الجزائر

الكتابة الثورية لدى الشباب



الكتابة الثورية لدى الشباب
نفتح هذا الأسبوع موضوعاً يتناسب والذكرى الـ57 لاندلاع ثورة أول نوفمبر.. لنحاول كشف بعض الأغطية الإبداعية.. على أن نترك الأغطية الأرشيفية للخمسينية التي ستحتفل بها الدولة على مقاس مسلسلات التظاهرات الثقافية الكبرى، لكن هذه المرة ستكون الميزانية بين وزارتين.. وزارة المجاهدين ستدخل المعترك.. ولنا أن نبرمج صراعات مرتقبة كما كانت هذه السنة مع وزارة الشؤون الدينية بين البطلة الخالدة في كل مسلسلاتنا الثقافية.لنترك هذا جانبا.. ونعود إلى ملفنا المرتبط بالثورة والشباب.. ولنجري هذا الحوار الخيالي البسيط مع مبدع ما..ما هو موضوع أول قصيدة كتبتها؟المبدع: أول قصيدة كتبتها كانت عن فلسطين.وكيف كانت قناعاتك وقتئذ؟المبدع: كنت أتخيل أن الشعر أو الأدب عموما هو الكتابة عن القضايا الكبرى.. هو الدفاع المستميت.. هو النضال العنيد.بين قصيدتك الأولى وقصيدتك الأخيرة.. ما الذي تغير في قناعاتك؟المبدع: لا توجد قضية على الإطلاق.. كنت أتمنى أن أقول لك أنني أنا القضية، لكن لا قضية على الإطلاق..قراء "الفجر الثقافي".. في ملفنا هذا الأسبوع هذا هو الإسقاط..سمية محنش: "المبدع ابن عصره.. يتجاوب مع مختلف الأوضاع في بلاده والعالم"مما لا شك فيه أن القضية لا تنحصر في مفهوم واحد لدى المبدع، إذ تتعدد القضايا لديه، حتى يكاد يتخذ من كل موضوع قضية يرافع بها أمام العالم بما منحه إياه إبداعه...فالحب قضية سامية يشترك فيها أغلب مبدعي العالم تماما كالأرض التي ينتمي إليها المبدعون والتي يغالون في التعبير عن حبهم لها وتمجيدها، وليس أصدق من قول الشاعر: قلِّب فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحبُّ إلا للحبيب الأوَّلِ ـــــ كم منزلٌ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأوَّل منزل... أما إن كان مفهوم القضية الذي نحن بصدد الحديث عنه هو الوطن بمفهومه الواسع وما يكابده في سبيل تحرر أو مضي نحو آفاق الرقي، أو غير ذلك من امتحانات الوجود، فلا شك أيضا أن هذه القضية تحتل مكانا واسعا في الإبداع، كتعبير للانتماء القومي وحتى الإنساني..بالنسبة لي، ارتبط أول نص كتبته في حياتي تحديدا بهذا الموضوع، حينما كنت أدرس في الطور الابتدائي، وكانت مناسبته حرب البوسنة والهرسك، وما تلاه من إغراق التلفزيون الجزائري آنذاك في التجاوب مع هذه الحرب..وما أذكره من ذلك النص: حرام عليكم قتل نفس بريئة، نفوس ودماء وأرواح بريئة... الخ الخ، فالمبدع ابن عصره.. يتجاوب مع مختلف الأوضاع في بلاده والعالم.وهو ما يتأكد باستمرار من خلال أعمال المبدعين..فائزة مصطفى: "كلنا سقطنا في إرهاصات ثورة نوفمبر"لا نكاد نجد نصا أدبيا جزائريا لم يتناول موضوع الثورة الجزائرية، فقد كانت الحاضرة الأولى في جميع الإنتاجات الإبداعية منذ خمسينيات القرن الماضي، وتستمر حتى بعد خمسين سنة من نيل الاستقلال، فحتما هناك تغير في الرؤية وزوايا تناولها، فبالتأكيد الكتاب الشباب سيسقطون الكثير من واقعهم وإرهاصاته في كتاباتهم الأدبية إن تناولوا موضوع الثورة التي طالما ينظر إليها كإنجاز إنساني لن يتكرر حدوثه في العالم إلا نادرا، لكن ما يمكن لمسه هو ابتعاد الجيل الجديد عما أطلق عليها بظاهرة المتاجرة بالشرعية الثورية التي اتهم بها بعض الأدباء الجزائريين الذين هلموا جميعهم