مقدمة :
كانت حرفة والده سراجا للبندقية ، مما جعله يشعر بصعوبة الحياة، وعقد العزم على أن يعلم أبناءه حتى ييسر لهم سبل العيش، وينقذهم من الحالة المزرية التي كان عليها الأهالي يومئذ . وكان يستعين بأبنائه الكبار في حرفته مثل : عبد القادر وعلي ومصطفى، الذين لم تتوفر لهم فرص الدراسة نتيجة فقر والدهم . ولم يسلم من هذه المهنة الشاقة سوى اثنين من أبنائه هما الشيخان : الطاهر وأحمد اللذان نبغا نبوغا كبيرا في ميدان الفقه الإسلامي واللغة العربية بمختلف فنونها وألوانها .
مولده ونشأته :
ولد العلامة الشيخ الطاهر في حي أولاد أحمد بمدينة الوادي خلال عام 1304ه/1886م بعد سبعة أشهر من حمله، فلفته أمه ضية بنت بالقاسم مراد في جزة من الصوف . و دأبت على تغذيته بقطرات من لبنها صباحا ومساء بكل تحفظ ورفق . ولما مر على ولادته شهران ، استهل صارخا . وكانت تلك هي صرخة الميلاد الأولى. ففرحت أمه، ونهضت على الفور لتصنع له لباسا . وتربى في كنف والديه .
دراسته وتعليمه :
لما انتقل أبوه إلى مدينة ورقلة القديمة للعمل هناك، أدخله إلى مدرسة الشيخ جلول حابي (1255- 1343هـ/ 1839-1924م) بوسط المدينة، ودرس عليه القرآن الكريم في بيته مع عدد كبير من الطلاب . غير أن إقامته لم تطل، فرجع أبوه إلى مسقط رأسه، و أدخله عند الشيخ العزوزي الجديد . ثم درس في جامع سيدي سالم مع شقيقه أحمد على الطالب علي حليلات بن مبروك، الذي اشتهر باسم علي بالرقية . ثم أدخلهما إلى جامع النخلة بحي أولاد أحمد، القريب من مسكنه . وختم الشيخ الطاهر القرآن الكريم، وتمكن من حفظه وإتقانه على الشيخ إبراهيم بالقايد قبل سن البلوغ . إذ بلغ عمره حوالي تسعة أعوام . ورافق الشقيقين في الدراسة، ابن عمتهما مبروكة بنت علي العبيدي، وهو الأديب الكبير والصحفي القدير الأمين بن يوسف العمودي، أول أمين عام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومن مؤسسيها الأوائل . ولم يدخل الشيخ الطاهر المدرسة الفرنسية قط . وقد حكى لي شيخي أحمد العبيدي أن أخاه الشيخ الطاهر عندما يهم بالذهاب إلى الجامع مبكرا في بداية الأسبوع، أي يوم السبت، يرفع رأسه للأعلى ويقول لأخيه أحمد : انظر إلى السماء، إن هذا اليوم هو يوم أسود لأنه يوم اليهود . أما في نهاية الأسبوع ، أي يوم الأربعاء، عندما يكون الشيخ حينها مقبلا على العطلة الأسبوعية، فيقول لأخيه : انظر إلى السماء ! إن هذا اليوم هو يوم أزهر، يضوي وحده، لأنه نهار المسلمين .
تعلم الدروس الشرعية واللغوية :
حين ظهرت عليه بوادر النجابة ومخايل الذكاء في سن مبكرة ، شرع في دراسة العلوم الشرعية واللغوية، وحفظ المتون المعروفة في التفسير والفقه والحديث والأصول ... وتفتقت عنده الملكة الفقهية، وهي بمثابة الرصيد المخزون الذي راح ينمو باضطراد عجيب، ويتصاعد وفق خط بياني واضح في حياته العلمية .
ثم صار يتردد على حلقات دروس مشاهير وأعيان من علماء العصر من أرض سوف مثل : الشيخ عبد الرحمان العمودي الذي كان أول من قرأ عليه في داره بالمصاعبة (دار الطالب) علم القراءات ومتن ابن عاشر ورسالة ابن أبي زيد القيرواني ورسالة الشيخ السفطي والتوحيد والحديث النبوي . ثم واصل تعليمه على يد العالم الهمام، الشيخ محمد العربي موساوي الذي درس عليه علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة... وتم ذلك في زاوية سيدي سالم . وقد تفتحت على يديه مواهبه اللغوية والعلمية . وكان أشياخه يجلونه، ويقولون هو أوفر من قرأ علينا عقلا، وأكثرهم تحصيلا . فما رأينا من التلامذة أنجب منه . كان في ذلك موضع إعجاب شيوخه من فرط ذكائه .
كما تتلمذ على الشيخ القاضي عمارة من قرية " تاغروت " . و كان يحضر دروس الباش عدل، الشيخ الصادق بالهادي العقبي (1869- 1939) مع صديق طفولته، الشيخ إبراهيم بن عامر( 1875- 1932) ، لأن الشيخ الصادق بن محمد الهادي كان يتبرع بدروس في زاوية سيدي سالم بالوادي . ومن هنا ، نفهم أن تلمذة الشيخ العبيدي على الشيخ الصادق بالهادي كانت من تلك الدروس في الزاوية . وقد نصحه الشيخان عبد الرحمان ومحمد العربي بمواصلة الدراسة بجامع الزيتونة .
دراسته في تونس:
لما بلغ من العمر ثماني عشرة سنة، أي عام 1322هـ/1904م، شد الرحال إلى جامع الزيتونة المعمور، ودرس هناك على يد كل من : الشيخ الطاهر بن عاشور والشيخ محمد الخضر بن الحسين والشيخ أحمد بن مراد والشيخ حسن بن يوسف والشيخ محمد النجار والشيخ أحمد البنزرتي والشيخ صالح الهواري والشيخ خليفة بن عروس والشيخ النخلي والشيخ ابن محمود وغيرهم . كما أخذ الإجازة بالمراسلة من الأستانة عن الشيخ محمد المكي بن مصطفى بن عزوز الذي هاجر إلى تركيا، وتوفي فيها عام 1915م .
ولما مرض الشيخ محمد العربي، عاد إلى الوادي، فقال له طلبته من سكان تقرت : إنك تركتنا بدون شيخ، فأجابهم على أنه سوف يخلفه تلميذه، الشيخ الطاهر بعد وفاته . ولما كان الشيخ الطاهر لا يزال يطلب العلم بالزيتونة، توفي شيخه محمد العربي يوم الأربعاء 17 ذي الحجة عام 1322هـ/ 22 فيفري 1905م، فرثاه بقصيدة مؤثرة وهو لم يبرح تونس .
رجوعه إلى مسقط رأسه :
لم يمكث الشيخ الطاهر أكثر من ثلاث سنوات في تونس، ذلك أن ظروف والده المادية كانت متدهورة . فعاد إلى بلاده دون أن يكمل تعليمه العالي . وقام بزيارة شيخه ومعلمه للقرآن في ورقلة الشيخ جلول حابي، إقرارا بفضله وتقديرا لجنابه .
استطاع الشيخ الطاهر أن يواصل دراسته عصاميا اعتمادا على مصادر الفقه الإسلامي واللغة العربية . وتصدى لنشر العلم والمعرفة في أوساط الناس، ومن مختلف الطبقات، بجامع سيدي المسعود بسوق الوادي وجامع النخلة، وهو يتدفق حيوية، ويزخر بالعلم، وبما أنعم الله عليه . وكان يحس أن على كاهله أمانة ثقيلة ورسالة شاقة، فآل على نفسه الاضطلاع بها . تصدى لنشر الثقافة الإسلامية وتعليم الناشئة، غير أنه لم يطل به المقام في البلد الذي درج فيه طفلا، وترعرع فيه شابا، وتقلب بين جوانحه يافعا، حتى وجد نفسه مضطرا إلى مغادرة الأسرة والقبيلة، تاركا العشيرة والبيئة، متجها نحو مدينة تقرت .
رحيله إلى تقرت وعمله هناك:
رحل إلى مدينة تقرت عام 1326هـ/1907م، أي عندما بلغ 22 عاما ، وأصبحت هي موطنه ومحل إقامته . واستقر فيها استقراره النهائي الذي دام ما يفوق الستين سنة تنفيذا وفيا ومخلصا لوصية أستاذه محمد العربي بن موسى الذي أشار عليه أن يخلفه في الإمامة والتدريس بالمسجد الكبير بحي مستاوة بمدينة تقرت . كان ذلك الانتقال بداية عهد جديد، وكان أيضا بداية للاضطلاع بمهمة جليلة، مثقلة بالمسؤوليات، وكان كذلك بداية لرحلة في مجال الخطابة والتأليف والإفتاء والاطلاع الواسع الذي لا يعرف التوقف والانقطاع، رحلة مليئة بالعطاء والتبليغ وهداية الخلق .
جلس في أول درس بالمسجد الكبير، متقدما الحلقة والعيون تراقبه بإيعاز من المسمى حمه علي كافي ، اختبارا لمقدرته العلمية والأدبية . واستفتح الدرس الأول من متن ابن عاشر. وصار يتبحر في الشرح والتعقيب والاستدلال، حتى شهد له الجميع بالكفاءة التامة . وشرع الناس يتوافدون على دروسه كبيرا وصغيرا، زرافات ووحدانا .
صفاته الخلقية والأخلاقية :
كان فارع القامة، أسمر البشرة بخلاف أخيه أحمد الذي كان طويل القد ، أحمر الخد . وكان الشيخ الطاهر هادئا ومسالما . يتصف بالرزانة، ويغلب عليه طابع الحياء .
