لم يكن الطريق إلى معتقل «دار بن يعقوب» سهلا على الشهيد بن فليس التهامي المدعو «سي بلقاسم»، فطريق باتنة - بسكرة في مارس 1957، ما زال يحتفظ بصيحات الشهيد تدوي في الأرجاء، جراء التعذيب والضرب والطعنات القاتلة. هذا جزء مما جاء في السيرة الذاتية للشهيد «سي بلقاسم» المنشور من قبل عائلة بن فليس التهامي، وتحت إشراف ابنه الصغير علي بن فليس رئيس الحكومة الأسبق.
يعد الكتاب، في نظر علي بن فليس الابن الأصغر للشهيد «سي بلقاسم» (1900 - 1957)، بمثابة البر والإحسان للوالدين، والاعتراف بجميلهما مهما بلغ الأبناء من مراتب ومستويات، ويقول علي في هذا الباب: «برك يوجب علي ذكر خلق الحياء الذي علمتنا أياه... كما أن برك يوجب عليّ تذكر خلق التواضع الذي حببتنا إليه...»، ويقول المشرف على الكتاب أن والده الشهيد، كان الرجل الذي علم أبنائه حب الوطن، التواضع وتقاسم الخيرات مع المحتاج: «وكم كنت تكره التخلف والتنطع، لقد أقنعتنا بأن الإسلام لا يمكن أن يكون إلا نورا وتقدما»، يضيف بن فليس الذي فضّل أن يشرح للقارئ الدوافع الذاتية والموضوعية لإصدار هذا الكتاب، في نسخته المجلدة عن دار «هومة» للطباعة والنشر والتوزيع. فالشهيد التهامي بن فليس، كما جاء في متن الكتاب، حي الطالع، لا يظهر بواطن فؤاده، لجبال الأوراس يد في صقل طباعه، قلب يسيل أنهار حنان بداخله، لا يبخل أولاده ولا عائلته ولا محيطه بذلك. وأكثر ما يحز في نفس علي بن فليس وعائلته كاملة: «ألا نعرف لك قبرا ولا لحدا، ولكم عانينا من شدة هذا الأمر منذ أن غبت عنا...».
إختار الشهيد التهامي بن فليس «التجارة المربحة»، التي ينشدها كل إنسان مقبل على آخرته بصدق وإيمان، قصته يسردها الكتاب في شكل شهادات حية عن رجل نذر حياته للجزائر، اسم بات في عداد الشهداء هو وابنه عمار المدعو «الطاهر». هما رجلان عاشا اللحظات الأخيرة قريبين جدا إلى بعضهما البعض، كلاهما بكى على ألم الآخر، الأب يرى بأم عينيه فلذة كبده تعذب وتنكل، والابن يصرخ لنجدة والده، قبل أن يلفظا أنفاسهما الأخيرة ويرمي بهما المستعمر الفرنسي في مكان مجهول لحد الساعة، دفنا فيه دون أخبار عائلتهما التي تبقى إلى هذه الساعة تجهل مكانهما. قصة إنسانية بالغة التأثير، ولكنها أيضا حكاية أسرة ومجتمع جزائري، أبرز علي بن فليس تقاسيمه في هذا الكتاب، من خلال الحديث عن المسار الديني والاجتماعي والسياسي للوالد الشهيد. فقد ولد التهامي بدوار أولاد شليح في 14 جوان 1900، تعلم القرآن الكريم وحفظه بكتاتيب القرية، لينتقل إلى سيدي عقبة لاستكمال معارفه. على إثر الحرب العالمية الأولى، جند الشاب التهامي في صفوف الفرنسيين عنوة، فأرسل إلى سوريا التي تعرف عليها وعلى مدنها كحلب واللاذيقية ودمشق. فتردد على مسجد الأمويين واستفاد من الدروس هناك. عند رجوعه للجزائر، درس بقسنطينة على يد العلامة عبد الحميد بن باديس سنة 1922. وككل رواد أقرانه آنذاك، شد رحاله إلى الزيتونة في 1924، مرحلة أثرت وعيه الوطني، وساهمت في احتكامه بالفاعلين في الميدان. في أواخر الثلاثينيات انضم إلى جمعية العلماء المسلمين، التي شكل إحدى فروعها النشيطة. كإسهامه في مدرسة الجمعية بباتنة 1737، ناهيك عن إنشائه مدرسة قرآنية بماله الخاص، كانت ملاذ الفقراء والمحتاجين الباحثين عن علم ينتفعون به.
من الناحية السياسية والحزبية، يذكر الكتاب، أن الشهيد التهامي انتسب إلى حزب البيان برئاسة فرحات عباس، وكان عضوا في المجلس البلدي لبلدية باتنة ممثلا للأهالي، وبعد إطلاق سراحه (إثر مشاركته في مسيرة 8 ماي 45) راح يؤسس ثالث مدرسة «النشء الجديد» شكلت قبلة العلماء والمفكرين وجبهة مواجهة للسياسة الفرنسية في تجهيل الشعب وطمس هويته.
على مدار 263 صفحة، يقلب علي بن فليس صفحات تاريخ والده الشهيد، الذي كان في 54 واحدا ممن زودوا المجاهدين بالسلاح والمال والغذاء والإيواء، إذ كانت ضيعته ب «فزديس» ملجأ للثوار. كما كان في اتصال مع المجاهد عبيدي محمد الطاهر، سي الطاهر النويشي، سي أحمد بوعزة، تحركات كلفته مضايقات، والسجن في السنوات الأولى للثورة. ثم الاختطاف في مارس 57، والتنكيل بأسرته إثر مداهمة ليلية أدارتها جماعة «اليد الحمراء»، التي عاودت الكرة، فحاولت اغتياله. وفي الصفحة 35 يذكر علي بن فليس الطريقة الانتقامية التي دبر فيها المستعمر الفرنسي، ساعة اعتقاله رقة ابنه عمار. وكيف اقتيد الرجلان إلى مكان مجهول للتخلص منهما ب «دار بن يعقوب»، وهي الحادثة التي رواها المجاهد محمد العربي دسي في كتابه «التلقين» 2002.
يكتسي المؤلف صفة المصداقية التاريخية، من خلال الشهادات الحية لعدد من الشخصيات المجاهدة والمناضلة، أدرجها بن فليس في طيات الكتاب، على غرار قراءة وافية كافية كتبها بوعلام بن حمودة، مجاهد ووزير، وأمين عام حزب جبهة التحرير الوطني السابق، تصدرت الكتاب. كما نجد شهادة المجاهدين والفدائيين: بوزيد بلقاسم (ضابط أول الاستعلامات بالمنطقة الثانية الولاية الأولى)، زعلاني محمد، سي محمد عبد القادر العوبي، الشيخ علي طيار. كما يؤرخ الكتاب للحركة العلمية والنضالية في ولاية باتنة، من خلال صور اصلية تروي سيرة أهم الخصيات، ومعالم الدينية بالولاية كالمدارس والمساجد.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 07/08/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : نبيلة سنجاق
المصدر : www.djazairnews.info