الجزائر

الطاووس عمروش.. ثلاثة عقود من الرحيل ومن التهميش



جدد ناشطون ثقافيون طلبهم لوزارة الثقافة والسلطات المحلية لولاية بجاية، بالالتفات إلى بيت عائلة عمروش وتصنيفه في إطار التراث الثقافي الوطني، على غرار ما فعلته مع ببيت ألبير كامو وغيره من الشخصيات الثقافية والفنية التي عبرت هذا البلد.. حيث طالب هؤلاء، وعلى رأسهم جمعية الطاووس عمروش بإغيل علي مسقط رأس الكاتبة، وزارة الثقافة بتطبيق قانون رقم 15.04. المؤرخ في 1998والذي تنص المادة رقم 5 ورقم 10 منه على تصنيف المنشآت العمرانية التي تعود لشخصيات تاريخية وثقافية في إطار التراث الوطني. وقد أكد أصحاب المبادرة، في عريضة المطالب التي رفعوها للوزارة والسلطات المحلية لبجاية على صفحة الفايس بوك، على ضرورة إعادة الاعتبار لمنزل عائلة عمروش وإدراجه ضمن التراث الوطني ووقف التجاهل وتعمد تغييب هذه العائلة من المشهد الثقافي الوطني. وصمم أصحاب المبادرة، في ذات السياق، على عقد لقاء يوم الثاني من ماي القادم لتجديد دعوتهم من اجل إنقاذ منزل عائلة عمروش من الهدم والتجاهل.
تعتبر هذه ثاني مبادرة من نوعها يرفعها ناشطون ثقافيون من أجل إعادة الاعتبار للإرث واحدة من الأسر الثقافية في البلاد بعد المبادرة التي وقعتها في مارس من العام الفارط مجموعة من المثقفين والناشطين، حيث وجهوا نداء لوزارة الثقافة من أجل استعادة مجموعة الحلي التي تركتها الطاووس عمروش، والتي أوشكت ابنتها على بيعها لمتاحف فرنسية، حيث طالب أصحاب المبادرة يومها بحق الجزائر في استعادة هذه المجموعة التي تعتبر إرثا ثقافيا وطنيا من حق المتاحف الجزائرية أن تحفظها. وكانت اللجنة التي ضمت في صفوفها كل من رئيس مهرجان الفيلم الأمازيغي عصاد الهاشمي، والباحثة الجوهر امحيص، والمخرج علي موزاوي وغيرهم، قد رفعت مطلبها لوزارة الثقافية من أجل استعادة هذه المجموعة، وكانت الوزارة قد منحت الموافقة المبدئية لتحقيق المبادرة التي لم يظهر عليها أي أثر حتى الآن.
الصومام.. رباط حبي ومولدي
تعود أصول الكاتبة الطاووس عمروش إلى قرية إغيل علي، الواقعة في أعالي بجاية، القرية تمتد على امتداد علو الجبال تطل على منطقة الصومام وإفري أوزلاڤن التي شهدت انعقاد مؤتمر الصومام التاريخي أثناء الثورة التحريرية. القرية عبارة عن مجموعة من البيوت التقليدية على الطراز البربري المعروف هنا على امتداد الزمن، تشتهر بالصناعات التقليدية مثل الفخار، النحاس والنقش على الخشب، هنا تتجلى الحياة البسيطة بدون تعقيدات، تكتشف فيها بساطة ناس القرية، طيبتهم وعفويتهم في أبسط التفاصيل، الترحيب بالضيوف والتجاوب مع الناس.
هنا كتبت الطاووس أولى كتبها "الحبة السحرية"و "طريق الطبالين"، وقد ذهلت وأنأ أكتشف لاحقا أن حكايات كتابها "الحبة السحرية" لم تكن غير قصص جدتي التي تكررت لاحقا في كتب كل المبدعين وروتها قبلا كل الجدات، فكانت قصة الطاووس عمروش تتكرر في قصص كل النساء ومعاناتهن اليومية، فقد تحولت بعض تلك القصص الأسطورية إلى أغان والحان صنعت مجد الأغنية الجزائرية، مثل رائعة الفنان العالمي إدير"أفافا ينوفا"، فقد نقلتها الطاووس في كتابها الحبة السحرية بحس الفنانة وأمانة المرأة الجزائرية التي كانت تعتبر نفسها دوما حارسة القيم والذاكرة، تقول الحكاية، كما جاءت في كتاب الطاوس عمروش "الحبة السحرية".
