فتحت الثورات العربية الطريق لتجديد الوجوه في المشهد السياسي العربي، وعلى مستوى رؤساء الدول بصفة خاصّة، لتُطوى – وإلى الأبد إن شاء الله – صفحة قاتمة من تاريخنا المعاصر سطّرتها رئاسات منحوتة بالقبح والبؤس والسوء بكلّ أطيافه، فقد عاشت أجيال و ماتت في ظلّ رئيس واحد – فضلا عن الملك الذي ورث الملك والبلاد والعباد والشأن من أبيه أو أخيه – هو دائما الأعلم والأحكم والأذكى والأقوى، هو وحيد زمانه وفريد أوانه، لا يمكن أن تلد النساء مثله ،إلى آخر ما كان يحيط به نفسه من الهالات الكاذبة والمؤهّلات السرابية، التي يروّج لها إعلامه المدجّن ورجال دينه المنافقين ، وقد آن أوان تجاوز هذا النمط الأعوج وإهالة تراب النسيان عليه وردّ الاعتبار لمنصب الرئيس بتحريره من قسمات الاستبداد وإخراجه إلى شعبه بوجه إنساني سويّ .
شاهت الوجوه ! ما أبغض هؤلاء الرؤساء " فوق العاديّين " الذي جثموا على الواقع العربي منذ استقلال دولهم، هم وحدهم الذين يملؤون الأخبار ويشغلون الساحة ، ليست لديهم أية نقطة ضعف، ذكرى ميلادهم عيد وطني أهمّ من ذكرى الاستقلال وعيد الأضحى، صورهم منقوشة على العملات النقدية والورقية وتملأ الدواوين والمحلات والساحات العامة، ولأكثرهم تماثيل ضخمة وثمينة ...كلّ هذا حتى يختلط ذكره بالهواء الذي يستنشقه شعبه ، فكلاهما ضروري لحياته وملازم له بالليل والنهار حتى يقبض الله " الزعيم المفدّى " ويخلفه من عينَه هو قبل وفاته.
إنّ الرئيس الذي نريده – بعد أن خلّصتنا الثورات العربية المباركة من عدد من الطغاة فتركوا أماكنهم شاغرة لمن تختاره الأمة لأول مرّة – ليس ذلك الذي المهيمن على مفاصل الحياة كلّها ، يفصل في الصغيرة والكبيرة لأنّه – دون سواه – صاحب الرأي الأصوب، تقوم الدولة على نظره الثاقب و" إرشاداته " في جميع الميادين، يستلهم منه الساسة والعلماء ورجال الأعمال والطلبة ، بل حتى العلاقات الدولية مدينة لإلهامه وتنبؤاته ، فهو محيط بدقائقها ، لا تضاهيه مراكز الأبحاث ولا علوم المستقبل !!!
إنّنا نريد – بعبارة مختصرة - رئيسا سليما من جنون العظمة، هذا الداء العضال الذي عشنا في ظلّه في معظم البلاد العربية منذ استقلالها، الذي حوّل إنسانا عاديا إلى إله أو نصف إله كما في الميثولوجيا الإغريقية، وحوّل الشعوب إلى عبيد واجبُها الأوّل التسبيح بحمده واللهج بذكره والتفاني في حبّه !!!وجنون العظمة مرض نفسي غاية في الخطورة يلازم الطغاة دائما، ولنا عليه أمثلة معاصرة لا تحصى تشمل الغرب والعرب، نذكر بعضها:
* هتلر : كان يحلم ببناء مدينة " جرمانيا " على أنقاض برلين، بهندسة تضاهي أعظم ما عرفه التاريخ.
* شوشيسكو : بالإضافة إلى فظاعاته التي جعلت من رومانيا واحدا من أبشع السجون في العالم فقد رأى أن يبني " دار الشعب " في العاصمة بوخرست لتكون واحدة من أكبر البناءات في العالم، بطول 270 متر وعرض 240 متر ، وفي سبيل ذلك تمّ هدم حوالي 7000 منزل واستخدام 000 20عامل، هذا في بلد كانت وسائل التدفئة والإنارة غير متوفرة فيه لعموم الناس إلا قليلا .
* حسني مبارك :اكتشفوا بعد الإطاحة به أن بدلته مرصّعة على جانبيها بحروف اسمه ، وتتراوح قيمتها بين 13000و25000 دولار، في حين أن أحوال الشعب المصري الشقيق المعيشية لا تخفى على أحد ، وما زلنا نذكر بكلّ أسى كيف أعلن الحداد الوطني في مصر يوم وفاة حفيده، وهو صبيّ صغير، وتساءل الناس ماذا كان يحدث لو توفي ابنه أو زوجته ؟
* صدام حسين :كان عنده حوالي 100 قصر " رئاسي" موزّعة على عدد من مدن العراق.
* آل الأسد : لم تعد مخازي الأب والابن وباقي افراد الأسرة " الحاكمة " خافية على أحد، ويكفي أن نذكّر بانتشار تماثيلهم الرخامية والبرونزية - خاصة تماثيل الأب الهالك – في ربوع سورية المقاومة والممانعة التي تتعرّض لمؤامرة كونية بسبب تمسّك الشعب برئيسيه المقبور والحالي !!!
* القذافي : كان يزعم أنّه بدوي يعيش في خيمة لا يتورّع عن نصبها حتى في باريس ونيويورك ثم اكتشفنا بعد الإطاحة بحكه الاستبدادي أن مقر إقامته في طرابلس كان على منوال قصور الف ليلة وليلة، واستبدّ به جنون العظمة إلى درجة اتخاذ مسدّس مصنوع من ذهب...لم يُغن عنه شيئا عندما أصبح في حاجة إليه .