للكتابة عن نوفمبر، موظفين في أسلوبهم الكثير من القدسية وهالة تشبه الأسطورة عن ثورة فاقت كل الخيال، بينما ظهر في السنوات الأخيرة منحى آخر في كتابات الشباب، فتحولت الثورة من موضوع رئيسي إلى موضوع هامشي داخل النص الروائي، ولكن الكثير منهم التجأ لتوجيه نقد لبعض ما حدث إبان الثورة، كاشفين الكثير من أسرارها وأخطاء قادتها، معبرين عن انتكاسة تحقيق أحلام الشهداء، ومفارقات الجيل الجديد في تعامله مع ماضي بلاده الاستعماري، مع تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية نحو الضفة الأخرى للبحر المتوسط الذي كان بالأمس يتصدى للغزاة القادمين من هناك، وكذلك إشكالية الهوية في أوروبا، وتنامي حركة الأقدام السوداء الذين يرغبون في تفقد أرض مولدهم، وقضية أبناء الحركى وغيرها من المواضيع التي تطرح إشكاليات يحاول الجيل الجديد الإجابة عنها ومناقشتها، وهذا ما يذهب إليه الأدباء الجزائريون خاصة الذين يقيمون في المهجر وفرنسا تحديدا، الكتابة عنها، سعيا منهم لإيجاد حل لصراع الأجيال الجديدة التي تطمح لوضع حد للحقد التاريخي بين فرنسا والجزائر، واضعين بلسما لجرح الذاكرة، هذا الجرح الذي يثـري إلهام الأدباء الجزائريين، مثلما يمثل مادة دسمة للمؤرخين الفرنسيين خاصة.بالنسبة لي كانت الثورة الجزائرية حاضرة بين أسطر العديد من القصص التي جمعتها في مجموعتي التي حملت عنوان "أزرق جارح"، ربما كان إسقاطا "لا وعييا" لإرهاصات هذا الجزء المهم من تاريخ وطني الذي طالما يشكل مصدر فخر لي، وما له من امتداد في نشر ثقافة المقاومة التي تستمد الكثير من الشعوب في العالم روحها في نضالاتها، لذلك كانت قصتي "لا" تضم تفاصيل لقائي الأول مع المجاهدة جميلة بوحيرد، التي كانت أيقونة لا مثيل لها في ذاكرتي، كذلك العودة إلى ساندوني، تطرقت فيها للماضي الاستعماري للمدينة التي كانت موضوع القصة، كذلك يحضر موضوع الثورة الجزائرية بشكل متوار بين أسطر كتاباتي، بل أجدني أعود دائما للموضوع دون رغبة مني، وتتملكني في كل مرة رغبة ملحة في الكتابة عنها.كذلك النص القصصي الطويل الذي كتبته مؤخرا اخترت له عنوان "ديار الشمس"، يعتبر النص الوحيد الذي تناولت فيه أحداثا من الثورة الجزائرية، من خلال استخدامي لتقنية فلاش باك بالعودة إلى نفس الشخوص ونفس الأمكنة بين زمنيين تفصل بينهما مسافة نصف قرن، متناولا التحول الرهيب بين المفاهيم والقيم والأحلام، حيث استحضرت فيها شخصية أحد الحركى وهو يعود إلى وطنه بعد خمسين عاما من المنفى ليبحث عن حفيد له، ليجد أنه قد توفي غرقا في هجرة غير شرعية رفقة الكثير من شباب مدينة بوسعادة، هذه المدينة التي اخترتها لعلاقتها بالفنان الفرنسي إتيان دينيه الذي ترك باريس ليقيم فيها ويختار الموت على أرضها.عبد العالي مزغيش: "معظم إبداعات الشباب انطلقت من مفهوم مغاير للثورة"ليس من الحتمي أن تمثل دوما قصيدة الثورة أولى كتابات الشاعر، خصوصا إذا كانت "الثورة" تعني هنا الثورة التحريرية المباركة التي شكّلت إلى وقت طويل "التيمة" البارزة في كتابات شعراء السبعينات والثمانينات أيضا، فالكثير من شعرائنا الشباب وأقصد هنا جيل أحداث الخامس أكتوبر 1988 انطلقت نصوصهم الأولى من مفهوم مغاير للثورة، التي اتخذت لنفسها موقعا في نصوص جيل التسعينات وما بعده من خلال "الثورة" على الواقع، على الذات، على الانتكاسة السياسية التي