إنه عالم عامل، جهوري الصوت، طيب المعشر، يعامل طلابه وكأنهم أبناؤه . و كان بمثابة الصديق الحميم والأخ الكريم . كثير الحياء، عندما يمشي لا يلتفت يمينا ولا شمالا كأنما على رأسه الطير، بل ينظر أمامه حتى يغض بصره عن كل شيء . لا يتحدث في أحد، ولا يعيب أحدا . قليل الكلام، لا يتكلم إلا بمقدار . قال فيه الشيخ خليل بن مصطفى القاسمي : عندما حضر الشيخ الطاهر في الزاوية القاسمية بالهامل، تجادل جماعة من العلماء في حضرته، فعلق على ذلك الشيخ قائلا : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . وقال الشيخ محمود القروي (1915-2003) عندما يذكر أحد بسوء في حضرة الشيخ الطاهر، يقول : هذا خلق الله .
لا تفارق الابتسامة محياه، حليم، مقتد بربه، ومتخلق بأخلاق أنبيائه وأوليائه . بعيد عن المكاره والأنكاد . وقد قال فيه الحاج أحمد جاري، إمام الجامع الكبير، المشهود له بالتقوى والثقة، لما سئل عنه، أجابهم بما يلي: " لو وجدت شيئا يستحق النقد أو الملاحظة، لصرحت به ؛ ولكن ما عساي أن أقول ؟ إن الشيخ طيب القلب، مخلص في العمل، ومتخلق."
وكان الشيخ الطاهر مليح التوسل، كثير التودد، سمح السمت، طلق المحيا، عذب النطق، متواضعا بشوشا، وفيا ، لين النصح لعامة الناس . وكان تقيا عفيفا، طاهر القلب، كريم النفس، عالي الهمة . لم يتدنس عرضه بأذى، ولم تصب عين كماله بقذى ، ولم يقف موقفا يزين فيه لريبة، ولم يعثر له على ما يخدش في كماله وفضله، أو يحط قدر شرفه ونبله . وقد سمعه نجله المكي يقول : "ما ترتب علي حكم السهو في الصلاة، ولا قرنت صلاة مع أختها، ولو كانتا مشتركتي الوقت طول عمري".
كما ذكر نجله الشيخ المكي أن أحد زملاء والده ذكر له أنه تخالط مع الشيخ الطاهر منذ نعومة أظافره، وبقيت العلاقة حتى اليوم ، وها نحن قد بلغنا من الكبر ما بلغنا . فهو عفيف، تقي من زمن الصغر، إلى حد هذه السن . وقد جازاه الله عن ذلك في الدنيا، كما سيجازيه في الآخرة . ففي الدنيا، قد مَنَّ الله عليه بالصحة والعافية والاستقامة . فكان موفور القوة، سليم البنية، معافى من الأمراض والعاهات والآفات . وقد بلغ هذه السن وهو يطالع بدون نظارات .
مقدرته العلمية :
الشيخ الطاهر أحد العلماء الذين نشأوا وترعرعوا في سوف، ودرسوا ودرّسوا . إنه العلامة الفقيه الأصولي، الأديب، الحجة، المتصوف . و كان الشيخ حازما في أعماله، ضابطا موفقا، لا يتخلف عن الدرس مهما كانت الضرورات والحوادث . حكى عن نفسه فقال : " مات لي ولد، فدفنته في الصباح ، ومن الجنازة ذهبت إلى الجامع، وباشرت الدرس."
تمكن من احتلال مكانة مرموقة، جعلت منه الحجة الدامغة، والبرهان الساطع . وكان قوي الحجة، ومفسرا رائعا ، ومفتيا بارعا . غير أنه يتهيب من الفتوى ولو كان السؤال في القواعد النحوية . وقد طرح عليه قريشي بن علي المنصوري سؤالا في إعراب جملة (نحن الْعَرَبَ أسخى من بذل ) عن إعراب العرب بالنصب . فأحاله الشيخ الطاهر لأخيه أحمد . فأقسم عليه بأن يتلقى الجواب منه شخصيا . فاضطر أن يجيبه على أن (العرب ، اسم منصوب على الاختصاص) . كان الشيخ يوصي المستفتين بالاتصال بشقيقه أحمد الذي كان أجرأ منه في الفتوى . وكان لغويا محنكا لا يشق له غبار . قوي الذاكرة، ملما بأغلب المتون الفقهية والنحوية .
منح الأستاذ الإمام الطاهر العبيدي للرسالة التي أنيطت به، كل ما يمتلك من مجهود علمي، ولم يبخل بكفاءته التي راحت تتنامى وتزيد مع الأيام . وكانت تجربة دسمة بالثراء الفكري والرؤية النيرة التي تدفع عن هذا الدين الشبه التي يثيره المبطلون، ويروج له المرجفون الذين يتربصون بالإسلام، ويتابعون مسار رسالته. ومن أجل ذلك، لم يتخل الشيخ الطاهر العبيدي يوما واحدا عن أداء هذه الأمانة منذ أن تحملها سنة 1907م، وقام بها أحسن قيام، وأدى ما عليه نحو ربه ودينه وأمته، رغم الظروف غير الملائمة في كثير من الأحايين، وافيا غير منقوص إلى آخر يوم في حياته . وكان الشيخ العبيدي-وحده- عالم منطقة ورقلة وفقيهها المجتهد، ومثقفها الأكبر، لا يشاركه في ذلك مشارك طيلة ستين سنة.
كما اضطلع بمهمة ثقيلة في مجال الخطابة والإفتاء والاطلاع الواسع والتأليف . ومنح لرسالته أقصى جهوده العلمية. . فهو إمام في الفقه، ومن فيه تؤخذ أحكامه . وكان من أعلم فقهاء زمانه، حتى لقب بخزانة الفقه . وأما الأصول، فهي فرع من علومه، والمنطق مقدمة من مقدمات مفهومه . وأما النحو، فلا كلام فيه لأحد سواه، يطلق عليه سيبويه الأصغر. وإن نظرت إلى المعاني والبيان، فهما أنموذج مزاياه . إذا استخدم القلم، أبدى سحر العقول . وإن جرت الحروف على وفق لسانه، وقف بين المعقول والمنقول . وإذا ناظر، عطل من يجاريه مجاري الأنفاس، واستنبط من بيان منطقه علم الجدل والقياس . لا يتحدث في فن إلا ظن سامعه أنه لا يحسن غيره . فهو فرد العصر الذي لا نظير له : ذكاء، وفطنة، وفصاحة . كثير التحصيل للعلوم في كل فن، واسع الدراية والرواية، مفخرة زمانه، مجتهد في أعماله لإعلاء شأن دينه ووطنه. لقد بلغ درجة الاجتهاد في الاستنباط، وتأسيس القواعد، وتبيان المقاصد التي لا يدريها ولا يحيط بها إلا من وقف على حقائقها .
كان له إقبال بارع في الجنوب، ولا سيما في تقرت، والوادي، وورقلة، والزاب، وعروش أولاد نائل .
منهجه في تفسير القرآن :
شرع الشيخ الطاهر في تفسير القرآن الكريم ابتداء من الآية الكريمة التي توقف فيها شيخه محمد العربي موساوي:﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ . وكان الشيخ يستعد استعدادا كاملا في تحضير درسه، معتمدا على أهم التفاسير المشهورة حينئذ. كما كان يقتدي دائما بشيخه محمد العربي موساوي عندما يستفتح الدرس بالمقطع التالي:
يا من يرى ما في الضمير ويسمـع أنـت المعـد لكـل مـا يتـوقــــــــــع
يا مـن يرجى في الشـدائد كلهـــــــــا يا مـن إليه المشـتكى والمفــزع
يا من خزائن رزقـه في قــــــــول كــن امنـن فـإن الـخير عنـدك أجمــــع
ما لـي سـوى فقري إليك وسيلـــــة فبالافـتقار إلـيـك فقـري أدفـــــــع
مـا لي سـوى قرعي لبابك حيلـــــــة ولـئن رددت فـأي بـاب أقـــــــــرع
ومـن الـذي أدعو وأهـتف باسمـــــه إن كـان فضلك عن فقيرك يمنع
حـاشا لجودك أن تقنط عاصيـــــــــــا الفـضل أجـزل والمـواهب أوسع
ثـم الـصــلاة عـلى الـنبي وآلــــــــــــه خيـر الأنـام ومـن به يتشفــــــــــــع
و يكتفي الشيخ بشرح آية أو آيتين في اليوم ، و يميل في تفسيره إلى الأسلوب القصصي، متمعنا ومتفحصا من جميع الجوانب العقائدية والتشريعية والبلاغية واللغوية والتاريخية . وقد أكمل التفسير كاملا يوم الثلاثاء في العاشر من محرم عام 1353هـ/24- 4- 1934م . حيث استغرق مدة ثمانية وعشرين عاما، أو اثنين وثلاثين عاما. ولم يهتم الشيخ بتدوين التفسير، بيد أن بعض تلامذته قد كتبوا أجزاء منه لا تزال مخطوطة في كراريس مع الكثير من الفتاوى والبحوث الأصولية . لكنها - مع الأسف- مبعثرة عند تلامذته وحفدته . وضاع منها الكثير، مما جعلنا نفتقد إلى كنز ثمين، غير قابل للتعويض مطلقا .
