الجزائر

الرسائل المجهولة لكشف الفساد .. عمل كيدي أم خدمة للصالح العام؟



تتهاطل على مختلف العناوين الإعلامية وعلى مصالح الأمن والهيئات القضائية المئات من الرسائل المكتوبة بخط فيه الكثير من الرموز أو عبر الكمبيوتر تقدم اتهامات لمسؤولين ولأشخاص عاديين وأحيانا تقدم الدليل القاطع لصحة هذه الاتهامات، مما يجعل مصالح الأمن وحتى الصحافيين مطالبين بقليل من الجهد لأجل كشف التجاوزات ويجعل المعنيين بهذه الرسائل على أبواب العدالة وحتى السجن، ويكاد موزع البريد في عصر الأنترنت والهاتف النقال لا يحمل في حقيبته غير الفواتير وأيضا الرسائل المجهولة التي فيها كل شيء إلا اسم ولقب كاتبها الذي يبقى مجهولا.

مع ظهور الأنترنت ظهرت أيضا الرسائل الإلكترونية التي لا أحد يعلم من أين أتت، فيها تشهير وأحيانا صور مدعمة انتقلت بعضها إلى الحركة وتقديمها على اليوتوب، وإذا كانت الكثير من الرسائل قد قدمت خدمة من رجل شجاع وربما من رجل في قمة الجُبن للمجتمع، فإن الكثير منها خربت بيوتا وأدخلت عائلات في متاهات الفتنة عندما راحت هذه الرسائل تطول أعراض الناس وتتدخل في الشؤون الزوجية، وللأسف وصلت قضايا من هذا النوع إلى العدالة، وكان الضحية فيها عائلة هادئة والمتهم رسالة إلكترونية أو خطية مجهولة المصدر ولكنها سريعة المفعول، وأخذت ظاهرة الرسائل المجهولة ضد المسؤولين أو بعض الموظفين في مختلف القطاعات بالجزائر، خلال السنوات الأخيرة أبعادا خطيرة، لما تحدث من شروخ مهنية بين موظفي الإدارة الواحدة، بسبب تبادل الاتهامات فيما بينهم حول مصدر تلك الرسائل، وكذا مدى تأثيرها السلبي على نفسية المسؤول المستهدف .

الرسائل المجهولة ذات طابع مهني التي أصبحت تتهاطل بالعشرات على الجهات القضائية وأعلى السلطات المحلية والمركزية وكذا على أجهزة الأمن المختلفة وحتى على مكاتب الصحافة، يلجأ أصحابها إلى كتابتها باستعمال أجهزة الإعلام الآلي حتى لا يتم كشف هوية صاحبها من خلال الخط، كما أنها لا تحمل توقيعا باسم باعثها، فيما يفضل البعض إعطاء نوعا من المصداقية لرسالته بتوقيعها )فاعل خير) وإنهائها بعبارة )اللهم إني بلٌغت( وهي العبارات التي قد تجد طريقها لتحريك ضمير المرسل إليه ودفعه إلى التحقيق في مضمونها، والذي غالبا ما يندرج ضمن خانة إفشاء الأسرار المهنية. وفي الوقت الذي يؤكد فيه الحقوقيون بأن كل الرسائل المجهولة التي ترد إلى الجهات المعنية بفتح التحقيقات، مبنية على خلفيات خاصة لتصفية بعض الحسابات الشخصية بين بعض الموظفين ومسؤوليهم المباشرين، خاصة إذا ما تعلق الأمر بحرمانهم من الترقية أو معاقبتهم بعد تقصيرهم في أداء مهامهم، فيلجأون إلى كتابة رسائل مجهولة ضدهم وإرسالها من مكتب بريدي يكون بعيدا عن مقر إقامة الباعث أو مكان عمله لإبعاد الشبهة عنه، فينشر فيها بعض ما يراه تجاوزات من طرف مسؤوله من باب الانتقام منه، فإن أطرافا أخرى ترى بأن أصحاب الرسائل المجهولة لا يتوفرون على الشجاعة الكافية لتدوين أسمائهم خوفا من المتابعة القضائية من طرف المسؤول الذي تستهدفه الرسالة المجهولة، وفي غالب الأحيان خوفا على أنفسهم من شر المقصود من الرسالة أو بسبب عدم ثقتهم في الهيئات الأمنية والقضائية فيلجأون إلى مغامرة مخفية، هي في أسوإ الأحوال لا تضرهم إذا لم تنفعهم، خاصة إذا أثبتت جهات التحقيق أن ما ورد في تلك الرسالة مجرد أكاذيب وادعاءات باطلة لا أساس لها من الصحة أو أن ما قام به ذلك المسؤول يدخل في إطار صلاحياته التي خولها له القانون. وكم هي كثيرة تلك الأمثلة عن عشرات القضايا التي امتثل فيها مسؤولون بعد سلسلة من التحقيقات الأمنية والقضائية أمام العدالة، ثم تحصلوا على براءتهم من كل ما نسب إليهم من ادعاءات حركتها رسالة مجهولة.


