الجزائر

المنزلة العرفانيَّة للّقاء عند ابن عربي



ممَّا أدَّى بهذا الفكر إلى الرغبة في تشكيل الحقيقة أو تصوير حقائق متجاوزة للحسّ والعقل.للصحبة العالميَّة والعلميَّة قوَّة اجتماعيَّة ودينيَّة، فبها ينمحي الخلاف البين-ذاتي والبين-ديني، بالتقريب بين المشاعر والأجساد والذهنيَّات والاعتقادات والأديان. وبمعناها الجمالي تنمحي الصداقة والعداوة. وما يتبقَّى هو اللقاء غير المخطط له، كما هي الولادة بمعناها الوجودي والكوني. فبالقوَّة الجماليَّة للّقاء نكون أمام الوحدة الوجوديَّة، التي ينمحي فيها كلٌّ من "الأنا" و"الأنت"، وما يتبقى هو: "الهو" الكامن في صلب كلّ واحد منَّا. ويعبّر "جلال الدين الرّومي" عن هذا الانمحاء الجدلي للصداقة والعداوة، وللأنا والأنت قائلاً في رباعيَّاته "لشغفي بك، لم يبقَ صديق ولا عدو، داخل جمعك لم يبقَ كأس ولا جرَّة، يا معشوق، أظنك شربت دمي، فالرائحة قد علقت بشفتك النَّاعمة".
إنَّ اللقاء بمعناه العشقي-العرفاني هو تعلّق وتحقّق، وهو صحبة بالأكبر والأعظم، وانمحاء للثنائيَّة، وانبراء للاستضاءة، أي للوجود النيّر بقوَّته على استنارة الطريق، وبيان سرّ الكينونة بشمّ رائحة الوجود، لأنَّ أصحاب اللقاء هم ذوقيَّاً "أهل شم"، وتجتمع لديهم الحواسّ في حاسَّة واحدة كقدرة على الشعور بحركيَّة الريح الحاملة معها سرَّ اللقاء بالأمكنة التي تمرُّ بها. يقول جلال الدين الرومي "قلت: لا تقعد حزيناً بصحبة المعشوق، لا تجالس سوى ذوي القلوب الحنونة والوديعة، عندما تدخل البستان لا تتَّجه صوب الأشواك، لا تجاور سوى الورود وأزهار الياسمين والنسرين".
اللّقاء هو مجاورة ومحاورة، وهو إحساس بوجود ما هو جميل في هذا الوجود الناطق الصامت؛ لأنَّ كلَّ كائناته دالَّة وجوديَّاً على حقيقة واحدة مجسّدة للمعنى المتعالي حسيَّاً، والممثلة في رؤية الحقّ في كلّ شيء، وفي لا شيء. وأصل هذا هو استنارة الكينونة عبر العشق الذي يدعو إليه أهل المحبَّة والمعرفة القلبيَّة. فلا عشق بدون صحبة (الآخر)، ولا صحبة بدون لقاء. فبهما يشمُّ الكائن رائحة الوجود، ويتحوَّل من عدميَّته إلى موجوديَّته النيّرة والخلَّاقة. يقول "مولانا جلال الدين الرومي": "بصحبة العشق انطلقت راحلتنا من العدم، عاد ليلنا مضيئاً بخمر الاتحاد إلى الأبد، من هذه الخمر المباح في ديننا، لن ترى شفاهنا يابسة، حتى فجر العدم".
إنَّ الشعور بالوجود النيّر هو انمحاء للتضادّ بين المتضاربين، وهو تشريع لحقائق تبدو مخالفة للعادي والاعتيادي، لكنَّ ممارسيها هم إمَّا أولياء أو أنبياء أو تابعون؛ هم أصحاب الخمر المباح حسب تعبير "مولانا جلال الدّين الرومي"، والحامل لمعنى "الكفر الحلو"، كما جاء في "قواعد العشق الأربعين"، تلك هي تجارب اللقاء التي تتحوَّل إلى صحبة خلَّاقة ومبدعة، فلقاء العارفين لا كباقي اللقاءات، إنَّه شعور بوجود بعضهما بعضاً، إنَّه تلقٍّ للنُّور الكامن في كينونة الآخر.
