رغم مضي ثمانية أشهر على رحيله، إلا أنه مازال حيا، يحوم طيفه بكل أركان البيت، ويعشش في أذهان كل فرد من أفراد عائلتيه الصغيرة والكبيرة، لا أحد منهم يصدق أنه رحل رحيلا أبديا، لا رجعة من بعده.. هي عصارة حديث صالح فطاف، شقيق المغني الشعبي الراحل عبد الله فطاف، الذي فضحت عيناه حزنه وهو يحاول مداراته.. لكن عبثا، بعد أن رسم رحيل شقيقه قسمات من الحزن على محياه، وباحت التجاعيد المترامية هنا وهناك على وجهه بهموم الفراق.
غاص صالح فطاف في أعماق ذاكرته، وهو يتذكر طفولة شقيقه الذي رأى النور ذات خميس، في الثامن عشر من شهر أوت 1949، بحسين داي في الجزائر العاصمة.
كان مشاغبا ومشاكسا ومولعا بالشيخ عمر الزاهي
داعبت أنامل الراحل عبد الله فطاف، أوتار القيثارة لأول مرة وهو في الثالثة عشرة من عمره.. راح صالح يحكي شقاوة أخيه بنبرة امتزج فيها الحزن والفرح في الآن نفسه ''نحن 7 ذكور، 4 منا يكبرون عبد الله، واثنان أصغر منه، وكان هو مشاغبا ومشاكسا منذ الصغر، كنت أخبئ قيثارتي عنه حتى يهتم بدروسه، فقد بذلنا جهدنا كي يتفوّق في دروسه، ويكون ضمن أوائل قسمه، إلا أنه كان يخرجها من مخبئها كلما غادرت البيت، وعذّبنا كثيرا من أجلها، فيأخذها ويتسلل خلسة إلى الأعراس التي كان يحييها الشيخ عمر الزاهي، إذ كان مثله الأعلى ومولعا به حد النخاع. كما كان يحب نخبة من ''لشياخ''، على غرار محمد العنقى، مريزق، بوجمعة العنقيس، والهاشمي فروابي. وفي سنة 1968، التحق بأكاديمية شرشال وأدى الخدمة الوطنية، وتخرج في أول دفعة منها، ثم أنشأ بعدها فرقة غنائية شابة''.
''لا خوف عليك يا مداح بن خلوف''
بالكلام الانسيابي وعذب القوافي التي نظمها صديق الدرب رشيد رزاقي، كلّمنا الأخير عنه، فقال ''لا خوف عليك يا مداح بن خلوف''.
رحل عبد الله فطاف، صاحب ''القعدات'' الشعبية التي جاب بها أغلب ربوع الوطن، وترك فيها بصمات خالدة راسخة في الأذهان، خاصة تلك التي تزينت بها صخور مدينة الهوا والهوى قسنطينة، وهو ما اتفق عليه صالح ورشيد: ''لقسنطينة مكانة خاصة بقلب شقيقي، أضحت بيته الثاني، بعد أن أحيا عرسا بها سنة 1972، إذ رسخ اسمه في أذهان القسنطينيين، فأصبح فردا منهم، وصاروا أهله، تليها العديد من ولايات الشرق الجزائري، على غرار عنابة وسكيكدة وسوق أهراس وجيجل''.
لم يكن رشيد رزاقي يريد أن يضيع أي لحظة من تلك التي قضاها رفقة عبد الله، فراح يقلب صفحات الماضي، ''مضت السنون تباعا، إلا أن ما دار من حديث بين عبد الله والحاج الفرفاني مازال حاضرا، فقد شاءت الصدف، وتحديدا في السبعينيات، أن يحضر عميد أغنية المالوف القسنطيني الحاج محمد الطاهر الفرفاني أحد الأعراس التي أحياها الراحل بمدينة الجسور المعلقة، وبعد أن طلب منه أن يسمعه أغنية ''منقوس حاجبو بالسهام رشقني رشيق''، لبى عبد الله الطلب وكله ثقة بنفسه، ولما أنهى أداءها، قال الحاج ''هذا يجي منّو''، وهي الشهادة التي لطالما اعتز عبد الله بها''.
