قبل قرابة ال60 سنة من الآن، تنبأ عالم الاتصال الكندي، مرشال ماكلوهان، بتحول العالم إلى قرية صغيرة، بفعل تأثير وسائل الإعلام والحاسبات الإلكترونية، مصطلح ماكلوهان ليس سوى عبارة بسيطة، أمام جسامة تأثير التكنولوجيا في المجتمعات، والتي بقدر إيجابياتها في خلق فضاءات للتواصل والتعارف بين البشر وتسهيل حياتهم اليومية، إلا أنها أحدثت شروخا ورضوضا في علاقات الأفراد ليس مع المحيطين بهم فقط، بل حتى مع أنفسهم! من هن، إنتقل الخطر من الفرد وأضحى يهدده بمعية الجماعة، فالاستغلال والاستخدام السلبي والسيء لهذه الفضاءات الافتراضية على غرار (الفايس بوك) الذي أضحى يشكل خطرا على المجتمعات وعلى أمنها القومي والأكيد أن الجزائر ليست بمنأى عن هذا الخطر الداهم! بعد الحرب العالمية الثانية، تدحرج مفهوم الأمن القومي، نحو تصور جديد، والذي لا يعني حشد الدولة لجيشها من أجل الذود عن حدودها عسكريا وحماية شعبها من العدو، بل تجاوز ذلك المفهوم التقليدي، إلى مفهوم آخر إرتبط أكثر بانعكاسات العولمة وتكنولوجيات الإعلام والاتصال، خاصة بعدما أصبحت هذه الحدود مخترقة والخصوصيات الاجتماعية والثقافية مهددة بفعل التكنولوجيات بكل تجلياتها الحديثة، هنا يبرز الفايس بوك كأكبر منصة تفاعلية على وجه المعمورة (16 مليون مستخدم بالجزائر، إحصائيات 2017)، يتم استخدامها واستغلالها من قبل منظمات وجماعات اجرامية قد تكون خطيرة، مما يشكل، بدون أدنى شك، تهديدا حقيقيا على إستقرار الدول سواء سياسيا، أمنيا، اجتماعيا، اقتصاديا، وثقافيا، وهذا من شأنه أن يمس عمق الدولة والمجتمع ويضرب أساسهما في الصميم وهو الفرد، لكن السؤال المطروح كيف يمكن لموقع افتراضي القدرة على تهديد أمن قومي لأي بلد على غرار الجزائر؟ لما يحذر الرجل الأول في البلاد ورئيس الجمهورية، عبد العزيز بوتفليقة، من الفضاء الافتراضي (الفايس بوك.. وغيره ) ويؤكد أنه أضحى تحديا أمنيا حقيقيا للبلدان العربية والجزائر بوجه خاص، لأنه تحول إلى ملاذ للتنظيمات الإرهابية، فنحن أمام إعتراف فعلي، بوجود تهديد حقيقي يضع الأمن القومي للبلد على المحك، يستوجب على إثره بناء إستراتيجية متكاملة من أجل تجنب تبعاته. عدة تهديدات قد تنجر عن الاستغلال السلبي لموقع التواصل الاجتماعي (الفايس بوك) على الأمن القومي الجزائري، يمكن أن نلخصها في عدة جوانب، فسياسيا، يتم استهداف الدولة داخليا من خلال محاولة ضرب وحدتها الوطنية واستقرارها الاجتماعي، وما أحداث الزيت والسكر سنة 2011 والتي ساهم هذا الموقع في تأجيجها، سوى دليل على ذلك، ونفس الشيء فيما يخص أزمة غرداية سنة 2014، حيث تم استغلال هذه المنصة من أجل الترويج لها ما زاد من تأجيجها، الأمر الذي هدد استقرار كيان الدولة في تلك المنطقة، استدعى تدخل الجيش لوضع حد للأزمة. مجلة الجيش ، لسان حال المؤسسة العسكرية، تحدثت في عددها لشهر فيفري الماضي، عن جدية الخطر الذي قد يداهم الجزائر من خلال هذه الفضاءات الافتراضية (الفايس بوك)، حيث قالت أن التطورات التكنولوجية التي شهدتها وسائل الاتصال إلى تعدد التهديدات المترتبة عن استخدامها، حيث دخل الإرهاب العابر للأوطان حقبة جديدة ، مؤكدة أن نمط الإرهاب الحالي يأخذ شكل الإرهاب التقليدي الذي يتكون من تنظيم وهيكل متمركز في مناطق محددة والذي كان من اليسير القضاء عليه، في حين أن استخدام وسائط التواصل الاجتماعي جعل التنظيمات الإرهابية عابرة