شهدتها الجزائر بعد أحداث أكتوبر الشهيرة،،، أن الثورة على الثورة التحريرية ومثلما ألهمت كتّابا في الرواية والقصة والتاريخ بين مؤيد ورافض، كانت قد انعكست على كتابات شباب التسعينات، غير أن الواضح أن نصوصهم تتقاطع في هذا "اليتم" والإحساس بالغربة والوحدة جراء كل محاولات قتل الأب التي قاموا بها... إذ شكّل الرفض والتمرد على الوصاية الشعرية عاملين ألقيا بظلالهما على القصائد الشعرية في تلك الفترة، ومثلما كانت ثورة نوفمبر في شعر السبعينات خطابا ايدولوجيا ومباشرا، شكلت نفس الثورة خطابا بعيدا عن الايدولوجيا مغرقا في الذاتية والبحث عن الذات في الوقت نفسه... لا يمكن أبدا فصل الكيان الشعري الحالي عمّا يعرفه المشهد الوطني من حراك سياسيا أو ثقافيا أو اجتماعيا، وان أغفلت كثير من النصوص مثل هذه العوامل فإن نصوصا أخرى تأثـرت بمناخ البلد السياسي والثقافي، وأدركت منذ الوهلة الأولى أن المهمة ملقاة على عاتق الشاعر/ المثقف للتعبير عما هو كائن على أن يظل ينشد الكتابة المبنية على المستقبل، التي لها أفق رحب وفضاءات تتسع لكل اختلافاتنا وآمالنا وهواجسنا كمجتمع يهدف إلى التغيير وينظر دائما إلى الشمس،،، هاجس الأدباء الشباب اليوم هو الثورة على واقع لم يشاركوا يوما ما في صنعه،،، وبقدر ما يعتزون بثورة الفاتح من نوفمبر بقدر ما يرفضون الوقوع في دائرة "تمجيد التاريخ" على حساب التطلع نحو غد أفضل،،، هذا من جهة، من جهة أخرى فإن شباب اليوم يختلف تماما عن شباب الأمس من حيث الهواجس والاهتمامات والبيئة المتطورة حاليا، فلا يمكن أن نجبر الشاعر الجزائري اليوم على العيش في الماضي بارتياح،،، إذ عليه أن يحيا مستقبله وإن عاد إلى الماضي فليكن بقلق أكثـر، القصيدة التي لا تطرح السؤال لا يمكنها أبدا أن تصل إلى إجابة، وثورة الفاتح نوفمبر وإن كانت دوما ثورة تحرير من عبودية الاستعمار الفرنسي التي حاول أن يفرضها على الشعب الجزائري، فلابدّ أن لا نغفل دورها في تحرير العقل الجزائري والوجدان كذلك، ولا يمكن إلا أن نعتبر الثورة على ما هو سائد ونمطية واحدة من أهدافها التي جاءت من أجلها.... إنها الثورة الفكرية والثقافية التي نحن بحاجة إليها اليوم،،، وعلى السياسي و"الثوري" المسيّس"، أن يفسح المجال لشبابنا لتحقيق ثورتهم الفكرية، ما دامت تكملة لمبادئ الثورة التحريرية المباركة.شخصيا أنظر إلى نصوصي على أنها وليدة هذه الرغبة في الانعتاق من "الأسر" الذي فرضته وصاية الغير، هذا الغير الذي أشترك معه في حب الوطن، مثلما عليّ أن أحترم دوره في السابق عليه أن يحترم دوري الذي حان لخدمة البلد.... أكتب حين أحس برغبة في البوح عما يعتمل في داخلي من أحاسيس تتماشى مع قناعاتي، ولا أكتب تحت الطلب، ودوما تظل المسافة بين نصي وبين ما هو سائد من توجهات وأفكار في المشهد الأدبي أو السياسي في بلادنا،،، تتسع وتضيق بقدر هذه القناعات التي أومن بها وأدافع عنها.عقيلة رابحي: "ثورة نوفمبر.. صنعت أفضل الأعمال الإبداعية"لقد شكلت ثورة نوفمبر المظفرة محطة أساسية لصناعة شخوص روائية وأحد أهم أسباب نجاح الكثير من الأعمال الروائية الجزائرية، باعتبارها من أعظم الثورات التي شكلت نبراسا لكل الشعوب التي ذاقت ويلات الا ستعمارومثلا يحتذى به في مقاومة الظلم والعدوان.