توقف رشيد هنيهة من الزمن.. سافر بمخيلته بعيدا، ثم عاد أدراجه إلى الواقع، وواصل ''الليلة التي توفي فيها كنت رفقة صالح في مستشفى آيت إيدير، وغسلناه ونقلنا جثمانه إلى المنزل ما بين أذاني الفجر.. سبحان الله، لم يكن يتهاون في أداء صلواته الخمس في المسجد، كما لم أكن أتوقع يوما أن أكتب عن أقرب أصدقائي وهو متوفٍّ. ففي الوقت الذي قيل لنا عبد الله توفي، لم أر سواه وبن خلوف ماثلين أمامي، فالشاعر إنسان مرهف الإحساس، تحركت مشاعري وتدفقت دفعة واحدة فنظمت (ما عليك خوف يا مداح بن خلوف)''.
كيف للمشاعر أن لا تتحرك، لمغن كان دائم الإيمان بأن للشعبي روحا ومستوى، وأن له مستقبلا أيضا، لطالما حث الشباب على المحافظة عليه، وأغدق عليهم بـ''القصيد'' دون بخل، قائلا ''هذا كلام لشياخ احفظوه وحافظوا عليه''.
للراحل رؤيته الفلسفية للأشياء.. مضى في اتجاه قاده إلى التصوف
بعد أن تخلص صالح ولو نسبيا من جو الكآبة الذي جثم على صدره، مطّ شفتيه بابتسامة، وتكلم عن شقيقه بكثير من الحب والاعتزاز، قائلا ''شقيقي كان متميزا، باحثا فريدا في القصيد، خاصة ''المفقود'' منه، يقرأه ويصحح الأخطاء الواردة فيه، كونه متمكنا من اللغة العربية، وحتى في الأعراس لم يكن يغني سوى ''القصيد'' و''المفقود''، ولا يوجد أي شبه ما بين أعراسه، إذ يضبط برنامجا مختلفا، حتى لو كان له عرسان في نفس اليوم''.
واسترسل المتحدث يعدد خصال شقيقه الراحل قائلا ''كان منضبطا جدا ومنظما، وحنونا وطيبا، معطاء وزاهدا ومحسنا وكريما، ولو جمع كرم إخوته الستة مع بعض فلن يضاهي كرمه لحاله. كما كان إنسانا مصليا ومؤمنا، لكنه لم يكن معقدا أو منغلقا، بل متفتحا ومتسامحا إلى أقصى الحدود، لا يرى إلى ما هو جيد وجميل في الناس، وله رؤية فلسفية للأمور والأشياء، يصل الرحم ويزور الأقارب ويعود المريض، يتمتع بشخصية قوية وتواضع لا متناهٍ، ولا يعرف قول كلمة لا، وهو ما جعل جمهوره يحبه، ومنذ وفاته توقف عازف الطّار لخضر الذي كان في مجموعته الموسيقية عن العزف. يعشق عائلته كثيرا ومتعلق بها وله ضعف خاص تجاه أولاده، 3 ذكور و4 بنات، إلا أن بناته كن نقطة ضعفه. وكان شقيقي إلى جانب حسه الفني المرهف، بارع في لعب الشطرنج، إلا أنه لا يلعب الدومينو، ولا الأوراق''.
يقاطعه رشيد، وبنبرة كلها فخر بما تميز به رفيقه الراحل قال ''كانت لعبد الله فلسفته الخاصة في الدنيا، ولطالما مضى في اتجاه قاده صوب التصوف، يفهم القصيد جيدا كونه متمكنا من اللغة العربية والفرنسية أيضا، فليس كل من يغني الشعبي يفهم القصيد، هناك الكثير من ''الوالعين'' لا يفهمون القصيد، أما هو فكان يحب النص، ولما يغني يؤديه بفصاحة وطلاقة لسان، لأنه يفهم ما يقوله ويتأثر به، ويعطي الوزن الصحيح للكلمات.
ومازالت كلماته راسخة بذهني حد الساعة، وكأنه جالس أمامي الآن، فقد كان يقول لي دوما ''يجب أن أسير وفق ما أغنيه من كلمات، عليّ أن ألبس كلامي وأمضي وفق ما يحمله من معانٍ''، فكان لنصوص الشعراء الكبار تأثير جليّ على يومياته، كيف لا وهو عاشق سيدي لخضر بن خلوف مداح الرسول الكريم''.
كان يحب بناته حد النخاع ويحزن كثيرا عند تزويجهن
أخذت عن والدها قوة شخصيته وسلاسة الجمل وعذوبة الكلام، تحدثت عن أبيها الراحل بحب ورقة وحنان، فقالت أصغر بناته ''لم يكن عبدالله في يوم من الأيام أبا لي، بل كان أقرب صديق إلى قلبي، فرغم الهيبة التي يتمتع بها، ورغم شخصيته القوية، إلا أنه يضع عباءة الصرامة جانبا عندما كنا نتجاذب أطراف الحديث سويا''.