الاحتفال بختم تفسير القرآن :
عاشت تقرت مهرجانا منقطع النظير، لم تعرف مثيله لا قبلا ولا بعدا . وقد روى ابنه الشيخ المكي أنه قدم جمع غفير من كل الأماكن، مثل : الجلفة وبوسعادة وورقلة، وأحضر لذلك ثلاثمائة قصعة طعام .
وكان موعد الاجتماع على الساعة الثامنة مساء، حيث اكتظ الجامع العتيق بعدد كبير من الوافدين من عقلاء وعلماء وموظفين، لا يسعهم المكان لبلوغ عددهم تقريبا ثلاثة آلاف . وقد ابتهج الحاضرون ابتهاجا كبيرا . وقام أهل البلد بنحر الذبائح وإطعام الطعام الذي توافد عليه الفقراء إلى النصف الليل الأخير . وعقب تناول الفضلاء المدعوين العشاء في دار سي الحاج عمر السنوسي، توجهوا نحو الجامع، وأخذ كل من الحاضرين مكانه . ثم دخل الشيخ الطاهر العبيدي للجامع المفروش بالزرابي المبثوثة والإنارة الضوئية الساطعة، وجلس على كرسي على الأفرشة القيروانية . وبدأ في أداء التحية، ثم تلا آيات الختم، وشرع في تفسيرها ببلاغة نادرة، وفصاحة شاملة . وبعد إنهاء كلمته، قام الشيخ أحمد العبيدي لإلقاء قصيدة، أناب عنه في إلقائها شقيقه الشيخ الطاهر الذي أجاد الإلقاء . وهي قوله :
نـزل الـكتـاب المحـكم الآيـــــــــات يبـدي لنا الـماضي وما قد ياتي
فتراه يا باغـي الديانة والهــــــدى مسـتجمع الأحـكام والرغبــــــات
من أكبـر الأشيـاخ بـدر دياركــــــم الطـاهر النحـرير ذو الـنفحــــات
قد جاء مثل الغيـث في تفسيره للــــــــــــــه درك يا أبـا البركـــــــات
وقام بشرح ألفاظها وتحليل معانيها أحمد التقرتي . ثم ألقى قصيدة أدهش مبناها الحاضرين . ثم تلاه الشيخ الحشاني بن العمري الذي ألقى خطابا بليغا نوه فيه بالشيخ، وطلب من الحضور تعليم أبنائهم . وقام بعده الأديب عبد السلام كافي الذي ألقى خطابا أطرب فيه السامعين . وعلى إثره قام عبد القادر بن أحمد بورنان التقرتي الخوجة بإلقاء كلمة بليغة . وقام بعده شرف الدين بن إبراهيم بن العربي، الوكيل الشرعي بتقرت، وألقى خطبة طويلة ممتعة . ثم حذا حذوهم بقية الطلبة، كل على حسب فصاحته . ثم قام الأستاذ سيدي الكافي وارتجل خطابا حث فيه الناس على المشاريع الخيرية، واستجاب الناس لخطابه . ثم ختم الشيخ الطاهر الحفل بإلقاء خطبة وقصيدة، بين فيها فضل التفسير على غيره . وأوضح منهج السالكين طرقه من المتقدمين والمتأخرين، ونوه بشأن من نوه به . وأثنى على الذين أحضروا موائد الإفطار لهؤلاء الضيوف . ثم ختم الحفل بإلقاء مولد البرزنجي . وكان مجموع ما ألقي من خطبة وقصيدة ستة عشر خطيبا . ثم وزعت أجزاء القرآن الكريم على الحاضرين . واستمر الحفل حتى الصبح . وفي أثناء ذلك، نصبت موائد الحلويات والشاي . ثم انصرف الناس على غاية من السرور . وكان هذا اليوم يوما غريبا، والاحتفال عجيبا . أدهش عقول الحاضرين .
منهجه في الفتوى والتدريس:
لقد تضلع الشيخ الطاهر في علم أصول الفقه تضلعا كبيرا، وذلك لإحاطته بالقواعد الكلية للشريعة، وهذا يعود إلى اقتنائه الكبير لكتب العلم والاشتغال بالبحث والتمحيص . واكتسب ملكة فهم واسعة المدارك . واشترط فيمن تتوفر فيه صفات المفتي أن يكون متصفا بالعلم والتقوى، حيث قال:
وكـل مـن يفـتي بـلا نص جفا وفي بطون الـكتب علم كفى
وقـل لمـن أفـتى وليس يدري أكـثـر فتوى مـالــــــــــك لا أدري
فـلا تـقلـد أي مفـت مطلقــــــا إلا إذا شـاع بـعلــــــــم وتــقــــى
كانت فتاويه تصدر محررة مدققة، مملوءة فقها ووضوحا . ودام على هذا الحال إلى أن لقي ربه . وإن من أهم وسائل الإرشاد في عصره، نشر العلوم الدينية بين عامة الناس بمختلف طبقاتهم، بطريقة سهلة التناول، كثيرة التداول . تستفيد منها العامة على اختلاف درجاتها، وتفاوت مداركها . ويجد منها العالم منبرا يرتقيه ليصدع بما أمره الله به، حتى يبين للناس الطريق المستقيم الذي يجب عليهم سلوكه، ليحصل لهم النجاة في الآخرة، والاستقامة في الدنيا . ترى المئات من الناس في الجامع عند إلقاء الدرس، مستمعين إليه بآذان صاغية . وكانت دروسه الوعظية جذابة، تقرع الأسماع، وتتدفق إخلاصا وتفيض بلاغة وتسيل عذوبة ورقة وأدبا .
ذلك هو فضيلة الأصولي النظار المجتهد شيخنا الطاهر العبيدي الذي تصدر للفتوى ومعضلات النوازل، وتحمل بكل نزاهة وإخلاص عبء أمانة نشر العلم في ربوع منطقة وادي ريغ وسوف وحتى ناحية الزيبان خلال سنوات 1325-1387هـ/1907-1968م . فكان بحق الطود الشامخ في رسوخ علمه وثبات دليله وقوة حجته وشدة ورعه وزهده . وقد ظل طوال حياته مؤمنا بأن التقليد ليس من شيم أهل العلم العاملين . وقد أشار إلى قول الإمام مالك : يجب على العوام أن يقلدوا المجتهدين، كما يجب على المجتهدين النظر في الأدلة .
رفض الإفتاء في قضية تحريم :
استفتاه شخص من حشاشنة تقرت في مسألة تتعلق بتحريم زوجته، فلم يفت له الشيخ الطاهر، وصادف أن حول زميله في الدراسة، الشيخ إبراهيم بن عامر في شهر شوال من عام 1348هـ/ مارس1930م من أولاد جلال إلى تقرت في منصب عدل، فعرضت عليه المسألة، ولما قلبها من مختلف جوانبها، أفتى له بالإرجاع . وعندما راجع المعني الشيخ الطاهر، أجابه أن الشيخ إبراهيم اعتمد على حديث ضعيف . ولما سمع الشيخ إبراهيم بذلك، انتفض غاضبا وقال : إذا لم نأخذ بالحديث الضعيف في مثل هذه المعضلة، فكيف نبحث على الحل إذن؟
المواد التي كان الشيخ يقدمها للطلبة :
كان الشيخ الطاهر يقوم بتدريس الطلبة المواد التالية :
- تفسير القرآن الكريم وتجويده.
- شرح وتحليل الحديث النبوي الشريف، ويثبت إسناده بدقة ووضوح.
- الفقه على المذهب المالكي.
- التوحيد وفق مذهب أهل السنة.
- الأصول.
- الأحكام الفقهية.
- اللغة العربية بمختلف فنونها وألوانها من نحو وصرف وبيان ولغة وأدب.
أشهر المراجع التي كان الشيخ يزود بها طلابه:
-1 الكتب اللغوية:
متن الآجرومية، ومتن قطر الندى وبل الصدا، ومتن ألفية ابن مالك، ولامية الأفعال، والجوهر المكنون، ورسالة البيان.
-2 الكتب الفقهية:
متن المرشد المعين على الضروري من علوم الدين لعبد الواحد بن عاشر، ورسالة ابن أبي زيد القيرواني، ومتن الشيخ خليل بن إسحاق المالكي، ومختصر الرحبية لابن موفق الدين الرحبي في علم الفرائض، وجوهرة التوحيد للقاني ، وحاشية العلامة الإمام الدسوقي على شرح العلامة أحمد الدردير على المختصر. مع العلم أنه كان يلخص جميع المسائل، وكلما أكمل كتابا يجعل له حوصلة .
لم يكن طريق الشيخ مفروشا بالورود، وكان يشعر بمضايقة الاستعمار له، حيث كان يتجسس عليه قريزل، وهو أحد الضباط الفرنسيين الذي كان يقوم بوظيفة ترجمان، وكان يتكلم اللغة العربية، ويتنكر في زي لباس عربي بدوي، ويحضر حلقاته في زاوية مظلمة لمراقبة دروسه، غير أن تلاميذه أخبروه بهذا الجاسوس
تـلاميـذه:
لقد ذاع صيت الشيخ الطاهر ذيوعا كبيرا في أوساط مجتمع تقرت وسوف، حتى أضحى سكان تقرت ينادونه (أبا الشيخ). ونظرا لروحه المرحة وحسن خلقه وطيب معشره، فقد عرفت دروسه إقبالا منقطع النظير. وأينعت دروسه في وقت قريب.
