الجزائر

"الفجر الثقافي" يجري مع مختصين بحثا في فائدة اللحن المحلي ضياع اللحن الجزائري بين إعادة التراث وتركيب الكلمات




منذ زمن لم تستمع الأذن الجزائرية إلى لحن جزائري أصيل، كل الذي يروج ويموج كلمات على ألحان غربية وشرقية تشبه المسخ الذي لا معنى له، وفي أحسن الحالات يتشه المطرب إلى الألحان التراثية لعل وعسى يتمكن من تدارك الأمر بخانة صوتية تميزه عن غيره، لذا الحال ليس جيدا على الإطلاق في عملية التلقي الموسيقي بالجزائر... بل وأكثر.. هل انتهى مصير الملحنين الجزائريين إلى بطالة مشروعة بدعوى موت اللحن الجزائري؟ أم أن المطرب الجزائري لا ثقة له في اللحن الجزائري ولا يريد حلقة كبيرة من العمل والبحث والتنقيب.. منذ زمن "تفضلي يا آنسة" منذ زمن سلوى.. وحتى إلى وقت قريب مع سعاد بوعلي وحسيبة عمروش "قبل أن تقلب الفيستة" لا أحد يشعر بذائقة جزائرية ولا أحد يدندن على مقام جزائري.. منذ أن قام أنور ذات بدايات بتركيب كلمات جزائرية على لحن مشرقي والحكاية صارت عرفا سائدا.. كان حسني رائدا في هذا المجال.. وبعده الكثير.. في ذلك الوقت نام اللحن الجزائري ولم يستيقظ. "الفجر الثقافي" يبحث هذا الأسبوع، مع أهل المهنة، عن اللحن الجزائري الضائع.. الإبداع الفني مرهون بذوق المستمعين يرى الملحن قويدر بوزيان أن اللحن مبني على الأذن، وأذن المستهلك حسبه لم تعد بإمكانها فرض ذوقها على الساحة الفنية الجزائرية، وإذا غاب ذوق المستهلك في طلبه للنوعية وميله إليها، فذلك يجعل الإبداع الفني يحيد عن مساره الحقيقي. ويضيف الملحن الجزائري أن تقديم الملحن لعمل جاد أو راق يرتبط بالدرجة الأولى بالمستهلك، لأن هذا الأخير حسبه لم يعد يفرض مستواه وأصبح غير متطلب في اختياراته الفنية. وهو ما ذهب إليه الموسيقار محمد بوليفة، الذي قال أن المسؤولية يتحملها بالدرجة الأولى المستهلك، الذي لم يعد يتحكم في ذوقه، ناهيك عن أطراف أخرى وعلى رأسها الجهات الوصية على الثقافة التي يجب أن تفعل الرقابة على كل المستويات. كما قال بوزيان أن الشائع في حقل الإبداع الفني في الجزائر اليوم هو تمسك فناني اليوم بمسألة الإنتاج الثلاثي المشترك والمتعلق بـ"كتابة الأغنية، التلحين والأداء" ، وأحيانا يضاف إليها التوزيع، وهو ما أضعف تركيبة المنتوج الفني، لدرجة أن استسهله الجميع حسب ذات المتحدث، فالكلمة لم يعد لديها معنى ولا عمق ونفس الشيء بالنسبة للحن، وأصبح كل شخص يرى نفسه أهلا لتقديم عمل فني، خاصة وأن المستمع أصبح ظرفيا يهضم أي كلمة وأي لحن. من جهته؛ ربط بوليفة غياب الملحنين الكبار عن الساحة بغياب الأعمال التي تبحث عن اللحن المميز، ليشارك بوزيان في قضية غياب مثلث الإبداع الفني القائم على "الكاتب، الملحن والمؤدي" التي كان معمولا بها سابقا، والشائع اليوم كما قال "أن فنان اليوم يجمع بين الكتابة، التلحين والأداء لذلك فهو في غنى عن كتاب الكلمات والملحنين"، وهو ما وصفه بغياب أرضية فنية للإبداع، لأن الأرضية التي وضعها السلف لم يُعتن به بالشكل الصحيح وقال "الفن اليوم لا يتواجد بين أيد أمينة".  