سكتت هنيهة جمعت فيها شتات ذكرياتها، ثم واصلت حديثها، ''لم يكن يقبل لنفسه قط الغناء في زفاف بناته، ويقول دوما إني مفارقهن ولو كان ذلك بخروجهن من بيتي فقط، فكيف أغني وقلبي حزين؟ وعندما تزوجت أختي الكبرى خديجة من ابن عمي، كان يصبر نفسه ويقول لم تتزوج إلا بابن أخي، ويوم رزقت بابنتها الأولى كان نائما ولما أيقظناه وأعلمناه بالأمر سجد مباشرة وحمد الله على نعمته، ولما أتت إلى بيتنا لأول مرة راح يحاكيها وكأنها فتاة كبيرة ويدعوها ''زهيرة'' بدلا من ''زهرة الياسمين''. وكانت أختي زينب عزيزة جدا على قلبه، وأقرب بناته إليه، كونها حساسة جدا، إذ كان يخاف عليها من نسمة الهواء''.
بكثير من الاعتزاز والفخر بوالدها الراحل، استرسلت البنت في حديثها ''كان يقرأ القرآن كثيرا، وختمه 3 مرات خلال رمضان السنة الماضية، إذ وبعد أدائه صلاة التراويح كان يقرأ كتاب الله، وبعد السحور أيضا، وبعد عودته من صلاة الفجر التي يؤديها في المسجد يقرأ كذلك إلى غاية السابعة صباحا، ثم ينام قليلا، ليخرج بعد ذلك''.
كان عبد الله خفيف الروح، رغم ما يبديه من صرامة وحزم، مواقفه المضحكة كثيرة وعديدة، تتذكرها نجلته وتضحك ''في إحدى المرات وبينما كنا نحضر ''المحلبي''، دخل دبور المطبخ، فرحت أجري وأصرخ خوفا من لسعته، فولج والدي المطبخ ولما رآني على تلك الحال لم يتوقف عن السخرية مني. وفي لحظة ما تغير كل شيء، وراح الدبور يجري خلفه، فراح يجري ويصرخ وكأنه صبي صغير. كما أذكر موقفا آخر حدث معه لن أنساه ما حييت لشدة ما ضحكنا عليه، إذ ذات مرة وبينما كان يستمع إلى إحدى الأغاني في مسجله، سقط الغلاف الإسفنجي الأسود من أذنه، فراح يصرخ ويقفز عليه ظنا منه أنه صرصور، ولكم أن تتصوروا الموقف معي. وفي أحد الأيام لم يتوقف عن الصراخ وكانت أوداجه قد انتفخت من شدة الغضب، ووجهه احمرّ وهو يبحث عن نظاراته التي كان يضعها.. أجل هذا هو والدي، رجل قليلون الرجال أمثاله''.
لم يكن يحب الشهرة والأضواء ولا طرق الأبواب
لم يكن عبد الله فطاف من محبي الشهرة والأضواء، ولم يكن يسعى يوما للتقرب من الإعلام، وهو الذي كان يرى أن الفنان الحقيقي يعمل ويبدع وينتج، ولا يحتاج لطلب الصدقات أو طرق الأبواب. يقول شقيقه ''كان أخي إطارا ماليا ومحاسبا، ولطالما اعتبر الفن فسحة أمل، اقترح عليه العديد من الأصدقاء الذهاب إلى فرنسا، إلا أنه رفض الأمر. وبعد التقاعد منذ حوالي 4 سنوات، وصل إلى مستوى عال في الأداء الفني، حيث جنى ثمار سنوات من الجد والكد، وكان يعمل ليلا نهارا، وكأنه كان يحس أن المنية ستأتيه قريبا.
طلبنا منه مرارا وتكرارا التوجه إلى الاستوديوهات وتسجيل أغانيه في ألبومات، إلا أنه كان يرفض ذلك، إلا أن حزنا جامحا كان يعتريه عندما يعرف أن أغانيه سجلت في الأعراس التي أحياها هنا وهناك، وتباع في سوق الأشرطة، في شكل ألبومات مقرصنة''.
رحل عبد الله فطاف.. عاش بسيطا ومات بسيطا.. غادر وهو بحاجة إلى سقف يسع أفراد عائلته، فهل سيتحقق حلمه بعد وفاته؟
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 22/10/2011
مضاف من طرف : sofiane
صاحب المقال : الجزائر: هيبة داودي
المصدر : www.elkhabar.com