كان الشيخ صبورا مع تلامذته، حتى ولو طلب أحدهم بأن يكرر له نفس الدرس عشرين مرة. وله نظام خاص، حيث يختبر طلابه من وقت لآخر، ومن رآه منهم متفوقا، يمنحه إجازة مكتوبة. ثم يعين لهم دروسا خاصة بمنزله، عرفانا لهم بالتفوق وبالكفاءة في التدريس. وفي حالة بلوغ أحدهم مقدارا معينا من العلم، يرشده إلى مواصلة دراسته بجامع الزيتونة. كان التلميذ يتمم حفظ المتون والحقائق في ظرف يسير، وتكون له- مع ذلك- مشاركة طيبة في الفنون المختلفة. ومن يتأمل في نتائج تلاميذه، يجدهم متفوقين على غيرهم، لدرجة أن من يشارك منهم في امتحان الشهادة الابتدائية أو الأهلية، يحصل في الغالب على مرغوبه. وهناك من تلاميذه من توجه لجامع الزيتونة لمواصلة دراسته، وعندما أجري له اختبار المستوى، حصل على درجة عالية، ووضع في المستوى المناسب لتلك الدرجة. ومن ينخرط منهم في سلك التعليم بالمدارس الثانوية، يكون نبوغه ظاهرا للعيان، ومتميزا عن الأقران. ولوحظ على تلاميذه الاستعداد العجيب، والتفوق الصريح، والتربية الفاضلة، والأخلاق العالية.
وكان الشيخ يحب طلبته حبا جما، ويحترم ظروفهم المادية القاسية. إذ لم يكن مجرد أستاذ ومعلم فقط، بل كان أيضا يعاملهم بأبوة وعطف وحنان. يتألم لما أصابهم، ويفرح لفرحهم. يزور طلابه في منازلهم، ويأكل من طعامهم، وينصحهم ويواسي مريضهم، ويقوي الكبار على نوائب الدهر. كما يشيع جنائزهم. وإذا تغيب أحدهم عن الدرس، يزوره في بيته، وهذا ما زاده تقديرا واعتبارا في أوساط الكبار والصغار.
تخرج على يديه كوكبة من العلماء من أبناء تقرت العامرة، أمثال: الشيخ الحشاني العمري وشيخ زاوية تماسين التجانية الشيخ أحمد التجاني والشيخ حفناوي بابا عربي والشيخ الطاهر بن دومة والشيخ الطاهر بلحسن والشيخ مدني بن هدية من أعلام العلم بتقرت، والشيخ علي كافي، رئيس أعيان وادي ريغ، والشيخ إدريس معاذ.
كما تخرج على يده الكثير من أبناء مدينة الوادي، منهم: شقيقه الشيخ العلامة أحمد العبيدي، والشيخ الميداني موساوي الذي كان أشهر من نار على علم في ربوع مدينة سوف، والشيخ حمزة بوكوشة(1907-1994م)، العضو المؤسس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والشيخ أحمد الشول(وبري)، والصادق قديري(1923-2014م)، ومصطفى سالمي(1914-1997م)، بالإضافة إلى علي بن الشيخ العربي سالمي، وحفيده عبد السلام سليماني ومحمد ميدة (1939-1995م) وغيرهم. كما حظي بالتتلمذ على يده أيضا شيخ زاوية الهامل: خليل بن مصطفى القاسمي الذي درس عليه متن السلم المرونق في فن المنطق، والجوهر المكنون للشيخ عبد الرحمن الأخضري، والتحفة في أحكام التلاوة، والقوانين لابن جزي الذي جمع فيه أمهات المسائل الفقهية.
ودرس كذلك الشيخ عبد القادر بن إبراهيم المسعدي الذي كان عضوا بارزا في صفوف جمعية العلماء المسلمين. وله مؤلفات عديدة في الفقه واللغة وغيرهما، ومنها: شرح على تحفة الأفاضل للشيخ العبيدي. ترك عديدا من القصائد لو جمعت لشكلت أجمل الحلل لما تحويه.
علاقته الحسنة مع شقيقه أحمد :
جلب معه إلى تقرت أخاه الشيخ أحمد الذي تربى يتيما، فكان يدرسه وينفق عليه رفقة ابن شيخه الميداني موساوي . ثم أرسل أخاه على حسابه الخاص إلى جامع الزيتونة لإتمام دراسته لما كان الشيخ مشغولا بتدريس الطلبة، فلم يعد قادرا على تخصيص جزء من وقته لتلبية رغبة أخيه المتفوق . وتوجه أحمد إلى تونس لإتمام كتابين لم يدرسهما . وكلما عاد الشيخ من مدينة تقرت، كان يرسل الهدايا إلى ابنة شيخهما مسعودة بنت إبراهيم بالقايد .
وأجاز تلميذه وشقيقه الشيخ أحمد الذي يكنّ له كل التقدير، ويدعوه "سيدي الشيخ". ومما يعضد كلامنا هذا، ما ورد في مؤلفه الموسوم بــــ" النصرة الوفية في الذب عن الصوفية " قوله : والأولياء في ذلك تبع للأنبياء، لأن الكرامة شاهدة للمعجزة . والعلماء ورثة الأنبياء في الرحمة والحرمة، وإن تباينا في أصل الفضل اه ـ. نقلت كلام القواعد هذا، من خط شيخنا الإمام النحرير، سيدي الطاهر بن العبيدي، خلد الله ذكره، وأطال بقاءه لنفع المسلمين آمين .
إجازته لشقيقه :
أجاز الشيخ الطاهر شقيقه أحمد عام 1338هـ/1920م بإجازة هذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
هذه إجازة على سبيل الوجازة من فقير ربه الطاهر بن العبيدي لطف الله به وعفا عنه بمنه:
حـمدا لمـن قد جعـل الإجـــــازه توصل بالأستاذ من أجــــــازه
أشـكره تخـصيصـه بـالسنــــــــد أمة خير المرسلـين سنـــــدي
صـلى عـليه الله فـي كـل أوان مـع الـسلام أبـدا بــلا تــــــوان
هـذا وإنـي قـد أجـزت حاملـــــه إجـازة لـكـل خـيـر حـامــلـــــــــه
فـي كـل عـلم فـأنا متـصـــــــــل بـشيخـنا والـغيـر بي يتـصـــل
سـواء الـمعـقــول والمنقـــــول فـإنـه بـصلـتي مـوصـــــــــــول
وإنـنـي مـن سـيـدي مـجــــــــــاز حـقيـقـة لـيـس لهـا مـجــــــــــاز
بـكـل ما جــــازت لـه روايـتـــــــــه بـخـطه الـشريـف أو درايــتــــه
وشـيخنا مكي بن عــــزوز الأجل ومـا أصـح عـلمه ومـا أجــــــــل
أجـازه شـرقـا وغـربـا نـفــــــــــــــر مـحنـكـون إذ لعـلم نـفــــــــــروا
كـالشـيخ دحـلان وكـالــــــدراجي والعلوي أيضا غيـاث الراجـي
وكـابن الحفاف وكابن مـــوسى وكـان فـي إسـنـاده قـاموســـا
وغـيرهم كـيوسـف الـنبـهـــــاني مـن كـل حبـر مسـند نـبهـــــــان
أخـبرنـي الأسـتـاذ أن ثـبتــــــــــــه يبـلـغ أجـزا حبـذا مـــا أثـبتـــــــــه
قـلت فهذا سيف إسناد فـــــرى وغيره كالصيد في جوف الفرا
ثم الـمجاز أحمــــــد الـعبيـــــــدي شـقيقـنا قـانص كل صـيـــــــــــد
الناظم الناثر ذو العلم الصريح بفكره الوقاد والفهم الصحيــح
مـحب أهـل الله والـطريـقـــــــــه لا زال يـنحو للهدى طـــريقــــــه
أجـزتـه بـكـل مـا لفـقـتـــــــــــــــــــه مـن نـثر أو نظم لقـد نمقتـــــــه
وكــــــل مـا أفـهمـت أو ألهـمــت ومــا تلـقيـت ومـــــــا رقـمـــــــت
وكـل مـا قـرأت عــن أسـتاذنــــــا العربي بن موسى أو ما أذنـــــا
أو غيره من كل ذي علم همــى بـالـــواد أو تونس أو غـيرهـمـــا
ومـا نـظرتـه ومـا حضـرتــــــــــــــه أجزته فـي الـكل ما حظرتـــــــــه
إجازة بـشرطها الـمـــأثـــــــــــــــــور فـي كـل ما منـظوم أو منثـــور
ولـست والله بـأهل أن أجـيـــــــــز فإنني القاصر ذو العلم الوجيز
لـكـن تشـبهت بقـوم كـرمـــــــــوا إن الـطفـيلي لـديـهم يـكـــــــــرم
وربـما يـكـون راو أعـقـــــــــــــــــــلا مـن شـيخـه فـيما إلـيـه نقـــــــــلا
هـذا وأوصيـه بـتـقوى اللــــــــــــه مـجتـنبا كـل رجـيـــــــــــم لاهـــــي
ويـسأل الـطاهر حسـن الخاتمـه مصليا عـلى الـرسول الـخاتمــه
والآل والأصحـاب والأثـبــــــــــات مـن كـل حبـر محرز الإثبـــــــــــات
نظمه ورقمه فقير ربه الطاهر بن العبيدي بتقرت يوم الجمعة 14 جمادى الثانية سنة 1338هـ/05 مارس 1920م . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وبعد ما حصل الشيخ أحمد على الإجازة من شيخه وشقيقه، بدأ التدريس متطوعا بجامع سيدي المسعود الشابي بسوق الوادي ابتداء من عام 1341هـ/ 1922م . وكان يعتمد في معاشه على ما يجود به جماعة المصلين تطوعا، وعمره وقتذاك 34 عاما . كما كان ينوب عن شقيقه الشيخ الطاهر في التدريس بمدينة تقرت عند غيابه . وقد طلب محمد بن أحمد بوليفة، الذي كان يحضر درس الشيخ الطاهر بتقرت، أن يلتمس من شقيقه أحمد التدريس في تقددين بجامعة، فوافق على ذلك .