هكذا تتعامل مصالح الأمن مع الرسائل المجهولة

تتلقى أجهزة الأمن بمختلف أسلاكها يوميا العشرات من الرسائل التي ترد إليها من جهات مجهولة، فتتعامل مع كل رسالة وفق المعطيات المتوفرة لديها مسبقا، ومنها من يكتفي باستغلال تلك الرسائل في إطار جمع المعلومات العامة ووضعها جانبا إلى حين توفر معطيات دقيقة ترقى إلى فعل إجرامي، ومن مصالح الأمن من يسارع إلى إخطار وكيل الجمهورية بفحوى الرسائل التي ترد إليه ويطلب فتح التحقيق فيها، على الرغم من عدم امتلاك الكثيرين للخبرة التي تؤهلهم للتحقيق في بعض المصالح والإدارات التي تسيرها قوانين داخلية خاصة، وهو ما قد ينجر عنه بعد سلسلة من التحريات والتحقيقات التي تجر المسؤول المعني إلى العدالة، حفظ القضية أو إحالتها على هيئة المحكمة التي تحكم بالبراءة.

ليعتبر البعض كل مجهودات التحقيق الأمني مجرد مضيعة للوقت فقط وراء سراب رسالة مجهولة كتبت في الأصل لتصفية حسابات شخصية وإزعاج الآخرين بنسج الأكاذيب من حوله عندما يتجه لمصالح الأمن أو إلى أروقة العدالة. وهو ما أصبح مصدر إزعاج لبعض المسؤولين الذين أصبحوا غير قادرين على أداء مهامهم وفق الصلاحيات الممنوحة إليهم خوفا من تعرضهم للمتابعات الوهمية وما تتسبب لهم فيه من إزعاج وضغط نفسي وبسيكولوجي، جراء الاستدعاءات التي يتلقونها من مصالح الأمن.


وكيل الجمهورية والرسالة المجهولة

وكلاء الجمهورية عبر مختلف المحاكم يملكون صلاحية الملاءمة للنظر في مختلف الرسائل والشكاوى التي ترفع إليهم، ومنهم من يحوٌل تلك الرسائل مباشرة إلى التحقيق بناء على معطيات مسبقة، ومنهم من يتحفظ عليها إلى حين ظهور أدلة جديدة من شأنها تدعيم ما تتضمنه الرسالة المجهولة، بينما غالبا ما يقوم بعض وكلاء الجمهورية بحفظ تلك الرسائل والتعامل معها كمصدر جديد للمعلومات التي تبقى بحاجة إلى أدلة توفرها مصالح الضبطية القضائية، متى تطلب الأمر ذلك. ويرى محامون أن وكلاء الجمهورية ملزمون بالتحقيق في الرسائل التي ترد إليهم مهما كان مصدرها حتى وإن كان مجهولا، لأنهم مطالبون بتبرير مصير الشكاوى التي تسجل لدى كتاباتهم، وهم غالبا ما يتعاملون باستعمال حقهم في السلطة التقديرية لحفظ تلك الرسائل التي يشتمون منها رائحة الانتقام.


السلطات الإدارية تكتفي بالإحالة على التحقيق أو الإهمال

السلطات الإدارية المخولة بمراقبة سير مصالحها الإدارية عن طريق مختلف المفتشيات المحلية أو الجهوية وحتى المركزية، تقوم غالبا بإهمال تلك الرسائل المجهولة، لأنها على دراية تامة بالقوانين الخاصة التي تسير كل إدارة، خاصة إذا ما تضمنت معلومات بشأن بعض القضايا التي كان للسلطات الإدارية السبق في كشفها أو لها الأمر في إصدارها، بينما يتم تحويل البعض من تلك الرسائل إلى النيابة العامة من أجل التحقيق فيها وانتظار ما ستسفر عنه تلك التحقيقات من نتائج قد تؤول عدم المتابعة القضائية أو إلى حكم البراءة، فيما تكشف القلٌة القليلة من تلك الرسائل المجهولة عن وقوع تجاوزات حقيقية يعاقب عليها القانون.