هذه الحكاية تحفظها تقريبا كل الجدات في جبال القبائل ويرددها الصغار في الشتاءات الباردة حول موقد الفحم، حيث تمتد القصص مثل جداول الماء النقية وهي تحدث أصواتا بين الأغصان تشبه الهدهدة، تأخذنا إلى غابات النوم الساحرة ونحن نطوف بالجنان وعوالم الأحلام.
الطاووس عمروش قال عنها مالك حداد:"بصوت الطاووس عمروش تقدم الجزائر أوراق اعتمادها لمملكتي الله والناس"، وعنها قال المفكر الفرنسي الكبير أندريه بروتون "إنها الملكة نيفرتيتي بعثت في زمن آخر، هنا في بلدة إغيل عليكتبت الطاووس روايتها "شارع الطبالين".
في هذه البلدة الجميلة التي تقع على بعد 75 كلم عن مقر ولاية بجاية توجد جمعية الطاووس عمروش، حيث يمكنك أن تجد كل التفاصيل حول حياة صاحبة "شارع الطبالين"، الجمعية تضم كل الوثائق التي تؤرخ لسيرة الكاتبة من صور وكتابات والشهادات التي قيلت فيها. هنا يوجد شارع الطبالين الذي كتبت فيه الطاووس روايتها التي حملت اسم الشارع، على اليمين يقع بيتها وبيت العائلة التي شهد منذ سنتين الاحتفال بذكراها المئوية، أين زارت ابنتها القرية لكن دون أن تتمكن من الدخول إلى جدران البيت المهدد بطمس معالمه، لأن المستأجر الجديد يرفض الامتثال لأشغال الترميم، فالبيت الذي عاشت فيه الطاووس عمروش مهدد اليوم بالاندثار، على يمين البيت تقع المدرسة الابتدائية التي صارت تحمل منذ 63 اسم "جون موهوب عمروش" اللافتة كتبت عليها العبارة التالية "الكاتب والمناضل الذي يحب وطنه"، فقفزت إلى ذهني عبارته الشهيرة "قد أفكر بالفرنسية لكن لا أستطيع أن أبكي إلا بالقبائلية"، وتصورت حجم المعاناة التي رافقت عائلة عمروش لأسباب لا علاقة لها بالوطنية والإنسانية، جون موهوب عمروش الذي كرمه الرئيس السنغالي في دكار في 21 مارس 1977، يومها ألقى خطابا مطولا قال فيه "إن نضال أسرة عمروش فخر لكل إفريقيا"، ربما لهذا ظل جون موهوب يحلم بل ظل مؤمنا أن "جزائر الغد لن تكون فرنسية ولا عربية ولا أمازيغية لكنها ستكون كل هذا"، لكن للأسف الشديد الجزائر لم تتمكن من أن تتعايش مع اختلافها وثرائها. ليس بعيدا عن موهوب عاشت الطاووس عمروش نفس المصير ونفس التجاهل إذ لم يكن الحديث عن عائلة عمروش إلى وقت قريب سهلا أبدا، بل كان من قبيل المحرمات لكونهم من دين المستعمر، حيث حرمت من وطنها ومن جنسيتها ومن ممارسة جزائريتها لأنها فقط مسيحية.
مارغريت طاووس.. البربرية المسيحية
على جدران الجمعية تنام مجموعة من صور عائلة عمروش الأم فاطمة، أول امرأة مثقفة في إفريقيا صاحبة الكتاب الرائع"تاريخ حياتي"، مزيج من تعدد الثقافات والأعراق والابن جون موهوب صور الطاووس كانت تغطى أكبر مساحة بالحلي القبائلية والأزياء الأصيلة تجسد حجم الغربة والتمزق والحب الذي كانت تحمله لوطن عجز عن حبها واستيعابه،ا فحملت تفاصيله أزياء وحليا على جسدها في صورة أخرى تظهر عائلة عمروش مجتمعة توحي بالتعلق الكبير الذي كانت تبديه الطاووس تجاه والدتها.