علاقته بالشيخ عبد الحميد بن باديس:
قلت أن الشيخ العبيدي كان يتصف بالتسامح، وهذا يتجلى في العلاقة الحميمة التي كانت تربطه بالشيخ عبد الحميد بن باديس الذي لم يصادفه في رحاب جامع الزيتونة بالرغم اختلاف المشارب والاتجاهات . قام الشيخ عبد الحميد بزيارة مدينة تقرت عام 1337هـ/1919م، وجمعية العلماء لم تظهر بعد، والتقى هناك بالشيخ الطاهر الذي مدحه بقصيدة أرسلها إليه، هذا نصها :
بروحي جليلا حـل تقرتنا النظـــرا يفـوح شذا أخلاقه المسك والعطرا
فأمـا محـيـاه الـمحي فإن مـــــــن يـشبهـه بالبـدر مـرتكـب أمـــــــــــــــــرا
أفـي البدر من أخلاقـه وعلومــه؟ وهل فيه تحرير التقارير والإقـــــــرا؟
ولكـنه قـد ضم مع علمه تقـــــى ويسلك في التعليم منهجه الأحـرى
وما كان فـي الـحسبان رؤية مثله بوقـت هوت فـيه القراءة والقــــــــرا
رأيـت له عـلما وعقـلا مطهـــــــــــرا وحسن اعتقاد للهدى يشرح الصدرا
هنـيئا لكم أهلي قسنـطينة الألى لهم غـيرة في همة تزحم الشعــــرى
سـتلقون فـي علم الشريعة جــدة وترقون في الأخلاق مرتبة كبــــــــرى
فدونـكم عبـد الحـميد ودونـكـــــــم مـآدب آداب لكـم تنعش الفكــــــــــرا
ولا زلتـم يا آل باديـس في اعتـــــلا بغير اعتلال لا يرى عزكم ضيـــــــــــرا
وتبـدون في كـل النوادي نــــوادرا من الـعلم يقفو النجل آباءه إثـــــــــرا
تروضون من عالي العلوم عوائصا وتـرضون بالأعمـال ربكم البــــــــــرا
كمـا كنـتم في غابر الدهر ســـــادة تسوسون ذاك الغرب سيرتكم غرا
فحاصـلكم إمـا مليـك مظفــــــــــــر يهـز لواء العـدل يبسطه نشـــــــــــرا
وإما علـيم يبـعث الـناس علمـــــــه يحوط مشيد الدين من شبه تطــرا
جـزى الله خيرا ذلك الـسلف الــذي تقلد سيف المـلك يحمله إصرا
وبارك فيكم أيـها الخـلـــــف الرضى لقد شدتم علما وسدتم ولا فخرا
سـلام علـيكم يشـمل الكـل عــرفـه من القيـروان للجـزيرة الخضــــــرا
من الـطاهر الود العبيدي محتــــدا بتقـرت والـوادي مناوبة قــــــــــــرا
وأسـألك اللهم تطهير قالبي وقلبي وطيب العيش والفوز في الأخرى
وصـل على خير البرايا الذي بـــــــرى بصمصامه أس الرذائل والكفـــــرا
وأصحـابه من أكمـل الله دينــهـــــــم وآله أمن اللـه في هذه الغبـــــــــرا
كان الشيخ ابن باديس في رحلة خارج مدينة قسنطينة، وعند رجوعه من السفر، رد على القصيدة برسالة يعتذر فيها للشيخ العبيدي عن تأخره، في شهر جمادى الثانية عام 1337هـ/ مارس 1919م، هذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
إلى حضرة علم العلم والفضل، ومعلم الكرم والنبل، التقي الطاهر الأثواب، السري البارع الآداب، مستحق الشكر منا بما له علينا من سابق الأيدي، العلامة الشيخ سيدي أبي الطيب الطاهر العبيدي. أدامه الله بدرا طالعا في هالة درسه، وغيثا هامعا يحيي ربع العلم من بعد طمسه، حتى يبدل وحشة قطره بأنسه، ويجني من بساتين تلاميذه ثمرات غرسه، آمين.
وبعد سلام كما تفتحت الأزهار، في نسمات الأسحار، وتحية تحيي قديم التذكار، وإن شطت الدار، فإني كتبته إليكم من حضرة قسنطينة يوم قدومي من رحلة كنت أعملتها لناحية الجزائر وتلمسان، لزيارة الأحياء والأموات من العلماء والصلحاء وأعيان الزمان، فتشرفت بسادات كثيرين من العلماء والصالحين. ومن أعظم الجميع قدرا، وأشهرهم ذكرا، سيدي أبي مدين الغوث، وسيدي محمد السنوسي بتلمسان، وسيدي محمد بن عبد الرحمان، وسيدي عبد الرحمان الثعالبي بالجزائر. ودعونا لنا والمؤمنين عامة، ولإخواننا أمثالكم خاصة، بما نرجو من الله تعالى فيه القبول وبلوغ المأمول. وذكرت لكم هذا لما أعلمه فيكم من محبة الصالحين. وإذا مكنتني الفرص إن شاء الله تعالى، كاتبتكم عن هذه الرحلة بمزيد تفصيل. ووافى كتابكم في غيابي في هذه الرحلة، فلما قدمت وقبلته، قدمته على غيره وقبلته. وكان ما داخلني من السرور بمجلو خطابه، مخففا لما غشيني من الخجل لمر عتابه، ولك العتبى يا سيدي فيما ذكرت، ومنك الفضل فيما به ابتدأت وتفضلت. فقد بلغتني القصيدة الغراء التي راقت ورقت، واستوجبت الحمد واستحقت. نظرت إلى أوصافك الكريمة فحليتني بها، ونسبتني إليها، ويجازيك بالخير الجزيل على ما فعلت.
هذا وإني ما أخرت الجواب متهاونا (أستغفر الله) ولا متكاسلا، ولكنني حسبت أني أجبتكم فيمن أجبت، حتى جاء كتابكم، فعلمت أنني غالط فيما ظننت، فبادرت بهذا متحاملا على فهمك، معتمدا على فضلك، والعفو يا سيدي من شيمة أمثالك، لا أحرمني الله من أفضالك، وأقول:
إن كـنت قصـرت فـي الكتابة واللــه مـا حلـت عـن ودادي
وإنمــا كـــــــان ذاك مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني عن غفلـة ليـس من مــرادي
فسامحـوا طاهــري بفضـــــــــــــــــــل وحسبكـم مسكنــا فـــــــــــــؤادي
ويعود من العبد وجماعته السلام عليكم، وعلى جماعتكم وأحبابنا كلهم لديكم، وكثيرا داعيا لكم بالخير، طالبا لكم مثله. أخوكم وشاكر فضلكم ومملوك إحسانكم. في شهر جمادى الثانية عام 1337هـ. عبد الحميد بن باديس عفى عنه .
نزعته الصوفية:
لقد أدى الشيخ الطاهر العبيدي فريضة الحج عام 1949م مع بعض زملائه على طريق البر بواسطة شاحنة شركة بالفاطمي البشير الخنشلي، وقد سلكت طريق: طرابلس- مصر، حيث توقف الشيخ وألقى درسا في التوحيد بالجامع الأزهر، وصادف هناك الشيخ البشير الإبراهيمي الذي اختلى به ما يقرب من ثلاث ساعات. ثم بعدئذ توجه إلى الأرض المقدسة لأداء فريضة الحج . كما عاود الذهاب إلى الحجاز مرة أخرى عام 1379هـ/ 1959م. وعندما وقف على قبر الرسول أشار بأصبعه وقال:
صل رب عن هذا الرسول واصلح قلبي واجعلني مقبول
صل رب عن خير الأكـوان طــه عـربي من نسل عدنــــــــــــــــان
وكان صوفي النزعة، ينتمي للطريقة الرحمانية العزوزية دون تعصب ولا تطرف، بل كان يتصف بالتسامح والمحبة لكل إخوانه الطرقيين الآخرين. ومن أجل رفع البلاء بسبب الوباء الذي حدث في وادي سوف ووادي ريغ خلال عام 1957 أو 1958م، تضرع إلى الله تعالى قائلا:
بالذكر المنــــــــــــــــــــــــــــزول وما في كتاب الشفا
من وصف الرسول نزل علينا الشفـــــــــــــــا
وقد صادفته عام 1965 وهو في حالة عجز واضح، يتكئ على عصا، مهرولا نحو منزل أخيه المقدم مصطفى(1301-1387هـ/ 1883-1967م) الذي استضاف إخوان الطريقة القادرية، وعندما صادفهم وهم خارجون من منزل أخيه، طلب منهم العودة والإتيان ببعض أمداح سيدي الصالح البسكري، صاحب القصائد ذات الإيقاع القوي، وهذا يدلّ على مدى المودة والمحبة وصدق السريرة التي كان يتميز بها.
أخذ ورد الطريقة التي ينتمي إليها من شيخ زاوية سيدي سالم، الشيخ محمد الصالح(1262-1335هـ/1846-1916م) بن سيدي سالم(1186-1277هـ/1772-1860م) الذي عينه مقدما. وقد نظم مجموعة من القصائد يمدح فيها الطريقة ورجالها.