الأعمال الفنية اليوم تفتقد للأيدي الأمينة واستبعد بوليفة وجود رقابة في ما مضى على الأعمال التي كانت تقدم، معتبرا أن كل ما أنتج في الماضي كان جميلا وبمقاييس نوعية سواء تعلق الأمر بالألحان الوطنية، العاطفية أو أشكال أخرى. وأضاف أنه كانت هناك نصوص متفق عليها لشعراء معروفين وتلحنها أسماء معروفة، ولم يكن يسمح بجواز الكلام البذيل الشائع اليوم، وذلك لوجود لجنة نصوص ولجنة ألحان وهو ما لم يعد معمولا به حاليا. كما يرى الموسيقي محمد روان بأن هناك الكثير من الملحنين في الجزائر، لكن اللحن الأصيل بدأ يختفي تماما من الساحة الفنية، والسبب راجع إلى جملة من الاعتبارات وفي مقدمتها الأغنية المسماة بـ" الساوداويتش" أو ما يطلق عليها بـ"الرداءة" التي طغت على اللحن الأصيل، حيث يقر بأنها السبب الأول في انحطاط وتدهور حالة اللحن والملحنين الكبار في الجزائر، بالإضافة إلى عوامل أخرى ترتبط بالمجتمع الجزائري لا سيما فئة الشباب التي أصبح عليها من الصعوبة بمكان أن تعود إلى سماع الأغنية واللحن الجميل اللذين ميزا الفن في الماضي. وعلى حد تعبيره فإن المستمع الذي يستمع إلى "الرداءة" مدة تتجاوز العشرين سنة من المستحيل أن يتقبل إنتاجا يتوفر على لحن جميل وموسيقى عذبة، ويعتبرها الفنان محمد روان بمثابة الخطأ الفادح الذي تروج له وسائل الإعلام المختلفة وبالخصوص المرئية منها دون مراعاة بالدرجة الأولى أصالة الفن وشيوخه في الجزائر، وكذا الذوق الرفيع للمستمع أو المشاهد الذي تعود على سماع كل ما تبثه هذه الوسائل من أغان رديئة لا ترقى إلى الاستماع أو المشاهدة على حد السواء، لذا يعتقد بأن المستمع الجزائري كبر مع الرداءة وهو الأمر الذي قتل التلحين الموسيقي للأغنية الجزائرية، وقدم في ذات الإطار مثالا يبرز فيه مدى الحالة السيئة التي آل إليها طموح الجزائريين على جميع الأصعدة ولا يتعلق الموضوع بمجال الفن فقط، حيث قال "في السابق الأم تفتخر بأبنائها بأن يكون طموحهم الدراسي كبيرا جدا، لكن بعض أمهات اليوم أصبحن يفتخرن بمن سيحقق من أبنائهن تجارة أكبر، ضاربين عرض الحائط المستوى العلمي الذي من الممكن أن يحققه أحد أبنائهن"، وهذا المثال ينطبق على الوضع الفني والتلحيني الحالي، الذي سمح بالتوجه نحو الفن الرديء من أجل غايات متعددة كالشهرة وتحقيق ربح سريع على حساب أعمدة من خدموا الفن والأغنية الأصيلة التي وصلت إلى مستوى عالم بفضل ثلة من شيوخها وروادها في الجزائر. وأضاف روان بأن مستمعي اليوم يجهلون أبرز الفنانين، الملحنين والموسيقيين الكبار الجزائريين، بالمقابل نجد هذا الإشكال غائبا تماما في الدول العربية والبلدان الأجنبية على غرار مصر، لبنان، سوريا، فرنسا وغيرها، التي يعرف شبابها أعمدة فنهم وطربهم. ونوه الفنان إلى حفاظ هؤلاء على الطرب الأصيل ببذل الجهود ووضع استراتيجيات من أجل استمراريته وتجنيبه الزوال، على الرغم من وجود طبوع تتميز بالخفة والحماسية، إلا أن ذلك لم يمنعهم من التشبث بإرثهم الثقافي والحضاري الذي يعبر عن هويتهم الموسيقية وكذا التاريخية. من جانب آخر عاد الموسيقي روان للحديث عن إعادة الأغاني التي انتشرت مؤخرا في الساحة الفنية من طرف بعض مطربي ومغني اليوم لأهداف متباينة، يتقدمها الغرض التجاري البحت الذي لا