يردد بعض الناس في كثير من المرات، وبهم رغبة للحط من قيمة الحضارة الأمريكية، أن الشعب الأمريكي قام على ''اللاتاريخ''، من جرّاء الطريقة التي بنيت عليها أمريكا. يردّدون هذا الكلام، في إشارة منهم إلى إبادة الهنود الحمر، والاستيلاء على أراضيهم بالقوة، ثم تهجيرهم إلى صحراء ''أريزونا'' القاحلة. وبقدر ما يمكن اعتبار هذه الفكرة صحيحة، بقدر ما تحتوي على مغالطة، وكأن الذين يروجون لها، يريدون أن ينشروا فكرة ''التقدم الذي لا يلتفت إلى الماضي''.
أعتقد أنه يوجد طريقة مغايرة لا نعثر عليها سوى لدى الأمريكيين بخصوص التعامل مع الماضي. فالأمريكيين في نهاية الأمر، هم شعب يملك القدرة على مقاربة جروح ذاكرتهم، دون حساسية أو حسابات سياسية، على خلاف الفرنسيين.
هذا ما لمسته منذ أسبوعين بعد الانتهاء من مشاهدة فيلم ''المتآمر''، الذي أخرجه الممثل الكبير روبرت ريدفورد، والذي يعود لظروف اغتيال الرئيس أبراهام لنكولن يوم 14 أفريل ,1865 أي بعد أقل من أسبوع عن استلام الجنرال العجوز ''روبرت لي''، قائد قوات الجنوب، التي دخلت في حرب أهلية مع جيش الاتحاد. وقد تمّت عملية الاغتيال، بينما كان الرئيس لينكولن يتابع عرضا مسرحيا فضله على حضور حفل الانتصار. ونفّذ عملية الاغتيال، ممثل يدعى جون بوث، أراد الانتقام لأهله في الجنوب المنهزم، فأراد لينكولن قتيلا.ويعتقد كثير من النقاد السينمائيين، أن تناول قصة التآمر لاغتيال لينكولن، وطريقة محاكمة المتآمرين، يحقق أهدافا آنية متعلقة بخطورة تشكيل محاكم عسكرية لمحاكمة المشتبه فيهم بارتكاب أعمال إرهابية. وحرصا على عدم التنازل على المبادئ التي تقوم عليها الديمقراطية الأمريكية. وعليه أخرج روبرت ريدفورد فيلم ''المتآمر''، بعد الانزلاق الذي حصل عقب أحداث سبتمبر 2001 حينما أخذ النظام القضائي الأمريكي صبغة عسكرية، مسّ القيم الديمقراطية في الصميم.
يحدث أثناء الفيلم، وأن يقول وزير الحربية آنذاك ''علينا أن نحاكم المتهمين، حتى وإن كانوا أبرياء من أجل تحقيق السلام وضمان نهاية الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب''. لكن ذوي البصيرة الثاقبة يثيرون انتباهه لمسألة مهمّة، وهي أن الحفاظ على مبادئ الدستور الأمريكي التي تضمن محاكمة عادلة للمتهمين في محكمة مدنية وليس عسكرية، هي الأهم من السلم ونهاية الحرب. ورغم ذلك جرت محاكمة عسكرية للمتهمين، فحكم عليهم بالإعدام، استجابة لنوايا أطراف سياسية تآمرت على الدستور، فيدخلنا الفيلم داخل مؤامرة أخرى، بالموازاة مع مؤامرة اغتيال الرئيس لينكولن، وهي اغتيال روح الدستور الأمريكي، ومحاولة الاعتداء على ميكانيزمات الديمقراطية. لقد وقع المتآمرين ضحية خرق دستوري، فتم إعدامهم شنقا، رغم أن واحدة من هؤلاء وهي ''ماري ستيوارت'' كانت بريئة فعلا، وظلت تصرخ عاليا أنها لم تشارك في التآمر، لكن عمى المحاكمة العسكرية أوصلها إلى حبل المشنقة، فلحق بها الظلم الصارخ.
هناك مقولة تركها الفيلسوف الروماني شيشرون، وهي ''في زمن الحرب يصمت القانون''، هذا ما أراده زعماء الاتحاد الأمريكي عقب الحرب الأهلية، وهم في نشوة الانتصار على الجنوب، وهذا ما يرفضه روبرت ريدفورد الذي أعاد إلى أذهان الشعب الأمريكي أراء السيناتور ''ريفردي جونسون'' في الفيلم، بالأخص لما يصرح أن ''بقاء القانون حتى في زمن الحرب، هو الأهم''، وهي الخصلة الأمريكية التي تقدمها السينما الملتزمة، التي تعود إلى التاريخ من أجل تجسيد القيم الديمقراطية والمبادئ التي يقوم عليها الدستور الأمريكي، فالذاكرة حينما يتم الرجوع إليها بنفس الروح النقدية وبنفس الرغبة في التحرر من شياطين الحاضر، نجدها قادرة على إنارة دروب الشعوب، وحملها على السير في الاتجاه الصحيح.
والشيء الذي يثير الإعجاب في الثقافة الأمريكية اليوم، أن الفن موجود ها هنا لفضح تجاوزات السياسة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 15/12/2011
مضاف من طرف : sofiane
صاحب المقال : حميد عبد القادر
المصدر : www.elkhabar.com