الجزائر

المسرح كما اكتشفته بعد مسلسل ''دالاس''



دخلت المسرح لأول مرة في حياتي سنة .1985 كنت حينها طالبا في الثانوية. ويعود الفضل في ذلك لأستاذ اللغة الفرنسية ''م. ب''، جاء إلى العاصمة قادما من مدينة بوسعادة في السبعينيات، واستقر بها، وعمل كأستاذ للفرنسية. كان أستاذا من نوع نادر، له قدرة تحويل درس الفرنسية إلى منهل للثقافة العامة، فهو أول من حدثنا عن نظرية السيد والعبد عند هيغل.اكتشفت مع الأستاذ ''م. ب''، الفكر الإنساني في بعده الماركسي، لكنني لم أتأثر به، فقد حملت في داخلي بوادر ليبرالية منذ الصغر. وكنت توّاقا للحرية والحداثة كما وُضعت أسسها في أمريكا.
هذه الثقافة الليبرالية التي انتشرت في مرحلة الثمانينيات عقب الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس بن جديد إلى الولايات المتحدة الأمريكية، جعلتنا نبتعد عن الماركسية. وكان معارضو الرئيس بن جديد آنذاك، يروّجون لفكرة أن الرئيس عاد من واشنطن ومعه مسلسل ''دالاس'' الشهير كهدية من الرئيس الأمريكي. والحقيقة أن تلفزيون ''سي بي آس'' الذي أنتج الفيلم، قام ببيعه للتلفزيون الجزائري بقيمة مالية أقل بأربعين مرة مقارنة بالقيمة المالية التي دفعتها قناة ''تي آف ''1 الفرنسية.
والمهم أن الجزائريين كانوا أول من شاهد ''دالاس''، بعد الأمريكيين طبعا. وقد أرسى المسلسل طباعا ليبرالية جديدة في المجتمع الجزائري، منها الفردانية والرغبة في تحقيق الحلم الأمريكي، وكل مزايا مجتمع الاستهلاك، والابتعاد عن الأفكار اليسارية التي انتشرت في عهد الرئيس بومدين.
أخذنا ''م ب'' إلى المسرح الوطني الجزائري إذن، لمشاهدة مسرحية ''الأجواد'' للمرحوم عبدالقادر علولة. وكانت دهشتي كبيرة وأنا أدخل بهو المسرح الوطني لأول مرة، في ذلك اليوم الممطر من العام 1985، وفي يدي تذكرة اشتريتها بخمسة وعشرين دينارا. أخبرني الأستاذ ''م. ب'' أن علولة مسرحي كبير، والناس مستعدون لشراء تذكرة الدخول بدفع ضعف الثمن أو أكثر، فزاد فخري وأنا أدخل المسرح لأول مرة في حياتي. أحسست أن المسرح ليس مثل السينما، فالناس الذين جاؤوا لمشاهدة ''الأجواد''، كانوا يختلفون كثيرا عن رواد قاعات السينما التي كانت تعرض أفلاما أمريكية يرفضها المثقفون اليساريون وينعتونها بالإمبريالية، فتجدهم يرتادون قاعة ''السينماتيك'' التي بقيت وفية للعهد اليساري، وكانت تعرض أفلاما ملتزمة من الاتحاد السوفييتي وكوبا أو أفلام أمريكية مناهضة للمؤسسة الرسمية، على غرار أفلام ''صام بيكينبا'' و''مارتن ريت''.
امتلأت قاعة العرض عن آخرها، بما في ذلك الشرفات الثلاثة. وكان رد فعل الجمهور مع العرض محموما إلى درجة الهستيريا، ففي كل مرة يردد ''جلول الفهايمي'' (سيراط بومدين) خطابا سياسيا، قريبا من بريخت (العالم قابل للتغيير)، تهتز مشاعرهم، فتراهم يصفقون طويلا، وقد نهضوا من على مقاعدهم، ليحوّلوا قاعة العرض إلى فضاء للاستنكار السياسي. ويقومون بنفس الفعل حتى لما يقوم جلول الفهايمي بجلد ذاته، وتوجيه نقد لاذع لنفسه، ويحثها على رد الفعل لاستنكار تصرفات مسؤولي البلدية.
وبعد مرور بضع سنوات، تشكلت أحزاب سياسية توجه نفس الانتقادات للسلطة. وأتذكر أنني حاورت المدير الأسبق للمسرح الوطني الجزائري، سيد أحمد أفومي، سنة 1991، وسألته إن لم يكن يخشى أن يحجم الجمهور عن المجيء للمسرح، بعد ظهور الأحزاب السياسية التي أصبحت تقدم خطابا نقديا، كما كان يفعل المسرح، فقال لي ''صحيح، ليس بإمكاني أن أرقى لمستوى النقد الذي تقدمه مناضلة مثل لويزة حنون''.
لقد كان المسرح الجزائري أسير الخطاب السياسي، فانتهى دوره مع ظهور الأحزاب السياسية، وهو ما دفع علولة إلى تغيير نظرته للمسرح. اكتشف أنه بالغ في الخطاب السياسي، فتخلى عنه بعد أكتوبر 1988، وأصبح من أنصار مسرح مختلف يخاطب الإنسان ويشتغل على الجماليات والإبداع. لقد تمرد على القالب الأرسطي، وأصبح من أنصار مسرح ''الكوميديا ديل أرتي''، وبذلك انتهى عهد المسرح الذي يحمل خطابا سياسيا مباشرا. لكن الذي حدث أنني شاهدت مسرحية ''أرلوكان خادم السيدين'' مع نفر قليل . ومؤخرا شاهدت مسرحية ''في انتظار غودو''، مقتبسة إلى الأمازيغية، ولم يكن في قاعة العرض بالمسرح الوطني محيي الدين بشطارزي سوى عشرين شخصا.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)