وكان الشيخ كثير الاعتكاف والتعبد، تسيطر عليه الروح الدينية سيطرة كاملة. يميل إلى التصوف الإيجابي، أي أن نزعته الصوفية لا تهدف إلى الانقطاع عن شؤون الدنيا وترك العمل، بقدر ما تسمو بالروح إلى العوالم العلوية، وتخلص النفس من الشوائب الدنيوية التي علقت بها.
وقد استنجد الشيخ الطاهر بالقرآن، فجمع بين نظريتي الاتكال والسعي، واستوحى ذلك من قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك، الآية 15].
كما كان مرتبطا بالقرآن الكريم ارتباطا كبيرا. وكان يردد الآية الكريمة بصفة دائمة وهي قوله تعالى: ﴿ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء، الآية 114].
عمله في مسقط رأسه بالوادي :
كان يملك مسكنا مجاورا لمسكن عائلته في حي أولاد أحمد، وكان يتردد عليه كلما قدم إلى الوادي في كل فصل صيف، حيث يقضي مدة ثلاثة أشهر، ليس للراحة والاستجمام، بل للكد والجد والاجتهاد. كما كان يملك النخيل في غوط بوروبة مجاورا لنخيل شقيقه أحمد. وكان يكلف أخاه أحمد بتعويضه في التدريس عند غيابه، إذ هما عبارة عن وجهين لعملة واحدة، وصورة مستنسخة عن أصل واحد.
كان يقوم بإلقاء دروس في الفقه والنحو والتفسير في جامع سيدي المسعود بسوق الوادي. وقد شرع في تفسير سورة الكهف حتى وصل إلى آخر سورة السجدة . كما كان يؤم جماعة المصلين في صلاة الجمعة في عهد الإمام عمار ميلودي . وعند وفاته عام 1361هـ/1942م، خلفه ابنه الشيخ العروسي (1327-1376هـ/ 1909-1956م) الذي كان معارضا لاتجاه الشيخ الطاهر، فتحول الشيخ إلى جامع النخلة للتدريس هناك عوضا عن الإمام محمد بن مسعود علاق الذي يترك له مكانه . وعندما يؤذن شقيقه البشير بن العبيدي (1894-1977م) لصلاة المغرب، يتأكد الناس من حضور الشيخ الطاهر لدرس التفسير، فيقبلون زرافات ووحدانا، ويحضر الشيخان الطاهر وشقيقه أحمد، فيشرعان في تجويد الجزء المراد تفسيره، ثم يبدأ الشيخ الطاهر في تفسير ذلك الجزء .
كان يتجنب الإفتاء في حضرة الشيوخ المقيمين في الوادي مثل: شقيقه الشيخ أحمد، والشيخ الميداني موساوي وغيرهما، ويحيل المستفتي إلى أحدهما . وفي أحد الأيام، وبينما كان الشيخ جالسا في دكان بكار بالحاقة متجها نحو الغرب، إذ بأحدهم يستفتي الشيخ الميداني، فأحاله الشيخ تأدبا إلى الشيخ الطاهر، فرفض الإجابة، وقال للمستفتي : إن هذا هو ابن البلد، وأنا ضيف عابر. وأمر الشيخ الميداني بإجابته قائلا : افت له يا الشيخ المدني ولا تستح ! هكذا يقدر العلماء بعضهم بعضا، ويضعون كل واحد في موضعه اللائق به.
درس تفسير القرآن الكريم:
حينما يعود الشيخ الطاهر العبيدي للوادي صيفا، يؤذن لصلاة المغرب، في جامع النخلة، شقيقه البشير، صاحب الصوت الجهوري، إيذنا بحضور الشيخ الطاهر، فيتوافد الناس عليه زرافات ووحدانا. ثم يشرع الشيخان: الطاهر وشقيقه أحمد في ترتيل الآيات المراد شرحها قبل بدء الدرس، ويقوم الشيخ الطاهر بتفسيرها. وقدحضر شيخه محمد الخضر حسين درسه عام 1905 لما زار الوادي، وأثنى عليه في قصيدة نظمها الشيخ أحمد يقول فيها:
حضر الرضا الخضر الحسيني درس ذا بالوادي في التفسير مذ سنوات
فاهتز من عجب وقال قليلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة أمثال ذا في هذه الأنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات
نماذج من فتاوى الشيخ الطاهر :
ذكر الشيخ الطاهر في أحد دروسه قائلا : يجب طاعة الوالدين ولو كان ذلك على حساب طلب العلم . كما أشار إلى أنه يجوز تقديم الزكاة للعالم ولو كان غنيا لاقتنائه الكتب . وحينما يستفتى الشيخ الطاهر، لا يجيب بسرعة، وعندما يكون مع جماعة، ويستفتيه أحدهم، يلتفت الشيخ إليهم، ويقول : أفيدونا يا جماعة ! وفي بعض المرات، يطلب من شقيقه الشيخ أحمد الرد على الفتوى، لأنه لا يفارق ظله .
ويروى عن إمام الجامع الكبير بحاسي خليفة، الأمين غمام عمارة(1920-1983م) أنه كان يجمع بعض الأسئلة، مترقبا قدوم الشيخ للوادي لعرضها عليه . وفي إحدى المرات، سأله عن لحم الكلب للتداوي، فأجابه بجواز كل شيء للتداوي ، ما عدا الخمر ولحم الخنزير ولحم بني آدم . كما أفتى أن من سب الدين أو الملة أو المذهب يعد مرتدا، وتفك العصمة بينه وبين زوجته . كما تطلق الزوجة إذا سبت .
وقد حدث بينه وبين الشيخ محمد بن عبد القادر الجديدي مناقشة، فعندما ذكر الشيخ أحمد التجاني في حضرة الشيخ الجديدي قال: صلى الله عليه وسلم، وعندما عرضت القضية على الشيخ الطاهر، أنكر عليه قوله واستدعاه واستخبره، فقال له الشيخ الجديدي : هل نسيت قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾؟ فسكت الشيخ دون أن يعقب عليه .
دوره في إصلاح ذات البين بين الحركة الإصلاحية والطرقية عام 1938م
عندما قام وفد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بزيارة الوادي في أواخر ديسمبر عام 1937م، بدعوة من الشيخ عبد العزيز الشريف (1316-1385هـ/1898-1965م)، وكان يترأس الوفد الشيخ عبد الحميد بن باديس وعضوية كل من مبارك الميلي، والعربي بن بالقاسم جدري (التبسي)، ومحمد خير الدين، وحمزة بوكوشة، بالإضافة إلى أحد التجار الأثرياء في قسنطينة ويدعى إبراهيم بوزنادة، أصيل بلدة كوينين. وحدث خلاف كبير وصراع مرير بين الإصلاحيين والطرقيين، تطلب تدخل باشاغا الوادي محمد العيد بن حمة أموسى الذي سعى لدى حاكم تقرت الرائد رينابال بأن يحول الشيخ الطاهر ليدرس في جامع سيدي المسعود، لما عرف عليه من الاعتدال في المواقف، والرزانة في السلوك، حتى يتمكن من إخماد نار الفتنة. ووافق الحاكم العسكري، وحول الشيخ إلى الوادي، مما جعل سكان تقرت يبدون سخطهم وتذمرهم. وعبروا عن تعلقهم بشيخهم بكل الوسائل المتاحة، فلم يطل مقامه هناك، بعد أن أرسى دعائم المصالحة والوئام، ثم عاد من جديد إلى مأمنه بتقرت عام 1358هـ/ 1939م. وأوصى بأن يخلفه تلميذه وابن شيخه، الميداني موساوي (1314-1376ه/ 1896-1956م) الذي تولى التدريس بالمسجد المذكور عام 1358هـ/1939م، بعد الاتفاق مع القائد عبد الغني بن موسى (1901-1975)، أما الإمامة فكانت للشيخ العروسي ميلودي(1327-1376هـ/ 1909-1956م) .
إنتاجه العلمي ومؤلفاته :
إضافة إلى ما قام به الشيخ الطاهر من أعمال جليلة في مجالات الوعظ والإرشاد والتدريس والإفتاء، فإنه كان لا يخلو مجلس من مجالسه أو محفل من محافله الدينية إلا وللشيخ فيه خطبة دينية يلقيها على مسامع الحاضرين، ويكون لها وقعها الكبير في نفوسهم. وبالإضافة إلى ذلك، خلف لنا مجموعة كبيرة من المؤلفات الهامة التي تربو على العشرين كتابا في ميادين اللغة والأدب والفقه، وبعض القضايا الاجتماعية والفلسفية، غير أنها لم تطبع حتى الآن، ولعمري متى يقرر أولو الأمر من عائلته طباعتها حتى يطلع عليها الباحثون في مجال العلوم الشرعية واللغوية والتاريخية؟
ويمكننا تصنيف مؤلفاته كما يلي:
1- الرسائل الفقهية :
لقد جاءت أغلب هذه الرسائل على شكل منظومات، برع فيها الشيخ كثيرا، وعرضها بأسلوب مبسط يستوعبه العام والخاص. ولعل أغلب المسائل التي تناولها الشيخ في أراجيزه، وشغلت حيزا كبيرا من حياته العلمية هي المسائل الفقهية واللغوية، ومن أهمها:
- رسالة الستر: التي قام الدكتور محمد محدة (1955-2006م) بتحقيقها والتعليق عليها، ونشرتها دار البعث بقسنطينة عام 1405هـ /1985م.