كانت الطاووس عمروش أول جزائرية تكتب رواية "جوسينث نوار" عام 1947 التي حملت خلاصة الثقافة الشفهية التي ورثتها الكاتبة عن والدتها التي خلدتها لاحقا في كتاب جمع بين الاسمين الفرنسي والبربري "مارغريت طاووس"، ذلك التراث الذي قدمته الطاووس في أغنيها بصوتها حيث حملت "اشويق" القبائلي إلى عوالم أوبرالية عالمية، أين مثلت الجزائر في عدة مهرجانات، مثل مهرجان داكار للفنون السمراء عام 1966، وتكفل بعد ذلك أخوها "جون الموهوب"' بترجمة تلك الأغاني من القبائلية إلى الفرنسية في كتاب "الأغاني البربرية".
نضال طاووس عمرووش لم يتوقف يوما من أجل الهوية الأمازيغية لكنه نضال ثقافي بعيدا عن التسييس والسياسة، لذا انسحبت من الأكاديمية الأمازيغية بباريس التي شاركت في إنشائها عام 1966. تزوجت الطاووس عمرووش من الفنان التشكيلي الفرنسي اندريه بورديل، وأنجبت منه ابنتها"لورانس بورديل" التي عاشت تاريخ أمها بارتباط كبير تلك المرأة التي "أرادت على الدوام حماية ابتنها فكانت في نظرها أشبه بملكة خرافية عندما تقف على الخشبة لتشدو بصوتها عرفت الطفلة أن أمها عاشت ازدواج الهوية والمنفى فاحترمت تلك الرغبة في حمايتها ولم تطالب أمها بالمزيد"، وعاشت لتنقل هذا الكلام في شهاداتها عن أمها تلك المرأة الفذة التي عاشت قناعتها على الدوام بحب وبقناعة كبيرة.
عاشت الطاووس عمرووش التهميش والنسيان والتنكر، حيث لم تتردد على الجزائر إلا قليلا، إذ تمت دعوتها في نهاية الستينيات لتحاضر حول أخيها "جون المهوب عمروش"، وعادت مرة أخرى بدعوة رسمية من الطالب الإبراهيمي، وزير الثقافة والإعلام، لتكون ضيف شرف المهرجان الثقافي الإفريقي الذي احتضنته الجزائر سنة 1966 بدون أن تعتلى منصة الغناء، لكن الطاووس عبرت يومها عن رفضها لهذا القرار الذي رأته إجحافا في حقها بمقال مطولا نشر في "لوموند" لفرنسية وتحدت قرار السلطات يومها واعتلت منصة الغناء أمام الطلبة والشباب في بن عكنون، فكانت بداية تردى العلاقة بين الطاووس عمروش والسلطات الجزائرية، خاصة عندما فتحت النار في ثالث زيارة للجزائر على العديد من المسئولين والوزراء أين تم احتجازها بمطار هواري بومدين ولم يطلق سراحها لا بعد تدخل سفير الجزائر في باريس يومها "رضا مالك"، ومن تلك الحادثة لا أحد يجرؤ في الجزائر على الحديث عن الطاووس عمروش، حيث تم إتلاف تسجيلاتها من القناة الثانية وتهميش بل وطمس سيرتها وسيرة عائلتها، وعادة ما يفسر الشارع الثقافي عندنا هذا الإمعان في التهميش لكون الطاووس وعائلتها من ديانة مسيحية، وكان قدرها التهميش إلى أن رحلت بعد بداء السرطان بسان ميشال في 2 أفريل 1976 ودفنت في فرنسا، حيث أوصت أن لا يكتب أي شيء عل شاهد قبرها سوى اسمها "طاووس"، كأنها تصر أن ترسخ اسمها ومن ثم هويتها الجزائرية.