وبرزت العديد من الأعمال التي اهتمت بإبراز صورة المجتمع الجزائري بعد الاستقلال والظروف التي عايشه، خاصة في السنوات الأولى من الاستقلال ومرحلة الثورة الزراعية، على غرار رواية ريح الجنوب للروائي عبد الحميد بن هدوڤة. كما شكلت الثورة الموضوع المركزي في معظم أعمال الروائي الطاهر وطار. ومن ذلك رواية اللاز التي تناولت علاقة الشيوعيين بتاريخ التحرر الوطني. وقصته "الشهداء يعودون هذا الأسبوع حيث كانت لوطار وجهات نظر في ثورة نوفمبر وما أعقبها من أحداث.واستطاعت الروائية أحلام مستغانمي أن توظف بذكاء موضوع الثورة في روايتها الشهيرة ذاكرة الجسد، حيث أن بطل الرواية خالد بن طوبال الذي فقد ذراعه في حرب التحرير وكان صديق والدها المجاهد، وكان لتوظيف موضوع الثورة بالإضافة إلى الطريقة الفنية المتميزة التي كتبت بها هذه الرواية الأثـر في نجاحها ورواجها على المستوى العربي، كما تمكنت الأديبة زهور ونيسي عبر رواياتها أن تقدم صورة مشرقة عن المرأة الثورية والمناضلة التي انخرطت في صفوف الثورة لتعمل مع المجاهدين.لا يمكننا أن نقول أن علاقة الجيل الجديد بالثورة هي علاقة ضبابية، بالعكس هي علاقة متواصلة ومتجددة قائمة على البحث المستمر والتساؤل حول النقاط التي ما تزال غامضة في تاريخنا، وإذا ما تصفحنا الأعمال الروائية للجيل الجديد من الكتاب، نجد أن موضوع الثورة مازال حاضرا بقوة في المخيال الروائي الجزائري، فالعديد من الأدباء الذين ولدوا بعد الثورة ولم يعايشوا تفاصيلها جعلوها المحور الرئيسي في رواياتهم، ما يؤكد أن علاقة هذا الجيل مع الثورة ما زالت متواصلة، وبالنسبة لي قرأت العديد من الروايات التي كتبها روائيون تفصلهم مرحلة زمنية طويلة عن أحداث ووقائع الثورة، غير أنهم نجحوا في نقل صورة مشرقة من التاريخ النضالي للجزائريين. ومن هؤلاء، الروائية ياسمينة صالح التي أبدعت في رواية "بحر الصمت" والروائية شهرزاد عبير التي فاجأتنا بـ"مفترق العصور"، وحتى الدواوين الشعرية للشعراء الشباب لا تخلو من القصائد التي تتناول موضوع الثورة. وأشير إلى أننا في "منتدى الإبداع الأدبي" ننظم في 5 جويلية من كل سنة ملتقى "جيل الاستقلال يغني للحب والسلام  والذي يشهد مشاركة كبيرة لشعراء من مختلف الوطن يقرأون قصائد تتغنى ببطولة ونضال الشعب الجزائري وثورة نوفمبر الخالدة، ما يؤكد تمسك هذا الجيل بثورته ووطنيته.أمينة شيخ: "كل الكتابات سارت  في اتجاه الثورة"لم أكتب عن الثورة أو عن قضية معينة كالقضية الفلسطينية أو غيرها، غير أن رواية "أسفل الحب" التي صدرت في 2008 هي أول رواية وكتابة لي تتناول هذا الشكل من الكتابة الثورية، حيث تحدثت عن سنوات الإرهاب والعنف التسعيني وجزائر الموت، فكان التناول والطرح لهذه الأزمة التي مرت بها الجزائر في فترة التسعينيات من القرن الماضي، وكل ما كتب في فصول هذه الرواية له علاقة بالمجتمع الجزائري لأنها تتناول جانبا مؤلما مما عاشه الشعب الجزائري على جميع الأصعدة في تلك الفترة من الزمن بشيء من النوستالجية لشباب يبحث عن الحياة والسلم.