الجزائر

العجائن المصنّعة تزيح "العولة" التقليدية عن عرشها بقسنطينة


استغنت كثير من الأسر القسنطينية عن بعض العادات والتقاليد التي ورثتها عن آبائها وأجدادها، والتي تعود إلى مئات السنين بالرغم من أن هذه العادات كانت تميز المدينة المشهورة بالمحافظة على تقاليدها، والتي بدأت تختفي شيئا فشيئا؛ بسبب تطور المجتمع، تاركة المجال لمزاحمة عادات جديدة مكتسبة. ولعل أهم عادة اختفت اليوم هي "العولة" أو "المؤونة" أو " الذخيرة".انتشرت "العولة" كثيرا خلال الفترة الاستعمارية عندما انتهجت فرنسا سياسة التجويع، غير أنها اختفت في السنوات الأخيرة حتى بالمناطق الداخلية بالولاية، والمعروفة بإنتاج القمح؛ مثل بلدية عين عبيد، وزيغود يوسف، وبني حميدان بقسنطينة وغيرها، أمام استعمال الثلاجة، وتوفر المواد الغذائية في المحلات التجارية المختلفة، وخروج المرأة إلى العمل.
حفظ الأطعمة عادة قديمة ابتكرها الإنسان منذ آلاف السنين
إذا كان حفظ الطعام بالتبريد بدأ في منتصف خمسينيات القرن 18 وتطور في أوائل القرن 19 حتى إن الثلاجات المنزلية اشتهرت، فقط، في عام 1940، فقد أثبتت بعض الدراسات الحديثة أن علماء الآثار وجدوا أدلة على مجموعة متنوعة من تقنيات حفظ الأطعمة التي استخدمها الناس قديما، بعضها شائع؛ مثل التجفيف، والتمليح، والتدخين، والتخليل، والتخمير، والتبريد في الثلاجات الطبيعية؛ كالجداول، والحفر تحت الأرض والأقبية، فضلا عن المطامير، التي كانت شائعة كثيرا في المناطق الريفية، وتحديدا بالجزائر، والتي كانت تُستخدم لتخزين كل أنواع الحبوب.
وهي عبارة عن حفر دائرية ضيقة الفوهة بقياس جسم رجل متوسط، وعمق يتجاوز المترين. ويكون التخزين فيها على المدى الطويل، قد يكون لعدة سنوات. وتتسع الواحدة لأكثر من 20 قنطارا من القمح الصلب، وحتى الشعير في المواسم الجيدة. وتغطَّى، عادة، جوانبها بالتبن؛ حفاظا على ما فيها من الرطوبة، وهكذا يتم تأمين الحاجيات العائلية والحيوانية.
وعلى الرغم من انعدام التكنولوجيا تقريبا، فإن الطرق القديمة كانت فعالة بشكل كبير حتى إن بعض المنتجات قد نجت منذ آلاف السنين، وهو ما جعل من تخزين الأطعمة عادة متوارَثة بين الشعوب، تختلف، فقط، في التسمية؛ حيث أُطلق عليها اسم عولة العام، أو المؤونة، أو الذخيرة، أو زاد العام.. وهي مصطلحات تطلَق على كل مخزون غذائي من أصل نباتي؛ سواء بخزن خام كالحبوب أو التمر، أو بتحويله إلى مواد نصف جاهزة للاستهلاك.
"الفتيل" والعجائن التقليدية أشهر أنواع العولة بالبيوت القسنطينية
كانت عادة " الفتيل " أو تحضير الكسكسي بالمنزل من أهم العادات القسنطينية التي اندثرت اليوم، وتركت المجال واسعا لمزاحمة منتوجات المصانع؛ "لنعمة الدار المفتولة"، حيث كان النسوة بمجرد حلول فصل الصيف، يجتمعن كل أسبوع في بيت إحداهن، لإعداد "العولة"، فتحرص صاحبة المنزل على فرش حديقة المنزل أو أي غرفة كبيرة بمنزلها تتسع لعدد معتبر من النساء.
ومع الساعات الأولى من الصباح تبدأ مظاهر الاستعداد من أجل " الفتيل "؛ إذ تضع كل واحدة منهن بين أرجلها قصعة العود وأمامهن أنواعا مختلفة من الغرابيل الخشبية ذات الثقوب الواسعة أو الضيقة، والتي تسمى ب " الغربال، سيار الزرع، السقاط، الرفاد، المعاودي، الدقاق "، وغيرها من الأنواع المستخدمة لصنع الكسكس، الذي يُعد جزءا لا يتجزأ من ميراث "العولة"، التي تُعدها النساء؛ تحسبا لحلول فصل الشتاء، وكل هذا وسط جو حميمي، تميزه تلك الأغاني التراثية القديمة التي ترددها النساء مجتمعات أمام قصعة العود والفتيل. أما الفتيات فيقتصر دورهن على تحضير الغذاء "للفتالات "، وصينية العصر بكل ما لذ وطاب من حلويات تقليدية.
