صدام لا يمثل العراق وأمريكا ليست البيت الأبيض
صمويل شمعون، كاتب يصر على التشبث بفرح الإغتراب ويستبعد العودة إلى عراق الحرب والدمار، إلا في حال انتصر لحلم طفولته السينمائي المرهون على أسوار هوليوود أجل.. انتقمت لحلمي الهوليوودي برواية لا وطن في مخيّلتي والعودة إلى العراق غير واردة هو كاتب يعترف بفضل باريس وسنين التشرد التي عاشها بها والتي جعلت منه كاتبا من طينة الكبار.. عندما جلسنا إليه حول طاولة بمقهى طونطفيل، المحاذي لبناية بشطارزي بالعاصمة. لم ينتظر منا أن نفتح باب الأسئلة، فاسترسل في استحضار الذاكرة.. "علاقتي بالقبور بدأت منذ صغري عندما انتقلت للعيش مع عائلة مسلمة في مرحلة الدراسة في مدينة الرمادي، وكان وقتها عمري 11 سنة. وفي المدرسة كنت أتعرض للضرب من بعض الشبان بسبب اسمي، فعمدت هذه العائلة إلى إعطائي آية الكرسي وطلبت مني الذهاب إلى المدرسة عبر المقبرة، والآية ستكون كفيلة بحمايتي، وفي طريقي وجدت قبرا صغيرا تعلقت به وأصبحت أزوره باستمرار. ومن هنا بدأت هذه العلاقة الحميمية مع القبور.. والتي انتقلت بعد سفري إلى باريس، حيث كنت أجلس يوميا في حديقة مقبرة كان مدفونا بها أعظم الكتاب والفنانين الفرنسيين مثل شوبان، بلزاك وصادق هداية الإيراني، فكنت أجد متعة في ذلك حتى تكونت نوع من الألفة بيني وبين القبور، وكتبت عن هذه المقبرة في روايتي". التشرد، القبور، والبؤس، شكّلت هذه المفردات عوالمك الباريسية الأولى، ورغم انفراج الحياة من حولك في السنوات الأخيرة، إلا أنك مازلت وفيا لتلك العوالم وسنوات التشرد الأولى، التي تحولت فيما بعد إلى مادتك الأولية لرواية "عراقي في باريس". لماذا تصر على الوفاء لهذه العلاقة السريالية؟ ربما لم أعد الآن ذلك المشرد الذي تكلمت عنه في روايتي "عراقي في باريس"، ولكني ما زلت أعيش خيال الكتابة، وكان من الضروري أن أكتب عن تجربتي في تلك المرحلة التي منحتني النضج الكافي لأصدر كتابا كان وسيلتي لأبرر به للناس الذين كانوا يسألونني عن مصير أعمالي السينمائية التي طالما تحدثت لهم عنها فأجيب "أنا تشردت وتعبت إلا أني مازلت أحلم بالسينما".من جهة أخرى، كل من يقرأ هذه الرواية يكتشف أنها مكتوبة بتيمات فيلم، وهذا بسبب تركيزي على المشاهد والتفاصيل والدراما، حتى أن كل من قرأ الرواية قال إنه شاهد فيلما.رواية "عراقي في باريس"، هو العمل المفرد الذي قدّمك إلى القارئ العربي والغربي، فما سرّ وصول هذا العمل إلى هذا البعد؟لقد كان العديد من الأصدقاء يسألوني لماذا لا أكتب عن تجربتي في باريس لذا بدأت في كتابة الرواية عام 1989، أي بعد أربعة أو خمس سنوات من دخولي إلى باريس، فتحدثت إلى صديقي الجزائري حميد، ليساعدني في أن أسكن معه لفترة وأخبرته أني أحضر لكتابة رواية عظيمة، إلا أني كتبت فصلين أو ثلاثة ثم تركت الأمر وعدت إليها عام 1994. بعد أن طلبت من صديقي المغربي، محمد، أن يوفر لي الإقامة في "كامبينغ" لمدة شهر واحد وأنا أضمن له العودة منها بمخطوط رواية. وفعلا اشترينا خيمة وأقمنا في