يمت للفن بصلة، حيث قال بأن "المطربين الحاليين بالجزائر يعتمدون على التقليد وإعادة الإنتاج الطربي لشيوخ برزوا في الساحة سابقا، ومنهم خليفي أحمد، رابح درياسة، من أجل الشهرة والربح السريع، وهو ما أدى إلى تهميش هؤلاء بصورة غير مباشرة وإهانة للفن في آن واحد". وحسبه فإن الأغاني التي تدخل عليها إضافات حديثة تكون غالبيتها موجهة للأعراس والحفلات بغرض الربح التجاري، ولا يقصد من ورائها تذكر أساتذتها وأعمالهم، وأن من يقوم بالتقليد ليست لديه الشجاعة الكافية لإصدار عمل محترم من إنجازه. وفي نفس السياق يضيف محمد روان بأن جل المطربين الذين يقومون بمثل هذه الأعمال هم فنانون فاشلون ولا يعتمدون على أنفسهم، لأن إعادة الأغاني والتلحين بشكل رديء هو تهميش للثقافة والفن الجزائري دون علم مسبق منهم. وانطلاقا من اشتغاله على مستوى لجنة الطعن بالديوان الوطني لحقوق التأليف والحقوق المجاورة، قال بوزيان أن الجودة تفتقد في جل الأعمال المقدمة. وأضاف "تمر أمامنا كل أسبوع العشرات بل المئات من الإنتاجات التي لا تمت بصلة للإبداع الفني بكل مقاييسه"، والسبب حسبه يعود لتلاشي العمل الجاد الذي اندثر معه الإنتاج الهادف والحامل للرسالة النبيلة، إضافة إلى غياب الأصوات الشجية التي تستحق اللحن الراقي. الفن اليوم يحتكم لمرجعية السوق... والسوق تجارة ومن بين الأسباب القاهرة التي غيرت وجهة الإنتاج الفني اليوم، حسب بوزيان، هو ارتباط الإنتاج الفني بالتجارة، لأن سوق الفن اليوم يعمل على حد قوله من منطلق الربح. وقال "فأي ضوضاء تُكسب المال هي لحن في أعين أصحابها بالإضافة إلى استعمال التكنولوجيا الذي أصبح يطغى على كل الإنتاجات الفنية" لكن النتيجة حسبه تختلف، فاللحن والأغنية قديما كانت تُعمِر لسنوات، أما لحن اليوم فيدوم لأيام، وقال "نجاح اللحن اليوم لا يتعدى أسابيع أو أشهرا، ليأتي لحن آخر ويمحو أثره وهكذا دواليك، وضرب أمثلة بألحان جزائرية لا تزال حية إلى غاية اليوم منها لحن أغنية "يا ثورة الأحرار"، "يا الخاتم نشريك" لشريف قرطبي وغيرها من العناوين التي لا يمكن أن تمحى من الذاكرة الفنية الجزائرية حسبه. وقال بوزيان أن الفن معادلة متكافئة الأطراف تنطلق من البناء السليم للكلمات لتمر باللحن العذب وصولا إلى الحنجرة التي تجمع الاثنين لتصدح بفن مميز لا يفنى بغياب مبدعيه. وشاطر بوليفة رأي بوزيان في اتخاذ الإنتاج الفني اليوم وجهة تجارية، والتاجر لا يعتمد المقاييس الجمالية في تسويق تجارته الفنية بقدر اهتمامه بهامش الربح المحقق، فإن لاحظ رواج الطابع الڤناوي يتوجه إليه، ونفس الشيء مع الطبوع الأخرى بغض النظر عن طقوس وأصول أي لون فني حتى وإن أفرغ هذا النوع من المقاييس المعمول بها.  