وعندما تنتهي النسوة من إعداد الكسكسي، يوضع ليجف تحت أشعة الشمس لأيام عديدة، قبل أن يُحفظ داخل أكياس قطنية بيضاء خاصة، تسمى أكياس" الطوبي ". وتستمر بذلك نفس العملية؛ أي أن كل أسبوع يتم الفتيل في منزل، وبنفس العادة.
الشخشوخة والقريتلية عجائن تقليدية تتطلب الصبر
بعد الانتهاء من عملية " الفتيل " والتي تختلف العولة فيها من أسرة لأخرى كل حسب إمكانياتها، هناك من تحضّر 25 كلغ فقط من الكسكسي. وهناك من تحضّر نصف قنطار وهكذا، لتأتي عملية صنع المعجنات التقليدية الأخرى؛ كالتشخشوخة، وتريدة الموس، ولمقرطفة، والڨريتلية، والبركوكس أو العيش وغيرها؛ إذ تجتمع النساء كل أسبوع في منزل ما؛ من أجل إعداد هذه الأكلات التي تُستخدم كثيرا في المناسبات والأعياد.
ملحقات عولة العام كانت طبيعية 100%
لا تقتصر عولة العام على إعداد الكسكسي "النعمة" والمعجنات، بل تتعداها إلى ما يسمى بملحقات العولة؛ إذ لم يكن عمل النساء ليتوقف إطلاقا، فحتى الطماطم التي نشتريها الآن مركزة في علب، كن يحضّرنها في البيوت، ثم يضعنها في علب خاصة، ويحفظنها في أماكن باردة وبعيدة عن الرطوبة. وقد شملت الاستعدادات الشتوية جوانب مختلفة؛ كتجفيف الفلفل الحار، وإعداد مختلف أنواع المربى، إضافة إلى السمن الذائب، إلى جانب الفواكه الموسمية أيضا، التي يتم تجفيفها؛ كالعنب، والتين المجفف، إضافة إلى "الخليع" أو "القديد"، والذي هو عبارة عن كميات من اللحوم، يتم تجفيفها بالملح تحت أشعة الشمس عدة أيام؛ حتى تكتسب اللون الأصفر.
اندثار عادة تصفية القمح وغربلته لتعدد استخداماته
كانت النساء قديما وبعد انتهاء موسم الحصاد والدرس بالطرق التقليدية، يقمن بغربلة القمح الذي تم طحنه بالمطاحن، لفصل الدقيق عن النخالة؛ اعتقادا منهن أن بقاءها يفسد نوعيته. وهذا الجزء من نصيب كلاب حراسة العائلة، وكذا بعض الحيوانات كالحمير؛ لأن الأحصنة والبغال تعلف شعيرا لتسخيرها في العمل والحرث والنقل، لتنطلق بعدها عملية تصفية الدقيق، وتصنيفه بين السميد؛ وهو أجود الأنواع، والدقيق الخشين، والرقيق، والرطب، والفرخ العوالي، وغيرها.
وهي كلها تسميات خاصة بالدقيق الذي يتم فصله كلٌّ حسب استخدامه؛ فتأخذ المرأة ما يصلح للفتل لإعداد الكسكسي، وآخر لفتل العيش أو كما يسمى في مناطق أخرى من الوطن "البركوكس" أو"المحمصة "، وثالث لصنع الخبز والعصيدة، ورابع ل "الطمينة" وأنواع كثيرة، وصنع المقرود، والرفيس، والشواط وغيرها.
أمثال شعبية ارتبطت بعادة العولة
ولم تغفل الأمثال الشعبية التي يزخر بها القاموس الشفوي الجزائري هذا التقليد. ولعل من أبرز الأمثال التي قيلت في هذا الشأن: "حجار البلاء يتلقطوا نهار العافية "، أو "دار بلا عولة من حظ الغولة "؛ أي أن المنزل الذي لا توجد فيه "خزينة الطعام" تلتهمه "الغولة"، فضلا عن "دار الفحلة عامرة، ودار الخايبة خالية"، "واللي ماعندها قرحة ما عندها فرحة"، و" اللي خبا من غداه لعشاه ما يشفي فيه عداه"، وغيرها من الأمثال الشعبية التي كانت تؤكد على وجوب وضرورة إدخار الطعام أو جمع العولة.
ذخيرة القرح أو عولة لجنازة
هناك تسمية خاصة تطلَق على عولة القرح أو أيام الحزن، خاصة في الجنائز؛ حيث كانت النساء قديما، يقمن بعد تحضير عولة الشتاء، بأخذ قسط منها، وتخصيصه لأيام القرح.
