الجزائر

الرّبيع في الصحراء.. زهر وشعر وغناء...!



حلّ الرّبيع طافحا، يكلّل التّلة والرّابية ، وحان لأنسى المدينة الصّاخبة ، وأطير مثل طيوره نبحث عن المتعة الضّائعة بين الكثيب ... نتغنى من جود قرائحنا ... نعربد في أحضان البرية وننشق عطر الزّهور ! نتشذّر لرحلة البحث عن الشّفاء لأنسى أسارى السّادية ، ونعيق غربان أقهمنا عنها !..فترة نقاهة . رتابة مدينة سئمنا ضجّتها المريعة ... التي أرخت خناقنا ، وطائر الشّوق يحملنا على أجنحة وردية ، وشمس آذار تنير الثرى والسّماء ! نغرف على أجنحة النّار مما تجود به الغزالة عبر المفازة ... وأمواج النّواوير تمنحنا الشّذى والنّدى ! آه ... ما أجمل الصّحراء في الرّبيع والرّبيع في الصّحراء ! .. وسأبارح مع النّحيرة مرابعي مع طيور الظّهيرة.. يماشيني طائر السمرمر .. لكئ بعصافير ارتوت بالغناء . التّحليق صوب الصّحاري له متعة البحر عند الهجير ونكهة الرّاحلين إلى طيبة ! والطّائر الشّادي الذي لا يدالس ولا يؤالس ، يترقبنا هناك على تأجّج الحمراء..! يحدثني طائري عن هجرته المشرقية.. في ثلج الشّتاء وأحدثه عن قصّتي مع الكروان العسلي.. وما فعلت فيه البوادي شهر أيلول.... !، لما نأينا عن الضّجيج والقرقعة،وكنا نتمشى بأسعد طائر وأيمن طالع ، حتى تراءت لنا البرية .. سرسو والضّاحية .. أرض زنزاش.. أثر القبائل الهلالية ..والبربرية.. سهول عين الفقيه .. العقلة المائية ..التربة الرّعوية التي تكلّمت مراعيها الخصاب .. ! (الأراك والعرار والصندل والبشام والثمام والشيح والقيصوم . والنّجم والشّجر يسبّحان .. ! وطيور الرّبيع تتعانق في الفضاء الرّحب جذلانة بالرّبيع ... بيوت الطّين لبدو الصّحاري المتناثرة على البطاح ، وحقول القمح الفتية والماعز والشّويهات ، على حواشي السّنابل الغضّة..حالمة بشبق الرّبيع ..حابسة راعية ..هادية ! ،والفضاء الرّحب باسطا.. يضاهي البحر السّاجي والخيمة العالية ! ومن حين لآخر تنعشنا من نافذة الأكسونت.. نسمة غادية ، وتارة زقزقة عصفورة شادية ! ورائحة الزّعتر البري التي يكمن فيها سر حياتنا الفانية ، وأمواج السّراب تتراقص رقصتها الواهية .. ! وعلى الجنبات شجيرات الجرجير راقصة على وقع نسمة عابرة الرّقصةالهادية .. ! ، جمت أعشاب غبطتي ممزوجة بالحسرة عن أخرى شاحبة ذاوية ، استحالت نظارتها في ريعانها... وفي عز الرّبيع ! ،وأخت لها شاكية .باكية !.. .. !،وجلجل الرّبيع بمناكب الولية الصّالحة الرّابحية ... ! والمركبة الرّمادية تتمشى رهوا .. ،لاحت لنا حاضرة الحلي والمجوهرات دون عناء !نفحت من أغوار الهامل رائحة ..بخور لالة زينب الزّهدية .. رائحة التراث .. عبير الشجرات التوتية التي أورقت من عصوى سيدي أحمد والكرامة الرّبانية والبركة الصّوفية ! .. سلالة الحجاج الأشراف الذين تعلّقتهم يوم كان يجذبني لغط القطا في سماء البادية ..وتعلّمت على يدهم وقطفت ثمر الخوخة والبلس ونخب الرّمانة و الدّالية ! انثنيا الى مقهى بوكحيل ..ترجّلنا مقافصين !..نبتت أجنحة سميرنا حين جمجم. !أومأ للجرسون فلبّى وبيديه قهوة بنكهة سحر المكان وهلالية متغنّجة تتخطّر على النّخيل ! انتشلناه من وحدته ..فتبخّر ثلج انتظاره قطرات..قطرات ! وخلّفنا الحجرة الطّايحة في كنف المساء، نجتاز المنعرجات في حذر ونطوي المنعطفات على مهل !