للأوطان وللحدود، بشكل تصعب السيطرة عليه بغلق الحدود وتأمينها ، وهذا في رأيي قد يصعب من مأمورية الدولة في الجانب العسكري من أجل تأمين كل فضاءاتها سواء (الجغرافية أو الافتراضية)، رغم أن الجزائر تلاحق كل مرة هذه المجموعات الإجرامية، وتحبط نشاطاتها الإرهابية وعلى أكثر من صعيد، إلا أن التهديدات في اختراق الحدود تبقى قائمة سواء في الواقع أو عبر الفضاءات الافتراضية!. بشكل جلي، تبرز أيضا تأثيرات استخدام الفايس بوك الخطيرة والسلبية في الواقع الاجتماعي الجزائري، وتتمظهر في عدة أشكال على غرار انتشار عمليات الابتزاز، والجرائم الإلكترونية، والمتاجرة بالأسلحة وحتى الممنوعات عبر مجموعات مغلقة، والأكثر من ذلك أصبح الفضاء الافتراضي وسيلة للقتل من خلال انتشار الألعاب الإلكترونية التي ما فتأت تخلف ضحايا في المجتمع، على غرار الحوت الأزرق ، الذي قتل عشرات الأطفال والمراهقين الجزائريين، الأمر الذي جعل وزيرة البريد وتكنولوجيات الإعلام والاتصال، هدى فرعون، تعلن حالة استنفار قصوى، ووصل بها الأمر أن هددت بحجب الفايس بوك نهائيا من الاستخدام على خلفية الرعب الذي بثته لعبة الحوت الأزرق في وسط العائلات الجزائرية، كإجراء ردعي لتوقيف زحف عمليات الانتحار التي يقوم بها الأطفال والمراهقون من خلال لعبة الموت تلك!.. تهديد فرعون نفذته وزيرة التربية، نورية بن غبريط، من خلال قطع الأنترنت نهائيا في بكالوريا 2018، لساعات من الزمن لوضع حد لتسريبات مواضيع الامتحانات عبر مواقع التواصل الاجتماعي كإجراء احترازي لعدم تكرار سيناريو 2016 و2017 الذي ضرب مصداقية أهم شهادة في البلاد!. بالرغم من الأموال الطائلة التي تدفعها الجزائر من أجل شراء تدفق الأنترانت، إلا أن 80 بالمائة من استخدامات هذه الوسيلة يتم استغلالها في التواصل الاجتماعي والدردشة، حسب تصريحات وزيرة البريد وتكنولوجيات الإعلام والاتصال، وهو إستنزاف كبير للخزينة العمومية، والأكيد أنه سيؤثر سلبيا على أمنها القومي في بعده الاقتصادي. (جيل الفايس بوك) هي العبارة الأكثر تداولا بين الجزائريين خاصة الأجيال التي لا تعرف استخدام الانترنت وفضاءات الدردشة، للتعبير عن الشباب الذي يستخدم الفضاء الأزرق، وككناية عن معنى آخر، يوحي بعدم محافظتهم على القيم الاجتماعية والثقافية الجزائرية، وتعويضها بقيم أخرى استهلاكية بعيدة كل البعد عن قيم المجتمع الجزائري، ربما يكون هذا الحكم قاسيا إذا عمماناه بتلك العبارة، لكن تكمن فيه بعض الحقيقة، حيث أن هناك الآلاف من الشباب الذين أثر استخدام الفايس بوك على قيمهم الثقافية وهذا من شأنه أن يجعلهم فريسة سهلة لقيم بعيدة عن الخصوصية الثقافية الجزائرية، وهو الامر الذي قد يهدد الامن القومي الجزائري في بعده الاجتماعي والثقافي!. أخيرا، وبالرغم من الجهود التي قد تتخذها الدولة في حماية أمنها القومي في كل أبعاده وجوانبه، إلا أن الفرد يبقى هو اللبنة الأساسية والرئيسية لهذا المفهوم (الأمن القومي)، باعتبار أنه يمتلك الحرية في استعمال هذه المواقع الافتراضية، وبالتالي، عليه أن يتحلى بالمسؤولية والوعي الكافيين، أمام هذه الفضاءات التي قد تكون محل تهديد له على المستوى الشخصي ولمجتمعه ولأمن بلده القومي!.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 21/06/2018
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : المشوار السياسي
المصدر : www.alseyassi.com