الجزائر

السينما والخمسينية: حصيلة كارثية



السينما والخمسينية: حصيلة كارثية
1962 2012، خمسون سنة بعد نهاية حرب التحرير، ما تزال حرب الصورة مستمرة إلى أيامنا. كلا الطرفين يحتفل بالحدث وفق طريقته الخاصة، فالاستراتيجيات والنتائج تبدو مختلفة بشكل راديكالي.تم، من جهة، إنتاج خمسين شريطا وثائقيا وشهادات وأفلام وثائقية أو غيرها، عُرضت في الوقت المناسب (بمعنى خلال ذكرى الخمسينية). ومن الضفة الأخرى من المتوسط، كثر الارتجال لتفسير أن الاحتفال بهذه الذكرى يمتد من جويلية 2012 إلى غاية جويلية 2013. لكن، ونحن على أبواب الخامس من جويلية، نجد أنفسنا أمام إنجازات سينمائية سلبية، حيث لم يتم تصوير أي من الأفلام التي برمجتها وزارتا الثقافة والمجاهدين. كيف يمكن تفسير هذا الإخفاق الكامل؟
لفهم هذا الإخفاق، لا بد من معرفة المنهجية التي اعتمدها هذا الطرف وذاك. من الجانب الفرنسي ليست المسألة بالجديدة، ففي سنة 1930 قررت الحكومة العامة توجيه نداء لإنجاز مشاريع للاحتفال بمئوية احتلال الجزائر من قبل قوات الجيش الفرنسي والمعمرين الذين استقروا في الجزائر على حساب الأهالي، السكان الأصليين للبلد الذي يحمل اسم الجزائر. في تلك المرحلة قام سينمائيون أمثال جان رونوار، بإخراج أفلام لم تتسامح مع الحركة الاستعمارية.
بعد أكثر من قرن، قررت الحكومة الفرنسية التي لم تظهر رسميا أي أسف بشأن التجاوزات التي رافقت وجودها في الجزائر، أن تضع وسائل كبيرة للتأثير على الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر. والهدف واضح: هو الاستعداد للاحتفال بذكرى وقف إطلاق النار، وليس ذكرى الاستقلال بغرض تجاهل هذا الحدث التاريخي. إن اختيار التواريخ لم يأت بشكل اعتباطي: أخذت فرنسا بعين الاعتبار تاريخ توقف الحرب، وليس تاريخ استقلال الجزائر، وهو الاستقلال الذي أانتزع عقب نضال طويل ضد الاحتلال الاستعماري. ولكي تكون في الموعد، وجه قطاع السمعي البصري نداءات لجمع الاقتراحات سنتين قبل الحدث.
وكان الهدف هو عرض الأفلام المنتجة في خريف 2012، أي قبل التاريخ الرسمي لاستقلال الجزائر. وبما أنه لم يتم إشراك السينما في هذه العملية هذه المرة، كلفت القنوات التلفزيونية العمومية بإنجاز عدة أفلام في هذا الاتجاه. ومنذ شهر مارس 2012، تم الشروع في عرض الأفلام الوثائقية الأولى وذلك إلى غاية شهر جويلية من نفس العام. وظهر أن الأفلام التي عرضت على قناتي “فرانس 2” و«فرانس 3” للجمهور الفرنسي، شاهدها الجمهور الجزائري الذي لم يجد شيئا مماثلا في قنواته الداخلية. وفي ظل غياب الإنتاج الجزائري، تابع المشاهد الجزائري (أو خضع) للتصور الفرنسي لتاريخنا الوطني.
فمن بنيامين ستورا إلى هيرفي بورج، مرورا بمالك بن سماعيل، أعطت القنوات التلفزيونية الفرنسية الكلمة لشخصيات معروفة غالبا، ومقربة من الجزائر. لكن هذا لا يمنعنا من القول إننا أفضل “سوبير” نظرة الآخر، واكتفينا بالصور الفرنسية لتكوين مخيال يخضع حتما لانسياق الاستيهام. وأمام هذه الصور التي تتدفق باستمرار من قبل القوة الاستعمارية السابقة، لم نحضر نحن أي شيء. لقد كانت شاشتنا سوداء، رغم أن الخطاب الرسمي لم يتوان عن التأكيد على ضرورة كتابة التاريخ بواسطة الصورة. لكن بين الخطاب والواقع يوجد خندق عميق، حيث إن وزارتين، بما تملكانه من وسائل كبيرة، وجدتا في وضعية صراع من أجل برنامج طموح لم نر منه أي شيء إلى حد الآن، رغم مرور سنة على الإعلان عنه.
هذا الإخفاق، هو في الحقيقة نتاج قرارات ظهر أنها وخيمة. بعد سنوات التسعينيات، كانت وضعية السينما الجزائرية متدهورة للغاية بعد غلق قاعات السينما عبر الوطن، وكذا حل المؤسسات العمومية الخاصة بالإنتاج السينمائي. وبدل بعث النشاط في هذا المجال، بدل تشجيع مؤسسات الإنتاج الخاصة التي كان ينتظر منها تعويض المؤسسات العمومية المُحلة، راحت وزارة الثقافة ترفع قانونا للسينما غير مفيد (قانون حول السينما ويعني مجرد نصوص قانونية)، لكنه عجز عن بعث النشاط في هذا القطاع.