الروبوتيك والشرابية قتلا اللحن الجميل من جهة أخرى لم يغفل محدثنا دور الناشر الذي يتحكم في العمل من منطلق أنه من يموله، لذلك فهو يفرض شروطه التي تخدم في المقام الأول أغراضه التجارية، ناهيك عن استعمال "الروبوتيك"، وهو برنامج يستعمل في الغرب لتصحيح الخلل في النوطات مثلا لدى المطرب أو في الآلات الموسيقية، لكنه قلما يستعمل داخل الأغنية، لكننا في الجزائر حسب محدثنا أصبح يستعمل كأنما هو شيء إضافي للصوت ومكمل له، وعليه كما قال "الروبوتيك اليوم هو من يبيع الإنتاج وليس اللحن والصوت". ولم يبتعد بوليفة عن رأي بوزيان في استبدال المنتجين اللحن بالتكنولوجيا التي سهلت مهمتهم، وأصبح التركيب المحرك الأساسي في الإنتاج الفني الذي يقدم اليوم ما يعرف بـ"الشرابية" على حد قول بوليفة، وتنتج لها أشرطة فيديو كليب ودعاية وقضي الأمر. غير أن بوزيان لا يرى في المستمع الجزائري غير ذواق، لأن الجزائري الذي يردد ألحان كبار الفنانين العرب باستطاعته أن يهتف لأي لحن جزائري في المستوى، لكن هذا الأخير غير متوفر، والوسط الجزائري لا زال يملك من الحناجر الصداحة أمثال المناعي، بلاوي الهواري وخليفي أحمد وآخرين، لكنهم للأسف مهمشون. واستشهد بوزيان بمقولة عملاق الأغنية القبائلية شريف خدام "لما كنت كبير صغرتوني ولما صرت صغير كبرتوني". وفي هذه النقطة قسم بوليفة المستهلك الجزائري إلى قسمين، عينة منه وهي الغالبة تتوجه توجه السوق وما يسيطر عليه من ألحان، بغض النظر عن النوعية، وفئة قليلة لا ترضى إلاّ بالنوعية، لكنه طلب غير متوفر في السوق الحالي، لذلك فهي تعيش على الأطلال. وأضاف أن شباب اليوم لا يبحث عن أغنية النص الجيد واللحن المدروس بقدر اهتمامه بأغنية الإيقاع. وأضاف بوليفة أن التلحين الموسيقي يتطلب توفر شروط هي الموهبة، الاستعداد الموسيقي والأذن الموسيقية، إلى جانب الاجتهاد والاستمرارية، لكن جل من يتوجهون اليوم إلى الفن لا يختارونه عن حب وقناعة، وإنما بحثا عن الشهرة والنجومية أو رغبة في الربح السريع. التكوين لإعادة الاعتبار للحن الجميل وعن كيفية إعادة الاعتبار للحن الأصيل والراقي، قال بوزيان أن ذلك يتطلب صحوة فنية وثورة ثقافية، يقودها كبار الملحنين في الجزائر ويفعلها الإعلام الذي باستطاعته إضاءة هذه الزاوية. وأضاف "يجب أن يكون الفن صادقا ويخدم رسالة نبيلة حتى نتمكن من تصنيف الشعراء، الملحنين والفنانين والموزعين"، خاصة وأن السياسة التي انتهجت في السابق وصنعت كبار الملحنين والفنانين غائبة اليوم، ناهيك عن غياب الدورات التكوينية، الأيام الدراسية، الأسابيع الثقافية، وكل ذلك يتطلب إعادة رسكلة تامة وشاملة للفن في الجزائر. وفي هذا الصدد، يرى بوليفة أن التكوين هو الحل الوحيد لإعادة الاعتبار للحن الجميل، لأن غيابه صنع العديد من الفجوات في حقل الإبداع الفني وعلى رأسها مجال التلحين، لأن الإبداع، حسبه، يتغذى من التكوين، ووجود هذا الأخير إن لم يضمن تخرج ملحنين، فالأكيد أنه سيقدم عازفين في المستوى، مركزا على ضرورة التكوين في سن مبكرة، إلى جانب تعويد المستمع على اللحن الأصيل، ولا يقصد بذلك العتيق، وإنما اللحن الراقي، من خلال إعادة بعث الأغاني الراقية التي قدمت في السابق، وإعادة بناء أوركيسترا الإذاعة مثلا، وكذا العودة إلى اعتماد لجان النصوص. وقال بوليفة "نحن اليوم شخنا ولا وجود للخلف الذي سيحمل على عاتقه مهمة إكمال الدرب". وأضاف "منذ سنوات وأنا أنتظر الاستماع ولو إلى أغنية واحدة تضم جملة موسيقية جديدة، أو نظما جميلا، لكن إلى غاية اليوم لم يحدث ذلك".


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)