- رسالة السلاح والعدة في مهمات أحكام المعتدة.
- رسالة في كيفية العبادة.
- رسالة رفع اللهو في كشف مسائل السهو.
- رسالة رفع الإبهام عن مسائل الصيام.
- رسالة الحج والعمرة وبيان كيفيتهما الشرعية.
- رسالة انكفاف الدمعة لانكشاف مسألة الجمعة.
- رسالة في الميراث.
- منظومة في أسباب التيمم.
- رسالة تنويل الصلات في تطويل الصلاة.
- رسالة الحيض والنفاس وأحكامهما.
- رسالة في قبلة الصلاة.
- حسن العوم في بحر مسائل الصوم
2 - الرسائل اللغوية:
يعد الشيخ الطاهر من رواد اللغة العربية، ومن أئمتها المتمرسين. ومن أهم تآليفه فيها:
- نظم رسالة القطب الدردير في البيان بأسهل بيان.
- بغية الأمل في نظم رسالة العوامل.
- رسالة تلخيص الآجرومية.
3- أغراض أخرى:
ألف الشيخ عدة منظومات أخرى في أغراض متعددة منها:
- جريان المدد في الاعتصام برجال السند، وتتكون من 856 بيتا.
- رسالة التخويف والتخوف على منكر إيمان الصوفة والتصوف.
- النصيحة العزوزية في نصرة الأولياء والصوفية، وتتكون من 66 بيتا.
- نصيحة الشباب المزيحة للسحب والضباب.
وهذان النصيحتان قام بنشرهما في رسالة واحدة الكتبي الجلالي أبو مدين الحاج محمد بن أزوين بمطبعة حجازي بالقاهرة عام 1954.
- رسالة في الجبر والاختيار والدليل عليهما.
- رسالة الطبيعة.
- منظومة في مدح الرسول r بعنوان: " قل لمن يعشق ".
- له معارضة على قصيدة النابلسي الشهيرة" قالت أقمار الدياجي" .
- رسالة بعنوان " النصوص الصريحة في رد شبه غير صحيحة ". وهي تتضمن عشر نقاط:
- إثبات استحباب الأذكار عقب الصلوات الخمس.
- إثبات مشروعية الدعاء عقب الصلوات.
- مشروعية رفع اليدين أثناء الدعاء، ومسح الوجه بهما بعد الفراغ منه.
- ذكر الخلاف في المعقبات هل تقرأ سرا أو جهرا .
لغة أهله ومكينة الخياطة والشيخوخة:
قام الشيخ بالدفاع عن لغة أهل سوف التي يرى أنها لغة عربية صحيحة غير جريحة. كما دافع عنها الغير بسبب بعدها عن مناطق التحريف والتزييف، فقال:
لغتنــا معشـر أهـــل ســـــــــــــــــوف يجلهـــــا كل فتـى عــــــــــــــــــــــــــــروف
معربــــــة لأنها من نفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر عرب تناءوا عن بلاد البربر
وإن تصـادف كلمه معربـــــــــــــه فقدوة بالعـرب المستعربــــه
وإن تصادف لحنة في الكلم فالاختـلاط بفريق العجــــــــــم
وعندما شاهد لأول مرة آلة الخياطة التي تجنب الإنسان العمل بيده، وتكسبه الوقت وإتقان الصنع، فقال مستغربا:
انظر إلى مكينة الخياطـــــــــــــــــــــــــة كأنها عصفورة لقاطــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
تلقط وهي لا تنال خردلــــــــــــــــــــــة لكن تخيط الثوب مثل العملة
فانظر لهذا الحادث الغريب وذاك صنع ربـــــــــــــــــــك القــــــــــــــــــــــــــــريب
وعندما اشتد به المرض، وصار يأكل الحمية (الرجيم)، أشار عليه أحد حفدته بأكل الرجيم، فقال:
أعوذ بالله من الرجيـم ومن لزوم الأكل بالرِّجِيـم.
كما نظم الأبيات التالية يصف حالة الكبر، فقال:
سبعة تدهمنــــــــــــــــــا وقت الكبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر تصاغر الخطـــــــــــــــا كحالة الصغـــــر
ونقص في السمـع وضعف في البصر ونقص في الأكــــل إذا الزاد حضـــــر
ونــــــــــــوم بين الناس من غير سهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــر ونقص في الفـراش في حالة الوطر
وسرعة في البـــــول أدهى وأمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
مراثيه:
كان العبيدي من أقرب الناس إلى عشيرته وأحبائه ومقربيه، يفرح لأفراحهم ويحزن لأتراحهم. وبهذه المناسبة، توفي شيخه محمد العربي موساوي في شهر ذي الحجة عام 1322هـ/ فيفري 1905م فرثاه الشيخ بالقصيدة التالية، حيث قال :
ومن المراثي، ما رثيت به شيخنا العلامة الهمام، عالم الصحراء، ناشر لواء العلم بهاته الديار. القدوة الحجة الثقة، شيخي ووسيلتي إلى الله، سيدي محمد العربي بن محمد الصالح بن موسى، قدس الله روحه، ونور وبرد ضريحه. وكانت وفاته آخر سنة 1322هـ، وكنت إذ ذاك بتونس، ونصه:
ليـس للحـال بقـاء فاحـــــــــــــــــــــــــــذروا سطوات الدهر واللهو ذروا
واذكـروا قوما صفـا الوقت لهم فرحــوا بوقتهـم واستبشـــــــــروا
مثـل أهـل ســـوف قد كان لهـــــــــــــــــم سـيـــد دراكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة محــــــــــــرر
بحر علم طود فهم راســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخ بارع حبـر همـــــــام أكبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
نجل مـــــوسـى العـــــــــــــــــربي المرتـــضى فهـو بحـر وســواه جعفـــــــــــــــــــــــــــــــــر
كان ذا زهد عظيم همــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة نهر علم بالعلوم ينهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
تقاريظ مؤلفاته من بعض العلماء :
التقريظ الأول :
الذي جادت به قريحة الفاضل الزكي، الأديب الكبير، الشيخ أحمد بن العبيدي، شقيق الأستاذ وتلميذه . فأجاد وأفاد بما جمع في الشعر والنثر من المعاني الرائقة، والتشبيه البليغ، والأوصاف الساحرة، فقال:
الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه وعبده، وعلى آله وأصحابه ووارثي سنته من بعده، وبعد : فيقول قليل البضاعة، عليل التفريط والإضاعة، أحمد بن العبيدي الوادي رزقه الله التوفيق، وهداه سواء الطريق، إنه أطلعني أستاذنا المحقق، وملاذنا المدقق، العلامة النحرير، تحفة الزمان، سيدي الطاهر بن العبيدي، حفظه الله على رسالته الفيحاء الموسومة بــــــ " تنويل الصلات في تطويل الصلاة " فوجدتها تسر المومن الحريص على دينه، جائلة من التحقيق في ميادينه. أنجح الله سعيه المشكور، وأدام النفع به إنه رؤوف شكور، وحين جلت في كراسها، وقطفت شهي غراسها، قلت :
هل ذي رياض شذاها ينعش الـواني أم ذي حياض تزيل غلة العــاني
أم ذي شموس تجلت أم بدور هدى تردي غياهب تدجيل وبهتــــــــــــــــــــــان
أم ذي رسالة تنويل الصــلات أتــــــــــــــت تجر ذيلا وتزري عقد عقيـــــــــــــــــــــــان
إن شئت تتبع آثار الرســـــول فكــــــــــــــــــــن لما حوته سميرا كل أزمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان
قد أوضحت للصلاة كل كيفيــــــــــــــــــــــــــــــــة فانظر لأنفالها تظفر بتبيــــــــــــــــــــــــــــــــــان
لله درك يا شيخ الشيـــــــــــــــــــــــــــــــــــوخ فقـــــــــــــد بينت للحق أعلاما بإيقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان
فبينما الناس في مهـواة جهلهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم سكرى عن العلم في سر وإعـــــــــلان
إذ قمت للدين في ضعف تدعمـــــــــــــــــــــــــه جازاك ربك يا مولى بإحســــــــــــــــــــــــــــــــــــان
يا حسن مقعدك السامي وما رقمـت يمناك ياصاحب التحرير والشان
أنت الفريد بهذا العصر غرتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه فدم لنفع الورى في حفظ رحمـــان
خادم جنابكم السامي أحمد بن العبيدي، كان الله له آمين .
ثناء الشيخ عطية بن مصطفى عليه:
ولما اجتمع الشيخان العلامة الطاهر العبيدي، والعلامة عطية بن مصطفى، مدرس وإمام بالجلفة، وتعارفا مع بعضهما، وحضر الثاني لدرس الشيخ الطاهر، وأعجبه درس التفسير، فأنشد قائلا:
مفخرة القطر الإمام الطاهر له على الإسلام حق ظاهـــــــــــــــــــــــر
لأنه أبدى معالم الهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدى بعلمه فكم لحائر هـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدى
قدوة خير نهجه قويــــــــــــــم إمام رشد نفعه عميــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم
قد ألف التآليف العديـــــــــــــــــــــدة ذات السنا والرفعة المفيــــــــــــــــدة
إذا تصدى لبيان آيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة فإنه أعجوبة وآيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة
يأتي بأقــــــــــوال المفسرين مــــــــــــــــــــن مثل ابن عباس وأمثال الحسن
إلى الخطيب والإمام الصـــــــــاوي كأنـه عن قائليهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا راوي
نقل صحيح ومقال فصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــل دلا على رسوخه في الفضـــــــــــــــــــــــــــــــل
يا فوز من عنه روى أو عرفـــــــــــــه فالله يسقيه كؤوس المعرفـــــــــــــــــــــــــة
ولما كتب قصيدة للشيخ الطاهر يستأذنه أن يرخص له بتدريس القرآن الكريم في الجلفة، رد عليه الشيخ بنفس القافية والوزن، بأنه ليس بحاجة لأن يستأذنه للترخيص له بالتدريس .
