تعتبر اللغة العربية من أغنى اللغات وأعرقها، بما تزخر به من مفردات وتراكيب نحوية، إضافة إلى حمولتها الدينية، والثقافية، وكذا الحضارية الضاربة في جذور التاريخ. وبالنظر إلى انتمائهم الحضاري، كان طبيعيا أن يلجأ الأدباء الجزائريون إلى هذه اللّغة، ليبدعوا بها ويتميّزوا في ذلك. وبالنظر أيضا إلى تاريخ الجزائر المعاصر وتجربته مع الاستعمار الاستيطاني، فإنّ الإبداع باللغة العربية ليس فقط إثبات حضور، بل صراعا من أجل البقاء.لعبت اللغة العربية، باعتبارها لغة غنية ومتعدّدة الاستخدامات، دورًا مهمًّا في تشكيل المشهد الأدبي في الجزائر. وليست اللّغة العربية وسيلة للتعبير الثقافي فحسب، بل حاضنة هامة للأعمال الأدبية، إذ تشير منظمة اليونسكو إلى أنّ المتحدّثين باللّغة العربية يقارب 450 مليون شخص، فيما تحتلّ العربية المرتبة الرابعة من حيث الاستخدام على الأنترنت، بمعدل نموّ فاق 9 بالمائة ما بين 2000 و2021، وفقا لموقع "إنترنت وورلد ستاتس"، دون أن ننسى أنّها إحدى اللغات الرسمية بمنظمة الأمم المتحدة.
هذه المعطيات، وأخرى، توفّر فضاءً تمكينيا هاما للكتاب الجزائريين باللّغة العربية، ليس فقط بدافع الانتماء الثقافي والحضاري، أو حتى الديني، بل باعتبار الفرص التي يمكن أن توفّرها اللغة العربية من حيث الانتشار.
ولكنّ الوضع ليس مشرقا دائما.. مثلا، يقرأ الطفل العربي 7 دقائق سنويا، بينما يقرأ الطفل الأمريكي، على سبيل المقارنة، 6 دقائق يوميا، وفق تقرير صادر عن اليونسكو. وتشير المنظمة إلى أنّ معدل ما يقرأه الفرد في المنطقة العربية سنويا هو ربع صفحة فقط، فيما أفاد تقرير لمؤسسة الفكر العربي بأنّ متوسّط قراءة الفرد الأوروبي يبلغ نحو 200 ساعة سنويا، بينما لا يتعدى متوسط قراءة المواطن العربي 6 دقائق سنويا. فيما يصدر العالم العربي كتابين مقابل كلّ 100 كتاب يصدر في أوروبا، وينشر العالم العربي 1650 كتابا سنويا، في وقت تنشر فيه الولايات المتحدة 85 ألف كتاب سنويا.
بالمقابل، تجدر الإشارة إلى أنّ هذه المعطيات نتاج وضع اقتصادي وسوسيوثقافي له ظروفه ومسبّباته التي لا ترتبط بالضرورة باللغة العربية، ولا بجودة الكتابة والإبداع.
تطوّر الرواية الجزائرية بالعربية
وفي دراسة نشرها سنة 2016، حاول الدكتور محمد فايد (المركز الجامعي تيسمسيلت) إحصاء عدد الروايات الجزائرية في الفترة ما بين 1970 و2010. وحسب هذه الدراسة، فقد بلغ عدد النصوص الروائية في الفترة من 1970 إلى 1989 ما يعادل 79 نصا، ومن 1990 إلى 2010 ما يعادل 143 نصا روائيا، ما مجموعه 222 رواية إلى غاية 2010.
وأضاف الباحث أنّ عدد كتاب الرواية باللغة العربية في الجزائر، في الفترة ما بين 1970 و1989، بلغ 41 روائيا، و75 روائيا في الفترة من 1990 إلى 2010، ليكون عددهم الإجمالي 100 روائي باللغة العربية.
ولاحظ الباحث أنّ هذه الأعداد تبين المنحى التصاعدي الذي تعرفه الرواية الجزائرية، وهي الملاحظة نفسها التي نستطيع إصدارها حول تطوّر عدد كتاب الرواية بالعربية في الجزائر. وخلص الباحث حينها إلى أنّ "هذا العدد يبشر بمزيد من التطوّر في الأدب الجزائري، خاصّة في ظلّ ظهور كتّاب جدد، واستمرار عدد لا بأس به منهم في الكتابة".