لم يحقق القانون المصادق عليه أي تحسن في وضعية السينما الجزائرية، بل أدى إلى انحرافين اثنين هما:
حق الفيتو الذي منح لوزارة المجاهدين بخصوص كل مشروع مرتبط من قريب أو من بعيد بالثورة، وهو ما يعتبر بمثابة مساس بحرية الإبداع الفني. ومن حقنا التساؤل باسم ماذا يخول لوزارة المجاهدين لكي تدخل كمنتج سينمائي بدل الاعتماد على المنتجين الجزائريين من القطاع الخاص. تحويل المال العام الخاص بصندوق مساعدة مؤسسة عمومية ذات طابع تجاري، كان عليه تحقيق أرباح (وكالة الإشعاع) والتي تستهجن المنتجين الخواص، وقد أصبحت منتجة لكل الأفلام الجزائرية بواسطة إعانات تعود قانونا للمنتجين. هذا الإجراء لا يتماشى مع روح القوانين المتعلقة باستعمال المال العام من قبل مؤسسات تجارية.
بعد أن تعرضت المؤسسات العمومية للتصفية باسم تحويل الكفاءات نحو قواعد السوق، أوجدت الدولة احتكارا مفروضا في الواقع، لكن دون الوسائل المادية والبشرية التي كانت توفرها وكالة مثل الوكالة الوطنية للسينما والصناعة السينمائية للسينمائيين. لقد قام القانون بزيادة تفاقم المنافسة بين وزارتي المجاهدين والثقافة، كل واحد يرفض الشراكة مع الآخر.
والنتيجة، هي أن وزارة المجاهدين قرّرت، بشكل تعسفي، منح تموين ضخم لخمسة أفلام موجهة لإحياء ذكرى شخصيات وطنية، فأقصت بذلك باقي المشاريع المقدمة. سنة بعد الخمسينية، لم يتم إنهاء أي من هذه الأفلام، وبعض الأفلام مثل “العربي بن مهيدي” لم يعرف أي بداية. ومن جهة السينما، قامت وزارة الثقافة بتنصيب لجنة انتظرت سنة 2012 لكي تقوم باختيار 11 مشروعا سينمائيا وحوالي عشرين فيلما قصيرا. وبعد أن كان من المنتظر أن تعرض على الجمهور (أي جمهور في ظل غياب قاعات العرض السينمائي) بعض هذه المشاريع، شهدت الانطلاق في التصوير، بينما غالبيتها لاتزال بعد في مرحلة إمضاء العقود. حتى ولو افترضنا أن الخلفية تتمثل في تعطيل هذه المشاريع من أجل تسليمها خلال الحملة الانتخابية لرئاسيات 2014، فمن المؤكد أن غالبية هذه الأفلام لن تنجز.
لا يمكننا أن نلقي اللوم على اللجنة المكلفة من قبل الوزارة بإنتاج هذا الكم الهائل من الأفلام، لأن هذه الهيئة لا تملك الوسائل التقنية ولا حتى البشرية لإنجاز ورقة الطريق هذه. وتعتبر النتيجة بمثابة بلوغ وضعية ميؤوس منها لمهنة السينما. وهناك تعبئة غير محتملة أدت إلى شلل في المهنة. وهناك انحراف آخر، وهو أن المنتجين أصبحوا يؤدون دورا تنفيذيا يحرمهم من أبوة إنجازاتهم. تعد هذه القرارات والقانون المعتمد من أجل تمركز القرارات، بمثابة خطأ لن يؤدي سوى إلى تأزم الأوضاع المنبثقة من إرادة حرمان السينما من قاعاتها. وهذا ما أنتج تدنيا في المستوى الفني وعدد الأفلام المنتجة، وهذا رغم الإمكانات المالية المرتفعة التي خصصت للقطاع منذ الاستقلال. ويظهر التاريخ مرة أخرى أن المال لوحده لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية. وفي تصريح أدلى به، مؤخرا، خلال لقاءات سعيدة، صرح بلقاسم حجاج: “لا يتعلق الأمر بتقديم الأموال مثلما نقوم به هنا، لكي تكون عندنا سينما، المشكلة في الجزائر أنه لا يوجد إنتاج. وهذا الإنتاج أصبح يقتصر على ثلاثة أو أربعة أفلام في السنة. ليس بإمكاننا إنتاج أفلام أكثر”. ويعتقد حجاج أن “المغرب وافق على سياسة سينمائية حقيقية لإنتاج الأفلام”.
لقد حان الوقت لاستخلاص الدروس من هذا الفحص الفاجع والعودة إلى مبادئ بسيطة:
للدولة واجب التنظيم، لكن ليس دوره تسيير السينما بشكل مباشر. يجب أن يقتصر دوره على توفير المساعدات العمومية، عبر لجان مستقلة، للمنتجين في شكل إعانات تخضع للرقابة الشديدة.
السينما كنشاط تجاري وصناعي يجب أن تعود إلى الاحترافية ضمن السوق المسيرة بشكل حر.
الإبداع يجب أن يبقى حرا لا يخضع لأي عوائق أو محسوبية.
باختصار، حان الوقت لكي نستخلص الدروس من هذا الإخفاق. ولأجل هذا، علينا أن نعترف بالأخطاء المرتكبة في مجال تسيير النشاط الثقافي بشكل عام والسينما بشكل خاص، ونتجه نحو تكفل السوق والمحترفين بالسينما، بمعنى أن الدولة وموظفيها عليهم أن يتوقفوا عن تسيير مجالات أظهروا محدوديتهم فيها، ويقتصر دورهم على التأطير، وتنظيم النشاط.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)