مدينة "بروفيل" وكتبت فصلا كاملا قمت بإرساله إلى جريدة "القدس" في لندن وقد لاقى استحسانا كبيرا بين القراء، حتى أن هناك من أقنعني بضرورة الإنتهاء من الرواية، ولكن المدة انتهت وعدت إلى باريس من جديد لأواجه حقيقة أني بلا مأوى. ولم أتمكن من الإنتهاء منه إلا في عام 2004 بعد أن ذهبت إلى ألمانيا، وبعد 4 أشهر من الإقامة في قرية صغيرة أنهيت الرواية. فالمشكل لم يكن في عدم قدرتي على الكتابة ولكن المشكل كان في فلسفتي في الكتابة، لأني كنت دائما مقتنعا بواجبي في أن أعطي القارئ ما يستحق أنه دفع ماله من أجله. كتابة حكايتي في باريس، تختلف عن حكايات ربما تتقاطع مع حكايتي في بعض تفاصيلها، إلا أنها تختلف عنها في كونها تروي عن طفولتي التي ارتبطت بالحلم الهوليوودي، وعن الدمار الذي لحق بي وظلم العالم لي، أضف إليها مشاكل العراق وعجزي في تحقيق حلمي السينمائي؛ بسبب فقري. وهي الأسباب التي جعلتني أتحمس للكتابة لأري العالم كيف عشت طفولتي في العراق وكيف أني كنت من عائلة فقيرة، ثم قررت مغادرة العراق، وكيف صار الإلتباس في سوريا، وتعرضي للتحقيق بسبب اسمي ليتغير مخطط سفري، إلى أن وجدت نفسي رفقة بعض الفلسطينيين اللاجئين في الأردن. ورغم كل ما سبق وسوء الفهم الذي تعرضت إليه، إلا أن الرواية لا تحمل أي ضغائن أو أحقاد. قلت "ظلمني العالم".. هناك جزئية مخفيّة خلف هذا التعبير، هل لك أن تطلعنا عليها؟ أنا ظروف حياتي كانت مختلفة، فحقيقة أن تولد في عائلة فقيرة وتجد مشكلا حتى في الدخول إلى المدرسة ليس بالأمر السهل، لذا لا يمكنني إلا القول إن أهلي هم من ظلمني. هل يمكن القول إنك كنت بحاجة إلى هذا التكثيف الدرامي في حياتك وهذا الكم الهائل من التجارب لتتكئ عليها وتبدأ ككاتب ؟أعتقد أني لو نجحت سينمائيا ما كنت لأفكر في تأليف هذا الكتاب، الذي كان يمكن أن يكون سيناريو لفيلم، فأنا لم أخطط لأن أكون كاتبا، رغم أني كتبت قصصا قصيرة في فترة السبعينات و قد نشرت أعمالي في الأردن. كما قمت بنشر عدد من القصائد في مجلة "الكرمل" التي كان يشرف عليها محمود درويش. حتى أن هناك قصة نشرتها عام 1979 تحدثت فيها عن شخص يكتشف أنه تخطّى عتبة الخمسين وقد فشل في أن يصبح سينمائيا فيصاب بسكتة قلبية ويموت. وبعد أكثر من 30 سنة قمت بكتابة "عراقي في باريس" وتحققت نبوءتي الأولى؛ إذ تخطيت الخمسين ولم أحقق حلمي السينمائي بعد. نعلم أنك مولع بعالم السينما وهو الحلم الذي مازال يراودك منذ صغرك، خاصة السينما الهوليوودية، لكن بعد الإحتلال الأمريكي للعراق هل تغيرت ملامح حلمك الهوليوودي؟لا، مشكلتنا نحن العرب أننا نخلط بين الأمور.. فإذا كان صدام لا يمثل العراق فأمريكا كذلك ليست البيت الأبيض، وأمريكا التي أعرفها هي بلد الرواية والفنون والأدب والسينما، حتى أني أجزم أن شعبها هو من أطيب شعوب الأرض. وهوليوود بالنسبة إلي هي السينما وبالتالي لا يمكنني أن أكرهها لهذا السبب، خاصة أن السينما الأمريكية صنعت أفلاما عديدة ضد الحرب فلا يجب أن نخلط بين الأمور. قلت إن صدام حسين ليس العراق، فهل يمكن اعتبار صمويل شمعون شخصية نموذجية للعراقي؟