوية يجسد ''نفسية'' جيل لا يخشى ركوب البحر، وهو يعلم مسبقا أن حظوظ وصوله إلى اليابسة ضئيلة جدا، جيل لا ترهبه الهراوات عندما يغادر مدرجات ملاعب كرة القدم ليحتل الشوارع للتعبير، بالتحطيم، عن فرحه لانتصار فريقه برشق الشرطة بالحجر وتكسير واجهات المحلات، تماما كما يفعل في حال خيبته للهزيمة. جيل يحتل الصفوف الأولى في المواجهات مع ممثلي السلطات العمومية، حتى في حال خروجها مدعومة بوسائل القمع، إذا هب الناس للتعبير عن غضبهم من سوء توزيع السكن، أو وقوع حادث مرور مميت، أو ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، مثلما عشنا في جانفي الماضي. جيل يلف منتمون إليه أجسادهم بالمتفجرات، ويقتحمون بها مواقع فضاءات ينشرون فيها الخراب والموت.
جيل شخّص نفسيته ذلك التلميذ الوهراني الذي اقتحم ساحة ثانويته، ورش جسده بالبنزين وأشعل فيه النار، لأنه حـُرم من إعادة السنة الثالثة ثانوي، وتجريب حظه مجددا في امتحان البكالوريا.
لماذا أنجب الجزائريون والجزائريات، الذين ولدوا بعد استقلال بلادهم، أبناء وبنات لا يترددون في اللجوء إلى الحلول القصوى، بالانتقال المباشر والإرادي إلى الآخرة باستعمال النار؟ لماذا يقررون الموت قبل أن يتذوقوا الحياة، حلوها ومرها؟
لقد اقتحمت ''النار كل الديار''، ومنها تلك التي من المفروض أن تتحضر للاحتفال، في نهاية السنة، بنجاح أحد أبنائنا، الذين ينتمون إلى الجيل الجديد الذي لا يخاف اللهب، ولا يتردد في توقيف مسار حياته في ريعان الشباب.. ليست لدي أجوبة. لكنني حائر، مثلما يحتار سكان تيزي وزو لتصدر ولايتهم قائمة الانتحار، ويحتار كل الأولياء الذين أنجبوا بنات وأبناء أسهل ما يعرفون فعله ''إشعال النار''.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)