تتميز مدينة تلمسان بموقع جميل، بين البساتين الكثيرة والحقول الواسعة، وتحيط بها السلاسل الجبلية التي تتوفر على المناجم المعدنية(1) والمياه الغزيرة، فهذه العناصر جعلت تلمسان، تتصدر مدن المغرب الأوسط، وتتفوق عليها في المجالات المختلفة، حتى صارت عاصمة للدولة الزيانية، فتدفق عليها السكان من المناطق المجاورة والبعيدة، وقد هيأت هذه الخصائص، المجتمع التلمساني إلى نقلة حضارية متميزة، وجعلت المدينة تحتل مكانة اقتصادية معتبرة ودورة تجارية هامة.
استقطبت اهتمام الناس عامة، وأصحاب رؤوس الأموال خاصة، من مختلف مدن المغرب الأوسط وأقاليمه، وجلبت إليها اليد العاملة، ولا سيما وأن مدينة تلمسان تقع على الطريق التجاري الرابط بين فاس وتونس، وتقترب من الموانئ الساحلية، فقد كانت مدينتا وهران وهنين من أهم الموانئ الزيانية(2).
ولم تجعل هذه الظاهرة البيئية، والخصائص الطبيعية، من مدينة تلمسان مجرد مؤسسة عمرانية، تعيش على حساب الريف والبادية، وتكتفي بدور السوق الاستهلاكية، بل تحولت إلى محطة كبيرة للإنتاج الزراعي، وورشة صناعية وسوق دولية، ومركز للخدمات الاجتماعية، اشتغل أهلها بمختلف الحرف والصناعات، وفي هذا الصدد يقول بن خلدون : "غالب تكسبهم الفلاحة، وحوك الصوف يتغايون في عمل أثوابه الرقاق، فتلقى الكساء أو البرنس عندهم من ثماني أواق، والإحرام من خمس، بذلك عرفوا في القديم والحديث، ومن لدنهم يجلب إلى الأمصار شرقا وغربا"(3).
وقد ازدادت أهمية مدينة تلمسان الاقتصادية، وتضاعفت فيها حركة المبادلات التجارية، وذلك بسبب وقوعها على الطريق البري، الرابط بين موانئها وبين مدينتي فاس وسجلماسة، وخاصة في فترات الإضطراب، التي كان يشهدها المغرب الأقصى بين حين وآخر، تتعثر معها حركة التجارة بين سبتة وطنجة وسلا، ومدن مغربية أخرى(4)، حتى إن الجغرافي البكري اعتبرها المدينة الأساسية في المغرب الأوسط، ومركز القبائل البربرية، ومكان تلاقي القوافل القادمة من الغرب والصحراء(5)، بينما جعلها الإدريسي مفتاح إفريقية الغربية، والممر الذي يعتبر منه المسافرون، وسكانها من أغنى سكان المغرب(6). وتتضمن إحدى رسائل الموحدين الاعتراف بهذه المكانة السامية لمدينة تلمسان، ((وهي البلدة العتيقة بل الروضة الأنيقة، جمعت محاسن المدائن منها في مدينة، واشتملت على أكمل عدة، ليومي حرب وزينة، حشوها السلاح والكراع، وفاخر متاعها لا يضاهيها المتاع))(7). وكانت الأراضي الخصبة، والبساتين الغناء، التي توجد خارج أسوار المدينة، تملكها أسر تلمسانية، لها منازل جميلة في هذه الحقول والبساتين(8)، تتخذها متنزهات لها، خاصة في فصل الصيف، وكانت تقوم بفلاحة الأرض وزراعتها، بنفسها أو تؤجر لها اليد العاملة(9) ويؤكد ذلك، حسن الوزان بقوله : ((وفي خارج تلمسان، ممتلكات هائلة فيها دور جميلة للغاية، ينعم المدنيون بسكناها في الصيف حيث الكروم المغروسة الممتازة تنتج أعنابا، من كل لون، طيبة المذاق جدا، يجفف ليؤكل في الشتاء والخوخ والجوز واللوز، والبطيخ والخيار وغيرها من الفواكه المختلفة))(10). وكان يوجد في شرق مدينة تلمسان، وعلى بعد ثلاثة أميال، في سهل لالاستي وعلى ضفتي نهر الصفصيف عدة مطاحن، للحبوب ومجموعة أخرى منها في جنوب المدينة عند رأس القلعة، وهذا دليل آخر على وفرة الزراعة خارج أسوار المدينة واشتغال أهل تلمسان بها(11).
والظاهر أن مدينة تلمسان، لم تكن قبل العهد الزياني، إلا مجرد مدينة إقليمية تحيط بها الأسوار لتحميها من الهجمات والغزوات، ولم تتحول إلى ظاهرة مدينية كبيرة، ومعالم عمرانية واسعة لها وزنها ومجالها وتأثيرها في المنطقة، إلا في العهد الزياني حيث تكامل أمرها، واتسع نسيج عمرانها حتى بلغ عدد سكانها في عهد أبي تاشفين الأول، مشيد القصور ومروض الغروس(12)، نحو ستة عشر ألف منزل(13).
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 27/10/2010
مضاف من طرف : tlemcenislam
المصدر : www.almasalik.com