لا، مستحيل، أنا املك أشياء عديدة تجعلني مختلفا عن الآخرين، ولكن إذا أردت الحقيقة أنا أمثل العراقي الذي كان قبل مجيء صدام حسين للحكم. وهي الفترة التي كنا نعيش فيها بسلام رغم الفقر، إلا أننا كنا متسامحين فيما بيننا.أنا أقول هذا الكلام دون أي انتماء سياسي، لكن الحقيقة التي يعرفها الجميع أن صدام ونظامه أدخلا العراق في متاهات حروب لا طائل من ورائها. حتى أني كنت أتمنى لو لم يكن هناك بترول في العراق . من المتعارف عليه أن العراقي عندما يغادر إلى الخارج يختار بلدا اقرب إليه تاريخيا لغويا مثل أمريكا ولندن، إلا أنك خرجت عن هذه القاعدة واخترت فرنسا، فهل كان ذلك تحديا بالنسبة إليك؟أنا لم أكن أنوي الذهاب إلى فرنسا، وما حدث معي بعد مغادرتي العراق أني ذهبت أولا إلى تونس رفقة بعض الفلسطينيين وقد حاولت الحصول على الفيزا إلى أمريكا أو بريطانيا، إلا أنهم أعطوني فيزا إلى فرنسا. وباعتبار أنها لم تكن وجهتي المرجوة خاصة واني لا أتقن اللغة الفرنسية فقد تألمت كثيرا لأني كنت اعتقد أنه من السهل تحقيق أحلامي السينمائية بمجرد وصولي إلى أمريكا .ولكن عندما عشت في باريس والتقيت بعض الأصدقاء ودخلت في عوالم هذه المدينة، اكتشفت حقيقة أخرى، مفادها أن باريس ليست فقط من أجمل المدن ولكنها بلد الرحمة والشفقة والمحبة. وبعد الكثير من التجارب والسفر إلى العديد من العواصم، توصلت إلى أني لم أكن لأستطيع العيش في مدينة أخرى كما عشت في باريس التي كانت رحيمة بنا وكانت مشحونة بقبول المشردين والبوهميين والصعاليك المتشردين، أما لندن أو مدن أخرى فهي مدن قاسية جدا. اسم صمويل شمعون.. هل صالحك مع اليهود أم زاد من الحزازات بينك وبينهم؟أنا ليس لي أي علاقة باليهود، وأي إسرائيلي يقرأ كتابي لن يعجبه ما جاء فيه، لأني تحدثت عن علاقتي بالفلسطينيين في الوقت الذي لم آت على ذكر اليهود في روايتي التي يعرف الجميع أنها تحمل جوانب عديدة من سيرتي الذاتية، وذلك لأنهم غير موجودين أصلا في حياتي، ولكن لا أدري لماذا هنالك من يعتقدون ذلك.وبالنظر إلى ما سبق، أنا أفكر جديا في كتابة مقال مطول عن هذه المشكلة التي تثار في أي مكان أزوره . وقد كان آخرها مند ثلاثة أشهر عندما كنت في إشبيلية عندما تحدث إلي أحدهم وأخبرني أنه كان في عاصمة بلدي فاعتقدت أنه يتكلم عن بغداد وتفاجأت بأنه كان يقصد تل أبيب. هل لهذا السبب لم تطلق على روايتك اسم "صمويل شمعون في باريس" لتتفادى هذا الإلتباس؟في الحقيقة أنا كتبت قبل عشر سنوات مقالا تحت عنوان "عراقي في باريس"، خاصة أن هناك أمريكيا سبق إلى ذلك وكتب "أمريكي في باريس"، دون أن ننسى كذلك الفيلم الأمريكي الذي يحمل نفس العنوان . وفي الحقيقة كنت أريد أن أطلق على الرواية اسم "الحنين إلى الزمن الإنجليزي" لتحكي عن شاب يحن إلى الوجود الانجليزي في العراق، ولكن في فترة العمل عليها وكتابتها دخل الانجليز والأمريكان فعلا إلى العراق، فما كان مني وقتها إلا تغيير العنوان ووقع الاختيار على "عراقي في باريس". بعد النجاح الذي حققته الرواية، هل يمكن القول إن صمويل شمعون انتقم لحلم الطفولة السينمائي برواية؟