كما نال الإبداع الأدبي الجزائري باللغة العربية، رواية وشعرا ومسرحا، نصيبه من التتويجات والجوائز، التي قد لا يتسع المقال لذكرها جميعا. وعلى سبيل المثال، شهدت سنة 2017 تتويج ثلاثة أسماء جزائرية في نفس الجائزة وفي نفس الدورة (جوائز كتارا للرواية العربية في دورتها الثالثة). حيث فاز الروائي سعيد خطيبي حينذاك بجائزة الرواية العربية لكتارا عن روايته "أربعون عاما في انتظار إيزابيل"، فيما توّج الروائي عبد الوهاب عيساوي في صنف الروايات غير المنشورة برواية "سفر الأعمال المنسية". أما الأديب والأكاديمي بشير ضيف الله فنال الجائزة في دراسة نقد الرواية.
على صعيد آخر، إذا كان الكاتب الجزائري يواجه صعوبات في العملية الإبداعية، فإنّ "الكاتبة" قد تواجه ضعف تلك الصعوبات، باعتبار أنّ عليها الإقناع إلى جانب الإبداع.
يقول د.محمد فايد إنّه رغم كون رواية "غادة أم القرى" لرضا حوحو الصادرة سنة 1947 كانت أول رواية جزائرية، فإنّ المرأة لم تقتحم كتابة الرواية إلا بعد أزيد من ثلاثين سنة، أيّ أواخر سبعينيات القرن الماضي حسب معظم الدراسات التي قاربت نشأة الرواية بالجزائر، وقد أقرّ أحمد دوغان في كتابه "الصوت النسائي في الأدب النسائي الجزائري المعاصر" تأخّر ظهور الأدب النسائي الجزائري مقارنة مع الدول العربية واعتبر أنّ "الرواية ظلّت غائبة حتى سنة 1979 لتطلّ علينا (يوميات من مدرسة حرّة) وكان هناك مشروع رواية في أدب الراحلة زليخة السعودي لكنّ رحيلها حال دون ذلك"، وظلّت المحاولات شحيحة حتى الألفية الثالثة ليكون ما أصدرته النساء إلى حدود سنة 2010 بالكاد 47 عملا روائيا، منها أزيد من 40 رواية في العقد الأول من هذه الألفية.
وترى الباحثة خديجة بوخشة (المركز الجامعي غليزان) بأنّ البداية الفعلية للرواية الجزائرية باللغة العربية كانت مع مطلع السبعينيات على يد مجموعة من "الرجال" الرواد مثل الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة ورشيد بوجدرة، وبرغم ظهور عدد من الكاتبات الجزائريات، مثل زليخة السعودي، وزهور ونيسي، وجميلة زنير، فلم ينظر إليهنّ أحد إلا من باب التشجيع، وقد رحلت الروائية زوليخة السعودي باكراً (1943-1972)، ولم يُكتب لها إثبات وجودها الأدبي فيما بعد.
وما يزال النصّ الروائي النسائي الجزائري المكتوب بالعربي، حسب د.فايد، في مراحل تطوّره الأولى قليلا من حيث تراكمه الكمي، رغم تواتر نصوصه في العقدين الماضيين، ذلك أنّه مقارنة بجملة ما صدر من نصوص روائية جزائرية ما يزال في ذيل الترتيب بحوالي الثلاثين نصا روائيا من ما مجموعه (أكثر من 222 رواية) صدرت في الفترة ما بين 1970 و2015، والطرح نفسه يصلح لوصف عدد كتاب الرواية، حيث لا يتجاوز عدد الروائيات اللائي يعبّرن باللغة العربية في الجزائر (20) كاتبة إلا بقليل، من ما مجموعه (أكثر من مائة كاتب روائي) خلال الفترة المعلن عنها سابقا.
الخصوصية الجزائرية
من جهة أخرى، وفي إطار التنوّع الثقافي الذي تزخر به الجزائر، وجبت الإشارة إلى أنّ الإبداع الأدبي الجزائري ليس حكرا على لغة واحدة مهيمنة، حيث نجد كتابا بالعربية، وآخرين بالفرنسية، بل وكتابا باللغتين معا، دون أن ننسى وجود من يكتب باللغة الأمازيغية، وبلغات عالمية كالإنجليزية والإسبانية وغيرهما. لذلك، فإنّنا، إذ نتحدّث عن ترجمة الرواية الجزائرية من وإلى العربية، فإنّنا لا نشير بالضرورة إلى الوصول "للآخر"، بل قد يكون المستهدف هو القارئ الجزائري بحدّ ذاته. ولفهم هذه "الخصوصية"، وجب العودة إلى ميلاد الرواية الجزائرية، وما أحاط بها من ظروف على رأسها الاستعمار الاستيطاني.