هذه نماذج معدودة لا تخصّ هؤلاء وحدهم، بل تكاد تشمل جميع الزعماء العرب كما ستبدي الأيام من غير شكّ.
لا نريد مثل هذا الرئيس أبدا، هذا الذي يُراد تقديسه لأنّ الفهم انتهى عنده دون باقي أفراد الشعب، والاخلاص معدنه، لذلك تُعتَبر خُطبُه – وهي في الغالب عبارة عن أوراق كُتبت له يتتعتع في تهجيتها حتى يتصبّب عَرقًا – مرجعية للأمّة، يتبارى السياسيون والاعلاميون في شرحها وكتابة الحواشي عليها ليكشفوا للبشرية دررها وما حوت من عبقرية فريدة، ويدرسها الطلبة ويُمتَحنون فيها كأنّها علم غزير عجز الأولون عن الاتيان به، وهي في الواقع كلام ركيك مجترّ تزدريه الطباع، وما كتاب القذافي الأخضر ببعيد، فقد أراد أن يصرف الناس إليه كأنّه وحيٌ منزّل من السماء، وفي كلّ هذا يجد الرئيس الذي لا نريده متزلّفين يحيط نفسه بهم، يزايدون عليه في جنونه، فلا يبقى حوله مكان لأصحاب الكفاءة والمروءة والنصح.
ويبلغ رفضنا لهذا النموذج من الرؤساء أوجَهُ حين نتذكّر أن حكمه المديد مرتبط في الغالب بالفظاعات والدماء والآلام ، يجرّعها لشعبه " العزيز " وسط دعاية ضخمة عن تفانيه في خدمة البلاد والعباد ، واسالوا العرب الأحرار عن السجون والمعتقلات والأخذ الشديد بمجرّد الشبهة، والمنافي والمقابر الجماعية والبوليس السياسي.
من الرئيس الذي نريده إذن؟
إنه ابتداءً إنسان عادي – لا هو إله ولا نصف إله ولا ظلّ الله في الأرض – يأتي إلى سدّة الحكم عبر انتخابات تعدّدية غير مزوّرة، تطلّق نهائيا عهد,99 99 في المائة، فيكفيه الحصول على نصف أصوات الناخبين زائد صوت، ولا يعتلي منصب الرئاسة ليتسمرّ فيه إلى الموت أو الانقلاب العسكري ،بل يغادره بعد عهدة أو اثنتين ليتركه ليس لابنه أو أحد أفراد أسرته وإنما لمن يختاره الشعب بنفس الطريقة ،فقد سئمنا الأبناء غير الشرعيّين للصناديق المغشوشة والانتخابات المزوّرة والنتائج المعروفة مسبقا.
نريد رئيسا مثقّفا يقرأ ( ويؤلّف ، لمَ لا؟ في الفكر أو الأدب أو المسرح ... )، ويحسن الاتصال ، ذو ذوق رفيع فيما يلبس ويقول ويؤثّث مكتبه، بعيدا عن البذخ، له نقاط ضعف كغيره من الناس، يقرّب أصحاب الكفاءة والمبادئ لا ألمداهنين ولا من ينثرون حوله البخور رغبا ورهبا، ، هو ليس – كمن عهدناهم – رئيسا لكلّ شيء ، بل هو مشرف على مؤسّسات ثابتة قوية يُحسن الانسجام معها، إنّه ليس المؤسسة الوحيدة في الدولة- كما هو الحال في مشرق العرب ومغربهم – بل يخضع لمؤسسات الدولة ومنطقها وقوانينها، يعمل مع كلّ مكوّنات البلد السياسية وغيرها بنفس الروح البنّاءة، يتواصل مع المعارضة ويقبل الخلاف ويستمع للمخالفين ويفتح لهم بابه وصدره.
إنّنا واقعيون فلا نشترط في الرئيس المرتقب أن يكون من الخلفاء الراشدين – رغم توقنا إلى ذلك – ولكن حسبُنا أن يكون من أبناء الشعب، متمكّنا من السياسة، صبورا حليماً، رافضا للاستبداد رفضا مبدئيا قاطعا لا لبس فيه، معتزّا بعقيدته وانتمائه الحضاري، خادما لمرجعية شعبه وطموحاته، غيورا على الدين والأخلاق، متفانيا في خدمة الصالح العام، عارفا بخبايا العلاقات الدولية ،مبغضا للصهيونية، ثابتا أمام رغبات الهيمنة الدولية.
إنّه الرئيس الذي يحبّنا ونحبّه، ويدعو لنا وندعو له، بدل ذلك الذي يبغضنا ونبغضه ويلعننا ونلعنه، فهل نطلب المستحيل؟ لا والله ، بل هذا أمر بسيط درجت عليه الأمم المتقدمة منذ عهود طويلة، وبدأنا نراه في فضائنا العربي مع اعتلاء منصف المرزوقي سدة الرئاسة في تونس، فهو – مهما كان موقفنا من توجّهه السياسي والايديولوجي – أوّل رئيس عربي منتخب لا يمتّ بصلة إلى الاستبداد وجنون العظمة، وهذه بداية واعدة ستدعّمها خيارات الشعوب بانتخاب أصحاب الدين والخلق والأيادي المتوضئة والكفاءات العالية في كلّ قطر تنجح فيه الثورة لنطلّق نهائيًّا حقبة الأنظمة الاستبدادية المتسلّطة.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 20/04/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : عبد العزيز كحيل
المصدر : www.algeriatimes.net