الجزائر

الكاتب والجنرال العجوز



 حين فاز فرانسوا مورياك Francois Mauriac بجائزة نوبل للآداب سنة 1952 اتصلت به جماعة من شباب اليسار الكاثـوليكي لتلفت نظره إلى ما كان يجري آنذاك من أحداث في المغرب الأقصى. فلم يترّدد الكاتب المشهور لحظة في دخول المعترك، وأدلى بتصريحات مدوّية مندّدة بنفي محمد الخامس إلى مدغشقر. هذا الموقف، الذي أثـار سخط وغضب الطبقة السياسية الفرنسية، وحتى جمع من أصدقائه المثـقفين، لم يكن في حقيقة الأمر مفاجئا، بل كان طبيعيا من رجل مجادل تعاطى السياسة منذ مراهقته، وإن ارتبطت السياسة عنده بمسحة كاثـوليكية مثـالية حالمة. وقوف مورياك إلى جانب الشعبين المغربي والتونسي أضاف إلى هالة جائزة نوبل، التي كانت تتوّجه، هالة أخرى هي لقب صديق المغاربة المناهض للاستعمار. فأصبح الرجل مقرّبا من ملك المغرب ومن الحبيب بورفيبة، وفي غمرة ذلك، نسي الجميع أن مورياك كان دائما يعتدّ بيمينيته وانتمائه إلى طائفة البورجوازيين على حد قوله. وسرعان ما أصبحت صفة الالتزام لصيقة به، خاصة وأنه كان يومئذ يكتب أسبوعيا في جريدة ''الفيغارو'' مقالات لاذعة في القضايا السياسية الساخنة التي تشغل بلده فرنسا والعالم. قلم مورياك السيّال والعنيف جعل البعض يشككك في أن الالتزام خاصيّة من خصائص اليسار والسارتريين. وكان للرجل في سيرته ما يدفع إلى الاعتقاد بذلك. فقد التحق بجهة القتال أثـناء الحرب العالمية الأولى، وشارك إلى جانب صديقه الكاتب المعروف جورج برنانوس في الدفاع عن الجمهورية أثـناء الحرب الأهلية الإسبانية سنة .1936 أثـناء احتلال الألمان لبلاده سنة 1943 دخل السرية، وألّف مذكرات مناهضة للنازية بعنوان ''الكرّاس الأسود''. غير أن موقف الكاتب من الثـورة الجزائرية كان متذبذبا. ففي هذه المسألة، خانته شجاعته المعهودة، وتوقّف به منطق الالتزام في منتصف الطريق. فقد كان يعتقد أن الجزائر ينبغي لها أن تبقى فرنسية، وأن استقلالها خطأ تاريخي لا يغتفر. وكان يلوم أروبيي الجزائر الذين لم يدركوا في الوقت المناسب ضرورة إدماج المستعمرة، ولو أدركوا ذلك، لما حدث ما حدث. في أوج الأزمة التي كانت تعصف بفرنسا بسبب أحداث الجزائر سنة ,1956 وفي حمى الجدل الذي قسّم المثـقفين الفرنسيين بشأن الجزائر بعد نداء ألبير كامو إلى هدنة مدنية، اعترف مورياك الكاثـوليكي لجان جاك سارفان شرابير أنه يفضل، من منطلق إنساني مجرّد ومن إيمان كاثـوليكي، صرف التنديد بالتعذيب في الجزائر على أن يخوض في نقاش عقيم حول مستقبل للجزائر غامض وغير محمود العواقب. وقد حدث ذلك في وقت كانت فيه جبهة التحرير الوطني تحاول الحصول على تصريح من الكاتب لصالح القضية الجزائرية، تصريح شبيه بتصريح الفيلسوف ريمون أرون، الذي طالب في ذلك الوقت الأوروبيين إخلاء التراب الجزائري. لكن مورياك لم يستجب لذلك. كيف والحال هذه، نفسّر موقف مورياك، ولماذا هذا التناقض؟ من جهة، إيمانه بالقضايا العادلة في العالم، ومن جهة أخرى وقوفه صراحة ضد استقلال الجزائر. الجواب ببساطة الجنرال ديغول. كان نجم ديغول يومئذ صاعدا، وكان يحتل صدارة الأحداث. وكانت مجموعة من المثـقفين والكتّاب تلتقي من حين إلى آخر بديغول وتأمل عودته إلى سدّة الحكم، خصوصا بعد مجيء غي مولي على رأس الحكومة، وكان من بين هؤلاء فرانسوا مورياك الذي أعجب بديغول وبمصيره الاستثـنائي، إلى درجة أنه ألّف عنه كتابا كاملا. ويعترف مورياك في العديد من حواراته أنه ''لم يكن يجرؤ على إبداء أدنى ملاحظة أمام ديغول الذي خلب لبّه.. وأربكه.. وشلّ حركته.. إلى درجة العبادة...''. وكان يعتبر أن بينه وبين ديغول أمورا مشتركة، وهي أن كليهما من التيار اليميني الذي طبّق سياسة اليسار. وهكذا، تبنى مورياك مواقف الديغوليين من القضية الجزائرية. لكن الأمور لم تتوّقف عند هذا الحد. لقد انتزعت الجزائر استقلالها بعد تضحيات جسام، وذهب ديغول متجرّعا مرارة خيبة الأمل، لكن مواقف فرانسوا مورياك لم تتبدل قيد أنملة. فنراه يدلي بحوار سنة 1968 يتحسّر فيه لاستقلال البلدان المغاربية، معتبرا أن الاستقلال ليس نعمة على هذه الشعوب، وأنه كان هو وأصدقاؤه، يحلمون بمغرب موحد تحت الوصاية الفرنسية. وهكذا، وحتى بعد موت ديغول، ظل فرانسوا مورياك الكاتب الكاثـوليكي المؤمن بالعدالة الربّانية، ينظر إلى السياسة بأعين جنرال عجوز.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)