وفي هذا الصدد، يرى الباحث والناقد بغداد أحمد بلية (جامعة سعيدة) أنّ أهم مشكلة يعاني منها الأدب الجزائري الحديث وبخاصة الرواية منه هي الترجمة، فإذا كانت الظروف السياسية التاريخية مانعا في ترجمة الإبداعات الأدبية إلى اللغة العربية في عهد الاستعمار، فإنّ مرحلة ما بعد الاستقلال كانت مليئة بتباشير التغيير والارتقاء. بيد أنّ الحركة الأدبية أخذت منحى جديدا، ركيزته الفصل بين الكتابة باللغة الفرنسية والكتابة باللغة العربية، وبهذا سار الإبداع في مسارين مختلفين، الأول ينهل من الآداب الفرنسية وينسج على منوالها، ويحاول إثبات تميّزه بالمضامين ولكن يبقى أبدا حبيس اللغة الفرنسية (وبالتالي حبيس الانتماء حسب قول الباحث)، أما الثاني فيحاول الإسهام بطريقته الخاصة في تطوّر الرواية العربية.
وكان من الممكن جدّا الاستفادة من الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية لتطوير الرواية المكتوبة بالعربية، يضيف بغداد أحمد بلية، وذلك بترجمة إبداعات الروائيين الرواد أمثال مولود فرعون ومحمد ديب ومولود معمري ومالك حداد وآسيا جبار إلى اللغة العربية، وانتشار النسخ العربية عند شرائح القراء بطريقة تمكّنهم من الاطلاع عليها بصفة دائمة بإعادة النشر كلّما ازداد الطلب عليها.
ويختلف الوضع باختلاف الجنس الأدبي حسب الباحث، فإذا كانت الروايات الجزائرية الأولى لم تبلغ درجة فنية من السرد القصصي، وهذا لاعتمادها على تقليد الروايات الكولونيالية من جهة، ولكون الرواية كانت فنّا قصصيا جديدا على الأديب الجزائري، بل العربي عموما، وبما أنّ الجزائري لم يتمكن من الاطلاع على النماذج العربية في فنّ الرواية، فقد كان لزاما عليه التقليد، وهذه حتمية أدبية، يقول الباحث، في حين تمكن الشاعر الجزائري بسهولة أن يبدع في فنّ الشعر لعراقته، فبالرغم من مضايقات المستعمر إلا أنّ الشاعر وجد ركيزة أدبية اتكأ عليها، فكان تقليد القدامى أولا ثم بدأ التجديد في الأشكال التعبيرية الشعرية، أما الرواية فلا يمكن لمبدعها أن ينطلق من العدم.
اللغة العربية.. أصالة ومعاصرة
كما سبق القول، تتمتّع اللغة العربية بأهمية ثقافية هائلة بالنسبة للأدب الجزائري، فهي بمثابة بوابة إلى التراث اللغوي للبلاد وجذورها التاريخية، ويمتلك الروائيون الجزائريون فرصة الاستفادة من هذا التراث التاريخي الغنيّ ودمجه في أعمالهم الأدبية. ويمكن لهؤلاء الروائيين إنشاء رواية أكثر أصالة، والتواصل مع القراء على مستوى أعمق، بإنتاج أعمال تبرز هويّة الأمة وتسهم في الأدب العالمي.
والعربية لغة منتشرة على نطاق واسع، ما يوفّر للروائيين الجزائريين الفرصة لاستكشاف وفهم السياق الثقافي الأوسع الذي يعيشون فيه. ومن خلال كفاءتهم اللغوية، يستطيع هؤلاء الروائيون التعامل مع أعمال الكتاب والشعراء والفلاسفة العرب المشهورين، وبالتالي توسيع آفاقهم الأدبية. كما أنّ دمج التأثيرات الأدبية المتنوّعة يسهل تصويرًا أكثر دقة للمجتمع الجزائري، ما يمكّن الجمهور العالمي من فهم وتقدير الديناميكيات المعقّدة لثقافة البلاد وتاريخها وتحدّياتها المعاصرة.
ومن السمات البارزة للّغة العربية تركيبها النحوي المعقّد ومفرداتها الواسعة. ويتيح ذلك فرصة تجربة المرونة اللّغوية، وخلق أساليب سردية فريدة تتحدى أساليب السرد القصصي التقليدية. ومن خلال الاستخدام الذكي لميزات اللغة العربية، يستطيع الروائي تجاوز المعاني الحرفية وإدخال تمثيلات رمزية في أعماله.
وفي الختام، يمكن القول إنّ اللّغة العربية لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل النمو الفكري والفهم لدى الروائيين الجزائريين، من إتقان التراث اللّغوي، إلى استكشاف الروابط بين الثقافات، وتجربة الرمزية، ومعالجة الحقائق الاجتماعية والسياسية، وأدّت الفرص التي توفّرها اللّغة العربية إلى إثراء المشهد الأدبي في الجزائر بشكل كبير. ومن خلال أعمالهم، لم يعرض هؤلاء المبدعون براعتهم الإبداعية فحسب، بل عزّزوا أيضا فهما أعمق وتقديرا ثقافيا للسرد الجزائري على المنصّة العالمية.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 15/12/2023
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : أسامة إفراح
المصدر : www.ech-chaab.net