هذا الكتاب كان هدية من الصديق إسماعيل مهنانة الذي لا ينقطع عن زيارة جامعته الأصلية، وكأن لسان حاله يردد مع الشاعر العربي: كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل، وكالعادة كانت لنا دردشة حول ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي.. وكالعادة افترقنا دون تحديد موعد.
الكتاب جاء في أربعة أبواب أساسية، أولها: العرض التاريخي لرواد المدرسة وأجيالها المتعاقبة، أما الباب الثاني فكان حول بعض القضايا النظرية والنقدية التي تقوم عليها أعمدة المدرسة، وجاء الباب الثالث ليحدثنا عن الأطر والمرجعيات التي تشكلت منها أرضية المدرسة المعرفية. وختامها كان الباب الرابع الذي خصص لبعض النصوص التي تكثف فكر المدرسة.
لماذا الكتابة عن النظرية النقدية؟ وكأن الدكتور إسماعيل الذي طرح هذا السؤال في المقدمة التي وضعها للكتاب يوجه ضربة “إستباقية" فهو على يقين تام أنه سيواجه بهذا السؤال وتأتي الإجابة واضحة ومباشرة “ذلك لحاجة الفكر العربي للفكر النقدي أكثر من أي فكر آخر، فثمة تشابه تاريخي واضح بين العصر الذي نشأت فيه مدرسة فرانكفورت وعصرنا العربي".
صحيح الفكر العربي في أمسّ الحاجة للفكر النقدي، لكن مسألة التشابه بين عصر مدرسة فرانكفورت وعصرنا العربي استوقفتني كثيرا وجعلتني أذكّر نفسي واستذكر أشياء قديمة لعلني أعثر على هذا التشابه، لأن مدرسة فرانكفورت جاءت لتجيب عن مشكلات مجتمعات الحداثة وما بعد الحداثة، المجتمعات المصنعة وما بعد المصنعة. أما نحن فإن مشاكلنا وهمومنا من طبيعة أخرى لأننا ننتمي إلى مجتمعات ما قبل حداثة وما قبل صناعة. ولولا أنني لا أحب جلد الذات لقلت إننا ننتمي إلى مجتمعات نصف زراعية ونصف رعوية.
حتى التشابه الذي يحدده الدكتور إسماعيل ويعدده مثل التشيؤ والأفكار الجاهزة وسرعة التصديق والديكتاتوريات والأيديولوجيات الشمولية، فهو تشابه خارجي لا يؤدي إلى الحلول نفسها التي وجدها داخل أسوار مدرسة فرانكفورت.
إن مدرسة فرانكفورت تبين لها بعد الحربين العالميتين أن التصدع والانهيار والاغتراب والوحشية والجريمة والاغتراب والتشيؤ وجميع المصائب التي حلت بالإنسانية يتحمّل مسؤولياتها كاملة التنوير الذي ربط علاقة غير شرعية مع العقل فأنجبا لنا إبنا لقيطا يدعى “العقل الأداتي"، وهذا ما شرحه كبار رواد المدرسة ومؤسسيها ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو في كتابهما “جدلية الأنوار" بعدها توغلت هذه المدرسة بعيدا للكشف عن مرض التنوير الخبيث من أجل استئصاله نهائيا، فتبين ل “هربرت ماركوز" في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد" أن مصدر المرض قادم من عند اليونان وتحديدا يكمن في عقلانية المنطق الأرسطي، هنا طرحت مدرسة فرانكفورت النقدية ذلك السؤال الخالد ما العمل؟ العقل من ورائكم والتنوير أمامكم أين المفر، فكان الملجأ والملاذ الفن والجمال والجنس، وهذا ما انتهى إليه اقتراح الدكتور إسماعيل في مقدمة الكتاب لما أعلن وبوضوح تام وفي تشبيه جميل وبديع، شبه المدرسة بالعيادة الحضارية التي قد تساعد في تخفيض آلة القمع الجنسي وكشف جماليات جنسية وبقدرات الفن الخارقة على كشف مسارات الممكن من صلب مستحيلات الواقع “هنا يكون الدكتور إسماعيل تلميذا وفيا لمدرسة فرانكفورت وملخصا أمينا لأفكارها التحررية، وكأنني اقرأ شعارات وأسمع هتافات تقول أيها العرب انكحوا ما طالب لكم من النساء تحلوا جميع مشاكلكم التاريخية المستعصية.
من حق الدكتور إسماعيل أن يذهب هذا المذهب وينتهي إلى هذا الاستخلاص وهذا العلاج المقترح للمرض العربي، لكن في هذه العجالة أعود إلى الجذور والأسس التي بنيت عليها مدرسة فرانكفورت النقدية وأتساءل: هل أنا العربي المسلم المتخلف أعاني من الجرعة الزائدة في العقل والتنوير؟ هل أعاني من “تخمة" العقل والتنوير، كما ترى مدرسة فرانكفورت، أم أنني أعاني من جوع وعطش تاريخي لهما. وإذا كان لابد من استعارة فكرية لتجاوز تخلفي التاريخي فإنني أجده في العقل والتنوير الذي كان أكبر إنجاز تاريخي عظيم تفاخر به أبناء القرن السابع عشر والثامن عشر، العقل والتنوير الذي وضع حدا للهيمنة الدينية على يد ديكارت وكانت، العقل والتنوير الذي وضع حدا للاستبداد السياسي على يد فلاسفة العقد الاجتماعي روسو وهوبز ولوك الذين بشروا ووضعوا أسس الدولة العقلانية التي هي المدخل الحقيقي للحداثة وليس غيرها، نحن في أمسّ الحاجة لبنائها وتشييدها بخاصة في هذه الفترة الحرجة من تاريخنا العربي التي يتعرض فيها الفكر العقلاني والتنويري إلى أبشع حملة لاهوتية أصولية بالتعاون ومؤازرة قوى استعمارية خارجية.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 02/12/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : نور الدين جباب
المصدر : www.djazairnews.info