إنَّ السفر والإقامة هما شرطا اللقاء، فمن خلالهما يمكن فتح أمكنة خفيَّة والتواصل معها، لأنَّ السفر هو في عمقه بحث عن السرّ الذي قد يكون في الشخص أو المكان والزمان. وتجربة اللقاء كسفر وتيه وترحال هي حدث يهدّد المكان بمعناه الهندسي والجغرافي ويحوّله إلى حدّ أو إلى "بلد اللَّا أين" (le pays du non-où): حيث هناك إمكانيَّة لمد النظرّ إلى ما وراء الحجب الظاهرة، و"لما بين اثنين".
مفهوم الذاتيَّة المطلقة، يتخذ عند "ابن عربي" دلالة الصورة المطلقة، وهي عنده الصورة المحمديَّة. وهذا المفهوم -الذاتيَّة المطلقة- حاضر بشكل أعمق في التجربة البوذيَّة. مقدّمة كتاب "الفتوحات المكيَّة" المعنون ب: "اللقاء بالفتى الفائت". النصوص المشار إليها في هذا المقال هي من صلب مقدّمة الفتوحات المكيَّة". ابن عربي (محي الدين) "الفتوحات المكيَّة"، السفر1، تحقيق عثمان يحيى، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، 1985.
من أهمّ اللقاءات في تاريخ التصوُّف الإسلامي، ذلك اللقاء التاريخي بين "مولانا جلال الدين الرومي"، و"شمس الدين التبريزي" الذي شكَّل موضوعاً جوهريَّاً في الكتابات الصوفيَّة، وأدَّى إلى قراءات متعدّدة: أدبيَّة، تاريخيَّة، ... لكنَّ أهميته العرفانيَّة محدّدة في ذلك التحويل، أو تلك الولادة الجديدة التي حدثت "لجلال الدين الرومي"؛ بتحوُّله إلى كاتب ومبدع، وشاعر وصاحب قول عرفاني كوني متمركز حول العشق. فاللقاء هو "حدث" يتمُّ من خلاله ذلك التواصل الوجودي النادر بين الأنا والآخر، فهو مناسبة لرؤية النّور في الآخر. وخاصيَّة اللقاء في التجربة الصوفيَّة هي كونه لقاءً بالأكبر، وهذا ما يجعله ممتلئاً بالحيرة، لأنَّه يتَّجه نحو الأحسن والأفضل السكينة-، وأهم ّما يؤسّس تجربة اللقاء سواء أكانت حيَّة أو برزخيَّة، وهو العيش وفق تجربة اللطف. لأنَّ جماليَّة الوجود هي بانكشاف هذه اللطافة عبر اللقاء. ولهذا فاللقاء بالأكبر هو أعظم حيرة، وأصحابه كما يسمّيهم جامي (عبد الرحمن): "أهل الحيرة الأخيرة".
في تجربة اللقاء، هناك نوعان "الحيَّة" و"البرزخيَّة". فالأولى: مثل لقائه بالشيوخ وابن رشد... والثانية كلقائه بالخضر وستّ العجم البغداديَّة... وهذا اللقاء الأخير تمَّ في عالم المثال، أي هو لقاء روحي جرى بينهما بعد وفاته بما يقرب من نصف قرن (أي لحظة تأليفها لشرح المشاهد سنة 686ه. تتحدث بأنَّها رأته بحضرة جماعة من الأولياء، وأنَّها سألته الاستمداد من سيرة الولاية. وقد طلب إليها ابن عربي بالمقابل في نهاية هذه الرؤيا أن تشرح له كتاب المشاهد. وتفتح استغلاقه لأنَّه من غوامض كتب المشكلة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)