وإذا كانت المهمة السياسية قد باءت بالفشل، فإن الشيخ محمد الخضر حسين قد استفاد من إقامته ببرلين، إذ تعلم اللغة الألمانية ودرس المجتمع دراسة خلدها على أعمدة الصحافة اللبنانية تحت عنوان: “الرحلة الألمانية “. ولما لم يعد هناك ما يبقيه في عاصمة الخلافة، رجع الشيخ إلى عاصمة الشام، حيث قرر الحلفاء فصله عن جسم الخلافة المقهورة، ووضعوه تحت إشراف الملك فيصل بن الحسين.وفي دمشق عاد إلى سلك التعليم أستاذا بالمدرسة السلطانية ومحاضرا بالجامع الأموي وجامع المصلى. وفي سنة 1919 عين عضوا عاملا بالمجمع العلمي العربي الذي تم تأسيسه في تلك السنة، والذي تجدر الإشارة إلى أنه ضم، كذلك، من بين أعضائه العاملين الشيخ محمد ابن أبي شنب. مع التذكير بأن الشيخين كان قد سبق لهما اللقاء في مدينة الجزائر سنة 1904.
لم يبق الشيخ محمد الأخضر بن الحسين مدة طويلة في دمشق بعد عودته من الأستانة، حيث وجد نفسه مضطرا على الرحيل إلى القاهرة بسبب احتلال فرنسا لسوريا على إثر معركة ميسلون في الرابع والعشرين من شهر يوليو سنة 1920، مع العلم أن الإدارة الكولونيالية في تونس كانت قد حكمت عليه بالإعدام، غيابيا، بسبب ثبوت مشاركته في تحريض الجنود المغاربيين على الفرار من صفوف الجيش الفرنسي والالتحاق بالوحدات الألمانية التي تتولى إيصالهم إلى قيادة جيش التحرير المغاربي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
عن هذا الرحيل إلى القاهرة، كتب الشيخ محمد الأخضر مؤكدا أنه: “بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيأة غير هيأتها، هبطت مصر فلقيت، على ضفاف وادي النيل، علما زاخرا وأدبا جما..”. وهناك تولى التدريس واشتغل بالتصحيح لدى دار الكتب المصرية ليضمن عيشه بنفسه. وإلى جانب ذلك النشاط الثقافي، راح يعمل على لم شمل أبناء المغرب العربي المقيمين في الديار المصرية لأغراض مختلفة، وتمكن، بعد اتصالات عديدة وجهد كبير، من تأسيس “جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية”، وحصل ذلك في شهر جوان من عام 1924، أي ثلاثة أشهر، فقط، بعد إقدام مصطفى كمال أتاتورك على إلغاء الخلافة الإسلامية، وهو الأمر الذي أحدث ضجة كبرى في أوساط العلماء المسلمين، وخاصة في مصر حيث مقر الأزهر الذي كان هو أعظم جامعة إسلامية في ذلك الحين.
لقد اختلف كبار الشيوخ، يومها، وانقسموا على أنفسهم ما بين مؤيد ومناهض. وكان الشيخ علي عبد الرازق أكثر العلماء المؤيدين تحركا ونشاطا، فعبر عن موقفه في كتاب أصدره يوم الفاتح من شهر أفريل سنة 1925 بعنوان “الإسلام وأصول الحكم”، ونظر إليه رجال الدين على أنه ” هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه وتفريق لجماعته”.
وإذا كانت أعداد كبيرة من شيوخ الأزهر قد اكتفت برفع العرائض إلى مشيخة الأزهر، وبنشر المقالات وإلقاء المحاضرات للتنديد بالكتاب المذكور، وإذا كانت جهود مشيخة الأزهر، في التصدي لذلك، لم تتجاوز الإطار القانوني حيث أوكلت الأمر للنيابة العامة الملكية، فإن الشيخ محمد الخضر حسين، الذي ساهم في النشاط الإعلامي وفي إلقاء المحاضرات، قد تميز بتأليف كتاب ليس لنقد ما جاء في مؤلف الشيخ علي عبد الرازق، ولكن لنقضه بالحجة والبرهان، ولذلك عنونه: “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”، ومما جاء فيه على وجه الخصوص “أن فصل الدين عن السياسة ضلالة، حيث أن ثلاث حقائق كل واحدة منها شطر من الإسلام: عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، واشتمال شريعته بنصوصها وأصولها على أحكام ما لا يتناهى من الوقائع، وكون هذه الشريعة أحكم ما تساس به الأمم وأصلح ما يقضى به عند التباس المصالح أو التنازع في الحقوق”.
وفي العام الموالي لصدور كتاب النقض هذا، نشر الشيخ محمد الخضر حسين كتابا آخر نقض به كتاب طه حسين: “في الشعر الجاهلي”. وبهذين الكتابين اكتسب سمعة واسعة في الأوساط العلمية والثقافية، وأحرز مكانة لدى الملك فؤاد الذي دعاه إلى الإسكندرية في لقاء خاص يوم فاتح أوت من عام 1926. وبعد ذلك بأقل من عامين أسس جمعية الهداية الإسلامية التي جعل لها لسانا مركزيا بالتسمية نفسها. وحينما أنشأ الملك فؤاد مجمع اللغة العربية في الثالث عشر ديسمبر من عام اثنتين وثلاثين وتسعمائة وألف، وقع عليه الاختيار ليكون من بين الأعضاء العاملين إلى جانب شيخ الأزهر الأستاذ مصطفى المراغي، والأستاذ عبد الحليم النجار وغيرهم.