التماس ترقية في الوظيفة :
عثر على رسالة من الأستاذ الخضر هدية موجهة إلى الشيخين : الطاهر وأحمد العبيدي بتاريخ 20 شوال عام 1355هـ/ 2 يناير1937م، رسالة بدون عنوان . كما عثر على رسالة بأرشيف الزاوية التجانية بتماسين مؤرخة في 13 فبراير 1951م، يطلب فيها الشيخ الطاهر من شيخ الزاوية أن يساعده في الترقية، وفعلا استجاب لطلبه، وتمت ترقيته في وظيفته .
خرس نخيل الشيخ الطاهر بتقرت
خرس حمه لُمَيْ وشريكه نخيل الشيخ الطاهر العبيدي بتقرت، ودفع له خمسين ألف فرنك عربونا. وفجأة تهاطلت الأمطار من المغرب حتى الصبح. وجاء حمه لمي في الصباح حاملا معه مجموعة من الفطائر بالبيض هدية للشيخ، ودق عليه الباب، وسمعه يذكر. ولما انتهى من الذكر والدعاء، فتح له الباب معتقدا أنه ندم. فقال له: خذ الدراهم الني دفعتها، والبيعة فاسخة. فقال له لمي: والله البيعة ثابتة وعلى ذمتي. فقال له الشيخ: كم ثمن الفطائر؟ فأجابه بأنها هدية، فرفضها ودفع له الثمن. وقال له: اجعل ثمن السلعة وحدها حتى نرى نتيجة البيع. وإذا خسرت، فسوف أعوضك. ودعا له بالبركة. وربح حمه لمي أضعاف ثمن السلعة الأول .
مكانته بين علماء عصره:
استمر الشيخ الطاهر في دروس الوعظ والإرشاد والتوجيه الديني مدة 60 عاما، حتى صار عالم تقرت وفقيهها الأكبر بدون منازع. ولهذه المكانة المرموقة التي تبوأها، لقب بمالك الصغير . وقد وصفه تلميذه وابن شيخه الشيخ الميداني موساوي بأنه شيخ الإسلام في الجزائر . وقال فيه الشيخ عبد المجيد حبة: لم أر فقيها متمكنا وأصوليا قادرا بعد حجة الفقه الإسلامي خليفة بن حسن القماري في منطقة الجنوب، باستثناء الفقيه الأصولي الطاهر العبيدي. وقال أيضا: كان في العلوم الشرعية والفقه، بحرا لا يوجد من يضاهيه، حتى على مستوى العالم الإسلامي .
إجلاله في وادي ريغ :
كان رفيع الملبس بلا تصنع، نظيف البزة، يرتدي أحسن البرانيس في فصل الشتاء . ويتحلى طوال العام بثياب فاخرة، ويتعطر ويتنعم بالطيبات من الرزق، وبزينة الحياة التي أحلها الله لعباده . وكان يوسع في نفقة أهله، ويصل رحمه ويكرمهم، ويقضي عنهم ديونهم في حالة عجزهم ، ويتودد إليهم بالزيارة، وبأنواع الطرف والهدايا، ويلاقيهم بالبشاشة والترحيب، ويبادرهم بالسلام إذا قابلهم .
كان بذكره تطرب المجالس . فلا يذكر في مجلس، إلا والنفوس متشوقة لما يحكى عنه. وكان في التواضع والإنصاف والاعتراف بالحق في الغاية وفوق النهاية . لا أعلم له نظيرا في ذلك ، شبابهم وشيبهم يقتفون آثاره، ويسمعون لقوله، ويستبقون لتلبية أمره، ويعملون بإشارته ورأيه . ويرون فيه في الشريعة قائدهم الأعلى، وملاذهم الأسمى . فأخلصوا له الوفاء، فبادلهم حبا بحب، وعطفا بعطف ، وإخلاصا بإخلاص. وأحبوه كل الحب في حدود الدين والشرع الحنيف.
له من القبول والهيبة والإجلال في القلوب، مالم ينله غيره من علماء عصره، لينا هينا حتى في مشيه . والأطفال يتزاحمون لتقبيل أطرافه، ما ترى أحسن منه خلقا، ولا أوسع صدرا . يوقر الكبير، ويقف مع الصغير. ويتواضع للضعفا ء . معظما جانب النبوة . فعاش هو أيضا معظما ممدوحا من جميع الناس، محببا إلى جميع النفوس، متحاشيا الأعراض والأغراض، مترفعا عن سفاسف ذوي النفوس المراض، حتى أن سكان تقرت والوادي يلقبونه بهذا الاسم " أبا الشيخ "، أي والدي الشيخ . وهذه الكلمة تصدر من الرجال والنساء : كبيرهم وصغيرهم . لم تشهد تقرت مثله عبر جميع عصورها . ولا ريب أن تفاخر هذه البلدة بهذا السيد، عالما مسالما، ذائع الصيت في هذا كله . ولقد حرص سكان هذه البلدة على ذكراه حرص الضنين، فأنشأوا مدرسة ومسجدا أطلقوا عليهما اسم " عبيدي الشيخ الطاهر". نعم، يستحق كل هذا التبجيل، صاحب الأثر الرائع، والنوال الذائع في العلوم الشرعية . وتعتبر تآليفه للقارئ حجة قاطعة حسية.
لقد كرس هذا العلامة الكبير حياته وشبابه لمدة تزيد عن ستين عاما في تكوين الشباب والرفع من مستواهم المعرفي، سواء في وادي سوف أو في تقرت .
وفــاتــه:
بعد أن أمضى الشيخ هذا العمر الحافل بالعمل الدؤوب الذي استمر ستين عاما في حقل التدريس والإمامة والإفتاء، وبث روح العلم الأصيل في نفوس الناشئة من الشباب والشياب على حد سواء، أصيب بمرض عضال ابتداء من عام 1386هـ/ 1966م، ألزمه الفراش طوال ثمانية عشر شهرا، حيث تدهورت صحته، وأحس بدنو أجله، فكان يقول لأهله : « إدوني لبقعتي، إدوني لبقعتي ». فقال له ابنه الأكبر المكي : لقد حولناك إلى بقعة أخرى، فرد عليه قائلا : لا، إلى المقبرة . وهذا قبل يومين أو ثلاثة من وفاته التي صادفت يوم الاثنين 28 شوال 1387هـ/ 28 جانفي 1968م، ورفعت روحه إلى بارئها، وهو خالي الوفاض وربه عنه راض، بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وانطفأت بذلك مشكاة الحقيقة، واختبأ ينبوع الطريقة. وأوصى أن يدفن بمقبرة تقرت . وقد خرج في جنازته جمع غفير جاؤوا من كل حدب وصوب، من سوف والزيبان وواد ريغ وورقلة وغرداية والأغواط ومسعد والجلفة . وخرج الجميع عن بكرة أبيهم يشيعونه إلى مثواه الأخير، ويلقون عليه نظرة الوداع . وكان الإمام الإباضي الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض(1307-1400هـ/1889-1980م) في طليعة المشيعين وفي مقدمة المودعين . وقد أبنه ثلاثة أو أربعة رجال، ومنهم الشيخ إبراهيم بيوض الذي قال عنه : لقد سقطت عرصة في الإسلام . ودفن في مدينة تقرت بعد أن صلّى عليه صهره الشيخ الطاهر بن محمد الصالح سالمي، (1320-1398هـ/1900-1978م) شيخ زاوية سيدي سالم الرحمانية بالوادي .
الخاتمة:
وفي الختام، يعد الشيخ الطاهر العبيدي من أبرز علماء سوف في القرن المنصرم . تقلد مهمة شاقة سواء في الوادي أو في تقرت، حيث قام بأعباء التدريس في مختلف ميادين الشريعة والتفسير والحديث النبوي الشريف وعلم العقائد، بالإضافة إلى حركة الإفتاء والتأليف والوعظ والإرشاد . كما كانت مجالساته ممتعة وشيقة ومفيدة .
لقد كان بحق رائدا في منطقة الجنوب الشرقي، مثل الطلع النضيد للنخل الباسقات . ترك بصماته على الساحة الثقافية قاطبة . وقد أقر بمكانته هذه فطاحل العلماء، وكبار المثقفين، مثل: محمد الخضر حسين، شيخ جامع الأزهر، الذي أثنى عليه لما حضر درسه في التفسير . كما اعترف بمقامه السامي، رائد النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس لما مر على تقرت، وتعارف معه، ولا ينبئك مثل خبير . وإلى حد الساعة، ما زالت آثاره العلمية محل تنقيب وتمحيص وتقصٍّ من المثقفين الجزائريين . وما علينا إذن إلا التشمير عن سواعد الجد، لمكابدة عناء البحث دون كلل ولا ملل، للتعرف على حياة الناجحين، لأن النجاح يجر إلى النجاح .
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 17/10/2021
مضاف من طرف : patrimoinealgerie
المصدر : زاوية سيدي سالم الرحمانية واد سوف