شكرا سيدي على مدخلاتكم المرشدة
سهام - طالبة - تلمسان - الجزائر
06/12/2018 - 391543
الفرنكوفونية أو التعصب الثقافي
بقلم الدكتور المنجي الكعبي
كان ينبغي محاربة التعصب اللغوي ككل تعصب، لأنها، الفرنكوفونية، نعرةٌ ظهرت في الأول كرد فعل على اللغة الأخرى (أو اللغات الأُخَر) التي أرادت فرنسا ابْتِتاتَها في مستعمراتها بهدف تغيير هويّات دولها وإلحاقها بالدولة الأم.
وكانت هذه هي سياسة ما يسمى ”بالاتحاد الفرنسي” الذي مات ولم يتكلم في المهد بسبب المقاومة الباسلة وحركات التحرير الوطني في المغرب العربي خاصة.
وحدها هذه السياسة اللغوية انكسرت في الدول العربية الإسلامية، لأن العربية منها كانت كالروح في الجسد.
فلما قضَى جيل المحاربين لفرنسا باسم الدين واللسان العربي في بلدانهم، انتعشت فكرة توحيد تلك المستعمرات السابقة تحت راية الفرنكوفونية، عرفاناً لفرنسا بالتبعية اللغوية والثقافية التي أورثتْها في أجيال التونسيين المتلاحقة على مدى عقود. وليس بمحض الصدفة أن يتزعم هذه النزعة ثلاثة رؤساء كانوا أول من عاونتهم فرنسا على تولى خلافتها على مصائر بلدانهم، ولم يتحرجوا من الظهور بمظهر أخلص خلصاء فرنسا والسباقين للتعاون معها لمنافسة خصومهم في بلدانهم من أصحاب الدعوات الوحدوية العربية أو الوحدوية الاسلامية.
وكان بورقيبة، بكل اعتداده بأخوّة الجوار واللغة والتاريخ، وغير ذلك من أواصرَ تربطُه بالمشرق العربي وبالمغرب العربي، يميز بين التعاون البراغماتي وبين التعاون العاطفي، الذي لا يُغني شيئاً عن النهضة السريعة علمياً واقتصادياً للحاق بركب التقدم.
وكان يردد على مسامع من يعْتب عليه انحيازه لفرنسا قولةَ سعد زغلول في مصر، حين قيل له: لماذا لا تنهض مصر لمساعدة سوريا في خلافها مع تركيا على الحدود؟! فقال: عندما تتخلص مصر من الاستعمار الانقليزي وتقف قوة إقليمية لها وزنها تنهض بعدها لمساعدة سوريا ولبنان والجزائر وغيرها من الدول الشقيقة، أما وهي الآن صفر والدول العربية أصفار مثلها، فالأصفار الى الصفر نتيجتها صفر.
***
وستتباين المواقف بين دولٍ بعينها في اتحاد المغرب العربي، التي تشترك معظمها في الاستعمار الفرنسي، بكون كل دولة منه تبحث عن استخلاص الفائدة القصوى من فرنسا تعويضاً واعتذاراً عن الحقبة الاستعمارية، أو تتشبّث بالانتماء للمنظمة لنيل امتيازاتها الاقتصادية والثقافية، باعتبارها في الحاجة الأوكد اليها لمُضاهاةِ ما يَستخلصه غيرُها من موقفه المناهض للفرنكوفونية. فالمسألة كلها أصبحت سياسات سياديّة للدول، لتحديد مواقفها وفق مصالحها المباشرة بقطع النظر عن الخلفيات المبدئية أو الفلسفية.
***
وقد رأينا ألواناً من الانقلابات في المواقف. فقد رأينا المرحوم مزالي العروبي البورقيبي الوحيد ”بطل التعريب” على هامش صراع بورقيبة مع القومية العربية، يُسابق الى باريس لاستدراك صورته كمرشّح محتمل لخلافة بورقيبة عندما تصعّدتْ به ظروفُ المنازعات بين البورقيبيين للخلافة فأصبح على قاب قوسين منها، حتى أنه حقق للغة الفرنسية في برامج التربية ما لم يحققه وزير سابق لها، من أفضلية وامتيازات على اللغة القومية. ولا أريد أن أذكره بسوء ولكنه أسَرّ لي في بعض الاجتماعات للجنة المركزية بعدم الإلحاح على موضوع التعريب في مداخلاتي إذا كنتُ حقاً متفهّماً لمواقفه، لأن بورقيبة - فيما قال لي - ”يضغط عليّ من هذا الجانب والمترصدين لي من حوله يشجّعونه على استبعادي”. وأصبحتْ للرجل مُسارعة في أول مناسبة لاجتماعات الفرنكوفونية، بعد أن علّقت تونس حضورَ ندواتها لمدة، واصطفتْ الى جانب الدول العربية كالجزائر وسوريا، في الموقف المتحفّظ أو المقاطع لكل نشاط لغوي أو ثقافي يخل بسيادة اللغة العربية على أرضها.