يرى رجال قانون بأن الوقت قد حان للتخلي على التعامل بالرسائل المجهولة التي تمس بأعراض الأشخاص ومناصبهم، لعدم مصداقية غالبيتها من جهة وكذا ضرورة زرع ثقافة تحمل المسؤولية من طرف الشاكين وإظهار هويتهم على تلك الرسائل، لأنه وبحسبهم الجزائر هي البلد الوحيد الذي لازال يتعامل بالرسائل المجهولة، على الرغم من مخلفاتها وتأثيراتها السلبية على أداء الإطارات والمسؤولين وإمكانية تعرضهم للإصابة ببعض الأمراض الخطيرة والمزمنة خلال مراحل التحقيقات الباطلة، المبنية أصلا على ادعاءات باطلة ضمن رسالة مجهولة، قد يكون الغرض منها الانتقام لتشويه سمعة المسؤولين أو الضغط عليهم من طرف بعض الزمر التي لا تجرؤ على الظهور والمواجهة.

وحتى من الناحية الدينية فإن غالبية الأئمة الذين تحدثنا إليهم استنكروا لجوء بعض الناس إلى الرسائل المجهولة وأدخلوها دائرة الآية الواردة في سورة الحجرات "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"، وعادوا بنا إلى حادثة الإفك التي تعرض فيها مجهولون إلى عِرض أم المؤمنين الطاهرة زوجة الأمين صلى الله عليه سلم السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق، والغريب أن الرسائل المجهولة صارت ترد وبقوة لوزارة الشؤون الدينية وأيضا لمختلف نظارات الشؤون الدينية التي تتحدث عن تجاوزات بعض لجان المساجد والأئمة ومنها من هو عين الصدق ومنها ما هي باطل وبهتان خاصة التي تتعرض لأعراض الأئمة وتصفهم بالمنحرفين، ولأن كل الجزائريين يحفظون مقولة الساكت عن قول الحق شيطان أخرس فإنهم يلجؤون إلى الرسائل المجهولة لينقذوا أنفسهم من التهمة الشيطانية الخرساء رغم أن الكتابة هي صمت ورغم أن الأئمة يتمنون من الشاكي أن يقدم نفسه ويتحمل كل مسؤوليته ويعلم أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لا حق يضيع وراءه طالب، لأن الحكم الشرعي في أي قضية والحكم الوضعي في حاجة إلى شهود وفي الرسائل المجهولة لا ضحية ولا شاهد.

ومع كل ذلك فهناك الكثير من القضايا الكبرى التي هزت الجزائر دخلت فيها الرسائل المجهولة وأحيانا سبقت كل الأدلة مثل قضية الخليفة الذي كانت الرسائل المجهولة تقدم لمختلف مصالح الأمن ولكبار المسؤولين في الدولة تجاوزات المتهم عبد المؤمن خليفة وتحدثت بعض الرسائل المجهولة عن أمور أخلاقية وكشفت أخرى علاقاته المنفعية مع الأجانب وأيضا قضية أكبر اختلاس وتبييض للأموال في تاريخ الجزائر الذي هندس له عاشور عبد الرحمان المسجون حاليا عكس عبد المؤمن خليفة، الذي كان متابعا بالرسائل المجهولة التي اتضح أنها لم تقدم سوى القليل من الكثير الذي تورط فيه وتعتبر شركة سوناطراك أكبر المؤسسات التي تشهد الرسائل المجهولة التي تتحدث في غالبها عن تعنتر بعض المسؤولين وتعاملهم بالجهوية وبالمحسوبية وحتى بتعاطي الرشوة، ولكن وزراء النفط الذين تعاقبوا على الجزائر ومديري سوناطراك هم من يعينون صغار وكبار المسؤولين لأجل ذلك لا يتحركون، كما توجه لوزارة التربية الوطنية ومديريات التربية جبال من الورق عبارة عن اتهامات باطلة وأحيانا كشف لحقيقة بعض رجالات التربية والذين عوقب الكثير منهم على نطاق محدود دون بلوغ حافة قصر العدالة.



سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)