الجزائر

الغذاء ولعبة المصالح



 حاول المنظّرون فك شفرة التوفيق بين مبادئ الحرية الاقتصادية وضمان العدالة والمساواة، من ابن خلدون إلى آدم سميث وجورج سوروس، وساهموا في بلورة تصورات اعتمدت الواقع كأساس لدراسة تطور الثروة وتوزيعها، لكن مع وضع ضوابط لها تمنع الحرية من أن تؤدي إلى الفوضى وتمنع الدولة الراعية المسيطرة على الاقتصاد والمجتمع والسياسة من أن تصبح طاغية ومكبلة للإنتاجية وروح المبادرة.
ما حدث في بلادنا هو تعدد التجارب من أقصاه إلى أقصاه، فمن تجربة التسيير الذاتي إلى الاشتراكية الموجهة والصناعة المصنعة، فالليبرالية، والليبرالية المقيدة، أضحى الاقتصاد الجزائري هجينا إلى درجة لم تعد هنالك قدرة موضوعية لتحديد معالمه باستثناء أنه يرتكز على اقتصاد سلطاني هو المحروقات، وعلى منطق توزيع غير متكافئ للثـروة والريع النفطي، فمن التصنيع إلى إزالة التصنيع، ومن الزراعة إلى كسر الزراعة على حساب الصناعة، ثم المرحلة الانتقالية التي امتدت لعشريتين على الأقل، لا وجود إلا لمنطق واحد هو منطق الاحتكار غير المرئي أو الذي يخضع لاتفاق ضمني متعارف عليه من قبل أباطرة الاستيراد أو التجارة، احتكموا على ريع من الريوع تراوح ما بين 5 إلى 10 ملايير دولار سنويا، ويتم تقسيم هذا الريع بالتراضي والتوافق، ولكن أيضا باستعراض القوة أحيانا.
ومن الدروس المستخلصة إلى جانب الطابع الريعي الاصطناعي للاقتصاد الجزائري، التنبيه إلى بروز مراكز قوة ونفوذ ومصالح في عدد من النشاطات والقطاعات الحيوية، التي رسمت عليها خطوط حمراء، لأنها تضمن إيرادات ومداخيل سنوية كبيرة، على رأسها الغذاء والدواء، وهذا المنطق هو الذي حدد معالم توزيع غير عادل للثـروة والدخل وساهم في تباعد الدخل بين أغنى فئات المجتمع الذي لا تتجاوز نسبتهم الربع، أي أقل من 25 بالمائة يمتلكون أكثـر من 60 بالمائة من الثـروة والدخل، حسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة للتنمية، في وقت كانت الدولة نظريا تلعب الدور الأكبر في الاقتصاد وإدارة السياسة الاقتصادية وتتحكم في توزيع الثـروة وإعادة توزيعها وتحدد الأدوار لشرائح المجتمع وطبقاته، لكنها بالمقابل ساهمت في إرساء شرخ كبير، إلى درجة أضحت فيها الطبقة المتوسطة شبه منعدمة، ناهيك عن اختفاء الطبقة المثقفة وبروز ما يعرف لدى أنطونيو غرامشي المثقف العضوي الذي يقوم بإعادة بناء وصياغة الخطاب الإيديولوجي للسلطة ويبرز توجهاتها أيا كانت تناقضاتها وأخطاؤها.. صحيح أنه من الصعب الذهاب بعيدا في منطق الليبراليين الجدد، أمثال ميلتون فريدمان وهايك ونوزيك، الذين يعتبرون العدالة الاقتصادية والاجتماعية المطبقة من قبل الدولة منافية للحرية، والدولة أقوى معيق للحرية، وهو ما كذبته تجربة الأزمة المالية الأخيرة، إلا أن طغيان الدولة ومنطق الانغلاق والانعزال ولد تناقضات أفضت إلى مزيد من الفساد واللامساواة واللاعدل وإلى مزيد من التذمر على واقع مزر حذر منه علي بن أبي طالب بقوله: احذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه ويكره لعامة الناس.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)