***
لكن المواقف الرمادية في هذه المنظمات لا يَخرج منها بطائل صاحبُ الموقف المتذبذب أو المناور أو المحتشم. والمثل يقول: ”على قدر أهل العزم تأتي العزائم … وتأتي على قدر الكرام المكارم”. فقد ترى في المحافل الدولية والمنظمات، من أمثال الفرنكوفونية والأسواق الاقتصادية الأخرى، كيف الوعودُ تُمنح لفظاً ولكن تُعطى شروطاً، وكذلك القروض. والقويُّ دائماً هو وحده سيّد كلمته. وكم دولاً بقيت معلقة آمالها بهذه العطاءات الممنوحة تكرّماً والهبات المرصودة تفضلاً والقروض المحطوطُة عنها تشجيعاً.
***
ولو رأينا كيف نقلّد الآخرين في العناية بلغتهم - إذا كان لا بد من تقليد حتى في هذه - فلنقلّد فرنسا في مستوى العناية بفرنكوفونيتها، فالعربية أوسع انتشاراً من الفرنسية وأحظى لساناً بعَدد قوْمها وديانة من يدينون بقرآنها. ولكن لنُجرِّب فقط أن نمنحها فقط بمقابل الفرنسية في تونس صفة ”غير الأجنبية” للعربية في فرنسا. أليس اشترطتْ فرنسا في استقلالنا عنها أن نَبقى نُعامل الفرنسية في بلدنا معاملة اللغة غير الأجنبية؟ نكون بذلك قد حاربنا التعصب اللغوي في بلدنا والتعصب الثقافي، وأكدنا الجانب الآخر الحضاري في التعامل مع اللغات.
***
ولو راجعنا بعد كل ندوة فرنكوفونية وندوة كم نحن مقصِّرون بسبب غلبة اللسان الفرنسي في بلادنا، الى حد الانزعاج من الغيورين الفرنسيين على لغتهم منّا بسبب تشوّهها بالعامية التونسية والخلْط في مفرداتها وتراكيبها بما يَخشوْنه من العدوى وهُمْ لدينا في سياحة أو زيارة.
وكم نحن مقصِّرون في الضرب بكل القرارات والمناشير الحكومية والبلدية وبمِلْء بصَر وسمْع الدستور عرضَ الحائط. وإني لأذكرُ بمرارة أنني تعلّقت بالفصل القائم بالدستور للطعن في الشهادة الطبية (محررة باللغة الفرنسية) التي اعتمدها مجلس النواب لإقرار شرعية انقلاب السابع من نوفمبر، حتى قال لي عميد الرؤساء السابقين للمجلس الدكتور الصادق المقدم غِبَّ الانقلاب وكنّا في ندوة للغرض بكلية الحقوق: ”وهل أنت ما زلت عند هذامن ملاحظاتك!”. ووجدتُ القومَ حولي كلٌّ يُرتِّب لكلمته في الندوة لمباركة الحدَث وفي رأسه ما ينالُه من ورائها لتأمين مصالحه ومستقبل أبنائه.
***
ولو راجعنا.. كم قراراتٍ أو إجراءات مُعْتزَمة أسقطتْها أو أفشلتْها نزعة الفرنكوفونية عند كثير من مثقفينا في المسؤولية، لإحباط كل أعمال المقاومة التي تُبديها الأوساط التربوية لتعديل حظوظ العربية على الفرنسية، في زحمة التيار الاستغرابي في مجتمعنا الذي يُداهمنا في أصالتنا وهويتنا، حتى ليَتصوّر بعض المنافحين على العربية أن أكبر شرور العربية جاءها من هذه الفرنكوفونية المتوحشة التي تذكّر بالاتحاد الفرنسي، الذي كانت فرنسا تخطط له لضم الدول الاستعمارية لها تحت بوتقته.
ولكن سيرة الدول هي هذه، المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب. فعلينا أن نبحث عن كافة الطرق لتحقيق المناعة لذاتنا لمنع استفراد الدول التي تخشانا لعنصريتها، بكل أسباب الغلبة أو احتكارها دوننا ولو أبينا.
تونس في 16 اكتوبر 2018
الدكتور المنجي الكعبي - أستاذ جامعي برلماني سابقا - تونس العاصمة - تونس
16/10/2018 - 388031