وكتبت في فترة أين كان العديد من الكتاب الجزائريين وقتها يكتبون عن الفترة العصيبة التي مرت بها البلاد، وهناك من أطلق عليه تسمية "الأدب الاستعجالي" لأنه لم يأخذ وقتا كافيا لكتابتها، ولكن في الفترة الحالية نرى بأن معظم الاتجاهات الأدبية تسير في اتجاه الثورات العربية داخل الوطن العربي. حقيقة لم أكتب عن هذه الثورات لأنني لا أعتقد بأنه من الممكن أن نكتب عن هذه الثورات، وبكل بساطة فإن نتائجها ليست واضحة وأسبابها لازالت غامضة وفيها الكثير من اللبس، وهناك من يرى بأنها ثورات شعبية حقيقية ضد الأنظمة الحاكمة، ويرى البعض الآخر بأنها ثورات مفتعلة من طرف الغرب حتى يحصل على ما يريد وينعم من خيرات العرب، وكمثال على ذلك أن سقوط القذافي ومقتله نتج عنه سريعا تقرير عن قيمة الأضرار التي حدثت في ليبيا، ونفس الشيء في العراق، والمستفيد الوحيد هو الغرب والمجتمع الغربي.الأمين سعيدي: "كتابة الحدث..   سلطة التأريخيّ على الأدبيّ"الكتابة عن الثورة أيُّ ثورة تدخلُ في إطار ما يسميه النقاد بـ:"كتابة الحدث"، وهي على ما تعطيه من أفكارٍ تروم التأريخَ للحدث ونقل الواقع، ومواكبة ما يجري مراقبةً وتسجيلا ببصر حديد. ومن ثمة فهي تجانب بداية جوهر الإبداع متمثلا في الحفر عميقا في الظواهر والمخفيات بغرض إظهار المعاني الإنسانية الأكثـر رسوخا واستمرارية. فالإلياذة مثلا برغم كثـرة الأحداث التي ترويها، إلا أنها انتصرتْ للسؤال المضمر على رغم طغيان الإخبار الظاهر، وجعلتْ نهاية "آخيل" بداية سؤال الموت والخلود، وغيَّرتْ في مفاهيم القوة والضعف، وجعلتْ من لا ترديه السيوف والرماح، يميته سهم صغير في كعبه كشف وهمَه بالخلود من حيث أكَّد حقيقته بالموت.كل هذه التساؤلات التي تبحث عميقا في الحياة والموت والبقاء والخلود، تفتقر إليها أغلب الكتابات التي تجعلُ موضوعها الحدث الكائن لا الرؤيا الممكنة. ولهذا نادرا ما نجدُ أدبا كبيرا يثمر بهكذا كتابة، ولئن تفوقتْ أسماءٌ قليلة عالميا في معالجة هذه الموضوعة، موضوعة الثورة، فذلك لأنها استطاعتْ أنْ تجعل فاصلا بين وقوع الحدث، وبين ما يترتب عنه من منظومة قيم. وكل كتابة تمجِّدُ الحدثَ كما يقول أدونيس تنتهي بانتهاء ذلك الحدث وزواله، وإذا قاومتْ النسيان فلن تذكر إلا تبعا لذكر ذاك الحدث. والأصلُ في الإبداعِ الحقيقي أنْ يذكر بذاته ولذاته، وأنْ يحقق كينونة وجوده من داخله، أي من نسقه، لا من خارج النص ومما يقتضيه السياق. ولعلَّ "الأدب الاستعجالي" الذي كُتبَ عندنا مواكبا لأحداث المرحلة السوداء دليل على أنَّ كلَّ كتابة تتخذُ الحدث موضوعا تفشل أدبيا في الغالب، وإذا حققتْ نجاحا ما فهو ذا طابعٍ تأريخيٍّ مرتبط بالكائن والمشاهَد، بينما الأصل أنْ يرتبط الأدب بالممكن وأنْ يتغيَّا البحث عن المغيَّب والمختفي، وبهذا فقط يكسر الرتابة ويحقق اختلافه الجمالي المنشود. إسماعيل يبرير: "الكتابة هي قضيتي"أتصور أن الكتابة في حد ذاتها قضيتي، من هذا الجانب فإني أعتقد أن بحثكم عن نص بمواصفات بعينها هو السعي نحو أدب ملتزم بقضية، أو الأدب الملتزم بشكل مطلق، أنا نأيت منذ البداية عن هذه التصنيفات، لأجل هذا فإن نصوصي الأولى كانت قضيتي الخاصة فيها أن أقبض من خلالها على لحظة فارقة تكون واصفة وشفافة لدواخلي.لاحقا كتبت نصوصا معبأة بالمواقف ووجهات النظر، عير أنها نصوص تنحاز للإبداعي والفني أكثـر منه للقضية، الآن أقرأ الكثير من النصوص التي كتبت عن الثورات وأتساءل: "هل تمكن كتابها من تأمل ذلك الحراك؟" على الأقل هل يقفون على مسافة كافية لتأمل الحفل الذي بدأ ولم ينته بعد؟أتصور أن نصوص الكثيرين كانت من أجل البروز وركوب الموجة واللحاق بصخب يسمى الربيع، ولا نعلم إن كان كلّ الفصول أو خريفا؟


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)