لا أنكر أني سعيد بنجاح هذه الرواية التي مكنتني من دخول عوالم أخرى، خاصة أن صحيفة "لوموند" الفرنسية علقت على الرواية بالقول "إن صمويل شمعون فشل في أن يذهب إلى هوليوود، إلا أننا كسبنا كاتبا عربيا". فلا يسعني إذن إلا أن أكون راضيا عن الرواية ويبقى الحلم السينمائي قائما. كيف حال والدتك؟(يتأثر مفتوح على الإبتسامة) عندما أتذكر والدتي يعود بي الزمن إلى يوم مغادرتي العراق.. وقتها ذهبت إليها لأوقضها واخبرها بسفري إلى هوليوود لتحقيق حلمي السينمائي، إلا أنها لم تصدقني وقالت لي "ستعود بعد يومين"، إلا أني لم أعد إليها إلا بعد أكثر من ربع قرن، وهو المقطع الذي بدأت به روايتي. وبعد اللقاء وجدَت أمامها رجلا كبيرا في السن وقد تغيرت كل ملامحه. وفي آخر زيارة لها عرفت أنها أصيبت بمرض الزهايمر ولم تعد حتى تتذكرني. أنت لم تستثمر خيالك في كتابة الرواية بقدر ما استثمرت ذاكرتك الشخصية، ألا يخاف صمويل شمعون أن لا يجد ما يكتبه مستقبلا، بعد استنزاف ذاكرته؟بالعكس، لي القدرة على كتابة عشر روايات أخرى ولكن في نفس السياق، أي "السيرة الذاتية الروائية" التي تحمل بداخلها حياة أشخاص آخرين، حقائق كثيرة عن الحرب وعن حكايا المدينة وذلك من خلال الشخصية التي تسرد الحكايا عن الآخرين. هل يمكن أن تنقل إلينا أجواء العيش في باريس رفقة من عرفتهم من الجزائريين؟الكثيرون في باريس كانوا يسألونني عن سر علاقتي القوية بالجزائريين. إلا أنه لا يمكنني إلا الاعتراف بأنهم كانوا كريمين معي عندما كنت بلا مأوى، فكنت أذهب مع حميد وأحمد وكمال إلى بيوتهم وكانوا يستضيفوني هناك. وإلى الآن ما زلت التقي بهم، فهم أهلي، وبيننا صداقة حقيقية تأسست في المقاهي والشوارع الباريسية. هل العودة إلى العراق واردة في أجندة صموئيل؟لا، العراق الذي أعرفه تغير كثيرا بعد الحرب، وهو الأمر الذي يؤلمني كثيرا ويجعلني استبعد حاليا فكرة العودة. هناك عراقيون مقيمون في الجزائر يتحدثون بحميمية أكثر عند ذكر العراق، وهو ما لم ألمسه في حديثك؟الفرق بيني وبينهم ربما، أني منذ كنت طفلا كنت مهووسا بالحلم الأمريكي ومازلت كذلك إلى الآن، وأنا مصمم على أن لا أعود إلى العراق إلا بعد أن أحقق حلمي وأصنع فيلما سينمائيا.علاقتك بالإستقرار علاقة غير صحية، فهل هو الخوف من المجهول أم التطلع إلى الأفضل ؟أنا أسافر كثيرا، فلا وطن لي في مخيلتي، حتى إني أفكر حاليا في الهرب من لندن مكان إقامتي الحالية والعيش في الجنوب الفرنسي. إذا توفرت لك إمكانية عمل فيلم سينمائي، فماذا ستكون فكرة العمل؟أتمنى أن يكون موضوعه روايتي "عراقي في باريس"، وربما عن أبي "كيكا". ولم لا عن العراق قبل الحرب، هذا البلد العظيم الذي أتمنى أن يعود من جديد.حورية صياد
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 25/10/2010
مضاف من طرف : sofiane
المصدر : www.al-fadjr.com