كان هذا الاسم الذي يحيل على الطائر الجميل المختال بريشه المزهو بالألوان هو إحالة إلى تاريخ من الفخر والاعتزاز بالهوية، وتلك المرأة التي كانت عمرش التي تكررت حكايتها في حكايات الجدات، فكل أطفال الزمن الجميل يحفظون حكايات الطاووس عمروش حتى قبل أن يسمعوا بكتاب"الحبة السحرية"، كان صوت الطاووس يتكرر في أصوات الجدات والأمهات اللواتي يتقمصن صوتها بعد كل صلاة عشاء حيث تبدأ تعويذة:"ما شاهو أني ماهو يا ربي اتيغزيف اتسلهو"، وهي الجملة التي كانت تعوض جملة الطاوس "فلتكن حكايتي جميلة ولتمض كخيط طويل"!. الطاووس عمروش لم تكن مجرد امرأة، كانت حكاية ذاكرة وهوية مشوهة كبرت فينا بين قهر النسيان والتنكر المرضي لأنفسنا هي صوتنا المخبوء الذي نخجل من الحديث به وإسماعه لغيرنا، لأنه فقط مختلف عن باقي الأصوات التي من حولنا هي امرأة، وما أصعب أن تكون امرأة في المجتمع القبائلي، وفوق هذا تكتب ومسيحية أيضا هي إذا لعنة غير قابلة للمغفرة، كيف لا ولا صوت يعلو فوق أصوات الذكور في مجتمعها، غير أن تلك المرآة البربرية رفضت أن تعيش غير قناعتها وإرادتها الحرة، فكسرت قيود الصمت والسكوت وتمردت على التقاليد وتصرخ في وجه محيطها عندما ما قررت أن تكتب.. أن ترفعها صوتها عاليا لتكحي معاناة النساء في اسمها اجتراح الهوية "مارغريت الطاووس"، أو ماري لويزة، كانت أول امرأة جزائرية تحمل لقب روائية في القرن التاسع عشر ومن أشهر مثقفات عصرها ولدت في الرابع مارس من سنة 1914. كتبت أولى نصوصها الروائية في سنة 1947 والتي اختصرت فيها ذاك الإرث الامازيغي الإفريقي المسموع الضارب في أعماق الحضارة الشفهية الأمازيغية المسموعة، وكما تحدثت في نصوصها ألاحقة عن تجربتها كامرأة، ومن خلالها رفعت عرفانا لأمها "فاطمة آيت منصور"، تلك المرأة التي كانت مصدر ألاغاني والحكايات الشفهية التي دونتها طاووس لاحقا بحس الفنانة. الطاووس عمروش كتبت أيضا بالفرنسية أغلب نصوصها لكن ظل صوت قلبها وشدوها وروح نصوصوها أمازيغية بحتة، فقد ناضلت بكل الطرق من أجل الحفاظ على هذا الإرث، حيث كانت أول امرأة تأخذ على عاتقها إعادة كتابة تراث أجدادها وتمثل هذا الإرث العريق في نصوص روائية وقصصية عدة، منها "البذرة السحرية، "العشيق الخيالي" و"الوحدة".. كتبت الطاووس عمروش عن كل ما يمكن أن يخطر على البال كتبت عن معاناة المرأة والتقاليد البالية حتى قبل أن تتفطن المنظمات النسائية لما كانت النساء يعانين منه في هذا الجزء من العالم، لها يعود أيضا الفضل في تسجيل الحكايات الشفهية والأساطير والأمثال والحكم الشعبية، بفضلها فقط وبفضل شجاعتها تم إنقاذ هذا الإرث من الضياع.
يحمل صوت الطاووس عمروش عبر بحثه كل الظلم والمآسي المؤنثة التي حرمت من التعبير عن نقسها طوال قرون حتى انفجرت في صوت هذه المرأة، كان صوتا رائعا رافضا للخضوع. رحلت الطاوس عمروش بعد صراع مرير مع السرطان في الثاني من شهر أفريل من عام 1976 بسان ميشال أين دفنت، وأوصت أن لا يكتب على شاهد قبرها أي شيء سوى ''طاوس''، وكانها تنتصر اخير لخيار هويتها رغم انف كل الذي عملوا كل ما بوسعهم لإقصائها من الانتماء الى هذه الأرض.
ورغم مرور ثلاث عقود كاملة على رحيلها إلا أن التهميش والتجاهل ما يزال يطارد إرثها من طرف السلطات الرسمية التي لم تفعل أي شيء من أجل إنقاذ جزء من ذاكرتنا التي تضيع.. لأننا فقط نخاف أن ننظر لجزء من ذاتنا في المرآة.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)