لم يتوقف الشيخ عند هذا الحد، بل إن طموحه المشروع قد دفعه، سنة 1950، إلى إنجاز بحث قيم حول القياس في اللغة العربية نال إعجاب المسؤولين والمختصين، فأهله ذلك لعضوية “جمعية كبار العلماء” في السنة نفسها. وبعد ذلك بعامين عين شيخا للأزهر، لكنه قرر الاستقالة من المنصب سنة 1954 ولازم بيته إلى أن وافته المنية يوم الإعلان عن ميلاد الجمهورية العربية المتحدة في الثاني من شهر فيفري سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف، تاركا ثروة فكرية كبيرة تشتمل على عديد الكتب والمقالات والمحاضرات التي تنتظر الباحثين والدارسين لإخراجها في صيغ جديدة تستفيد منها الأجيال، خاصة وأن كثيرا منها قد عالج موضوعات خطيرة ما تزال مطروحة على المجتمع العربي الإسلامي خاصة والمجتمع الإنساني بصفة عامة.
بينما كانت المساعي حثيثة في سبيل إيجاد أفضل الطرق لتقويض أركان الاحتلال الفرنسي انطلاقا من عاصمة الخلافة، كان المثقفون في تونس والجزائر يوظفون أعمدة الصحافة لنشر الوعي في أوساط الجماهير ولتمتين العلاقات بين النخب المستعدة للنضال بجميع أنواعه ولتنشيط الجمعيات السياسية والثقافية. تجدر الإشارة، في هذا الميدان، إلى مجموعة الجرائد التي كانت تشرف عليها أقلام قديرة من أبناء تونس والجزائر، أمثال عمر راسم وعمر بن قدور والصادق الرزقي وحسين الجزيري والطيب بن عيسى.
وفي تلك الأثناء أقدمت السلطات الفرنسية على إقرار التجنيد الإجباري بالنسبة للشبان المسلمين في الجزائر وتسببت، بذلك، في كثير من الهجرات الجماعية باتجاه بلاد المشرق العربي وسائر البلاد الإسلامية، دون المغرب الأقصى بسبب ما كان يعانيه من تآمر دولتي فرنسا وإسبانيا. وقد ترتب عن كل ذلك وعن العدوان الإيطالي الذي تعرضت له ليبيا رد فعل شديد أبدته، تلقائيا، سائر الشرائح الاجتماعية في كافة أنحاء شمال إفريقيا.
في تلك الأثناء استطاعت الإدارة الامبريالية أن تجند أعدادا من أبناء الجزائر وتونس ممن تعرضوا للإصابات الفكرية ولوثهم الغزو الثقافي وعقدهم إلى درجة أنهم أصبحوا يؤمنون بأن الاحتلال الفرنسي نعمة قادرة على فتح طريق التقدم والرقي أمام الجماهير الشعبية في المنطقة، ولذلك جردوا أقلامهم للدفاع عن النظريات الاستعمارية ومحاربة التيار الوطني الذي يسعى جاهدا لدعم المواقف الرافضة لكل القوانين الاستثنائية ولقانون التجنيد الإجباري.
وإذا كان المتفرنجون من أبناء الجزائر وتونس يدعون إلى عدم الخروج عن طاعة السلطات الفرنسية، وقبول القوانين التي “فيها نفع كبير للمسلين”، فإن المثقفين وزعماء النخبة الحقيقية لجأوا إلى الصحافة ينشرون على أعمدتها آراءهم وأفكارهم المعارضة، في الوقت نفسه، لذلك القانون الخاص بإجبار الشباب المسلم على الالتحاق بصفوف الجيش الفرنسي، من جهة، وللعدوان الفرنسي ذاته من جهة ثانية.
ففي هذا الصدد ظهر، في الجزائر العاصمة، نشاط الشيخ عبد الحليم بن سمايه، المتحدث باسم الأغلبية الرافضة للقانون المذكور، وتضاعفت تحركات الصحافي المقتدر عمر بن قدور، الذي كتب يدعو إلى الوقوف صفا واحدا في وجه المستعمر المدعوم بالمنحرفين، الذين ” فضلوا خدمته والإنابة عنه في الدفاع عن مصالحه غير عابئين بما يعاني شعبهم من المآسي والآلام “.
كانت معالجة ابن قدور للموضوع فكرية وإعلامية في الوقت نفس، فهو يرى أن الخلاف بين النظرة الفرنسية وبين النظرة الوطنية الهادفة إلى إخراج الجزائر من التخلف خلاف شاسع، لأن المستعمر يريد ” إصباغنا الصبغة الأوربية، سواء وافقت تلك الصبغة أوامر الدين الإسلامي وحدوده المستقيمة أو خالفتها، على حين نحن نرى أن لا تقدم ولا نهضة ولا تمدن إلا بواسطة الدين الإسلامي ومراعاة أحكامه المستقيمة التي كلها تقدم وتمدن، وعلى مثلها يسير الظمآن إلى ماء التمدن الزلال”.
الحلقة الثانية
يتبع
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 07/11/2018
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : مولود صياد
المصدر : www.elhiwaronline.com