والنعمة "الكسكسي" من أهم الأكلات التي تُطبخ لغذاء الميت. ولا بد لأهل البيت من وضع كمية معيّنة منه وتخزينها تحسبا لأي عارض. وهي الكمية التي يتم استهلاكها بعد سنة من إنتاجها بعد تعويضها بكمية مماثلة من الكسكس "المفتول حديثا"، حيث لا تستهلكه العائلة إلا بعد مضيّ سنة، وهكذا. وكذلك حال المعجنات؛ كالشخشوخة أو التريدة، والتي تُطبخ في أسبوع الجنازة صدقةً على روح الميت.
سيدات عاملات يهجرن العولة ويتحججن بالعمل
وإن كانت سيدات وحرائر قسنطينة قديما يفضلن العولة ويحضّرنها بأيديهن، فقد اختلف الوضع في السنوات الأخيرة، بعد أن هجرت القسنطينيات العادة منذ زمن. وحجتهن في ذلك العمل وضيق الوقت، وكذا توفر كل شيء في المحلات التجارية؛ فالزمن تغير كثيرا؛ فالسيدات في الماضي كن حريصات على الإبداع والتفنن في الطبخ وفي الأعمال المنزلية، ولا شيء كان يطهى داخل مطابخهن ولم يكن من صناعة أيديهن؛ إذ يأخذن كل المناسبات بعين الاعتبار. أما حاليا، فنساء الجيل الحالي لا يكترثن بالعولة إطلاقا، متحججات بأنهن لسن بصدد خوض حرب، وأن المحلات التجارية تعرض مختلف المنتجات المنزلية، ويمكنهن الحصول على أي شيء في أي وقت؛ فلماذا يُتعبن أنفسهن؟!
وفي مقابل هذا، هناك العديد من السيدات من يحضّرن العولة ولكن بأنامل غيرهن؛ حيث يحرصن على اعتماد سيدة موثوقة ومعروفة بنظافتها، يطلبن منها أن تحضّر لهن الكسكسي، والتريدة، والتشختشوخة، والرشتة وما إلى ذلك، ليكون لها على الأقل 6 كيلوغرامات من كل نوع.
استحداث عادة "التفريز" في حفظ الطعام بالنسبة للنساء العاملات
مع دخول المرأة العاملة سوق العمل، أصبح عليها أن توازن بين عملها ومسؤولياتها الأسرية. ومن أهم هذه المسؤوليات إعداد الطعام للأسرة. وقد أصبح "التفريز" أو حفظ الطعام في المجمد، من العادات المنتشرة وسط النساء العاملات؛ مما يساعدهن على توفير الوقت والجهد في إعداد الطعام.
وللتفريز العديد من الفوائد بالنسبة للنساء العاملات، حسب الكثيرات، على غرار توفير الوقت والجهد؛ إذ يمكن المرأةَ العاملة تحضيرُ الطعام في وقت مبكر، ثم تجميده إلى حين الحاجة إليه، مما يوفر عليها الوقت والجهد في إعداد الطعام كل يوم، إلى جانب توفير المال؛ فيمكن المرأة العاملة شراء الأطعمة الطازجة بكميات كبيرة، ثم تجميدها، مما يوفر عليها المال الذي تنفقه على شراء الطعام كل يوم، وكذا الحصول على طعام صحي؛ إذ بإمكانها تحضير الطعام الصحي في المنزل، ثم تجميده، مما يضمن حصول أسرتها على طعام صحي، على حد قول الكثيرات.
وهناك العديد من الأطعمة التي يمكن حفظها بالمجمد، حسب السيدات اللاتي تحدثنا معهن، كالأطباق الرئيسية: مثل اللحوم، والدجاج، والأسماك، والمعكرونة، والأرز، والشوربات، إلى جانب المقبلات؛ مثل المخللات، وبعض الحلويات؛ مثل الكيك، والبسكويت، والحلويات الشرقية.
ورغم الحداثة والتطور الذي نعيشه اليوم والذي تسبب في زوال العديد من الحرف التقليدية، إلا أن الملاحَظ أن كثيرا من الحرف مازالت تصارع من أجل البقاء، خاصة في العديد من المدن كقسنطينة، وهو ما نلاحظه في العديد المنازل القسنطينية التي تصر على استحضار كل ما هو تقليدي في مناسباتها؛ سواء كانت أعيادا دينية، أو مناسبات؛ كالأفراح والأعراس، وحتى المناسبات الحزينة كالموت؛ فلا تختفي النعمة المفتولة من أي منزل به جنازة، وكذلك بالنسبة لطبق الشخشوخة، والتريدة، والقريتلية في الأعياد الدينية والأفراح.
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)