وفي أغوار النّفس شوق إلى مناظر البرية السّاحرة في رحاب الصّحاري ! تمهّلت لنرى تربة ندية استحالت خضراء.. ومراعي ضاحكة ..تدثّرت بالعشب ..الخدة الفارحة والقطفة المالحة والنّور والظيّان.. قد صيّأه الطّل ليلة البارحة .. ! والطّفل ينذر بجنوح الجوناء نحو الغروب لتتوارى خلف الشّفق الأحمر !توقفنا مبهوتين لغابة صحراوية، تقتل صمتها العصافير.. بزقزقتها الحانية !تتنقّل بين الأفنان عازفة وقد داهمها الغروب !تارة تلوح وأخرى تحجبها الأشجار المائسة !امتلكتني رغبة في البكاء وهي عائدة إلى وكناتها.. لتنام حتى إشراق أحنى غبطة وغناء.. ..! ونأت عصافير الدّوح تاركة أثرها في الوجدان ..وهاهو الليل قد أدلج يطرح وشاح السّواد .ريح هزيلة تعوي ونباح كلاب من بعيد....هامة تثأج في لجّة الظلمة .. ! تربّعنا بحجر فيئ.. في سغب.. تناولنا من سخائه..سرقنا صور العمر الثاني ! وتركنا الأيكة الزّاهية ، متحلحلين مع حلكة الغيهب الذي بدأ يكلّل الواحة بوشاحه المتماهي في الصّريم !تمزقه الأضواء من حولنا..تطحنه حد التلاشي !الأسطورة الجلالية وزاويتها المختارية تحرسنا من حلكة ابن دأبه .. ! آه ... ما أجمل السّكينة بليل الزاب !وما أحلى "سكن الليل لجبران "ومن حنجرة عربية تدعى فيروز !عرّجنا على أطلال حيزية وكفكفنا الدّيجور !تهنا بالقفر وأمواج الرّمال " النبكة " والعجاج.. !قفونا طريق الوادي بعناء ..يحرسنا مبدع المجرة ... ! حتى الحمراية، تنعشنا نسمات الرّملة من وراء النّخيل !إلى أن أكثب كوينين ولاحت مصابيحه في السّماء .. ! وجوهرة القباب تساورنا بغتة... ! وفوانيسه قائلة لنا بلابل الفرح تنتظركم من على هبهابة ! ترجّلنا بلوتس.. بنجومه الثلاث.. سكارى وما نحن بسكارى ..ركنت الأكسونت بحضيرته التي تحرسها الأشجار الباسقة!انتشل أحد المنظّمين الأمتعة واهترع بنا لمنقلبنا ! ففرت وعثاء الطّريق واندثرت كسرب الظلمة حين يطل القمر !حمام دافئ ..جال دوش معطر بماء الفرولة ..صابون بعطر الليمون !ليلة حالمة ونومة هادئة حتى السّحر !أطل شعاع ا بن ذكاء على موائد متنوعة من الفطائر.. ومع نهاية الفناجين ، توجهنا إلى كوينين ، مراتع الفن والأدب !والنّدوة في ولادتها ، مداخلات قد أضافت الكثير ..قراءات شعرية ونثرية ..طرب ونجوى وحميميات تسجّلها الذاكرة !تمرد وصعلكة بشوارع الوادي ..أرجيلة.. طرفة وملحة وغناء !عبث الكواليس مع فائجة الأصدقاء !نزهة من كثيب إلى كثيب ..أرجوحة ..شعراء أطفال يمتطون الجحاش غير مكترثين ! براءة أنخب البعير لنزقها ! ترنح بمبارك النّوق ومعاطنها .. حميميات سالت جباجب الإبل من طيشها.. ! وركوب على الجمال وقنص صور الغروب.. وولى زمن السّذاجة تحت جمّار النّخيل .. تأملتهم بحبور..فرجع بي شريط الرّيعان لأيام طفولتي في البادية وهم يركضون بين المروج وعلى شفير التّرعة ..يحبّكون تيجان خدّوجة والبابونجة التي تتصدّق بريّاها وبعطرها ... ! والغروب والرّملة تلهم الشعراء ! وبعد ارتوائنا بخمر الشّفق ،عدنا ننتظر النّهاية !وكانت الخاتمة مسكا ..تكريمات..عبرات ..شهادات شرفية..من قبل اللجنة الفكرية ..واستياء للقاء من أجل فراق توعّرناه !وبكاء صامت من أصعب البكاء تاركين الأحبّة .. وجاء الليل باهتا رتيبا ! ..بتنا على أمل هجرة القوبعه، ومع ذنب السّرحان سهلنا صوب قرطاج ..عن طريق الطّيب العربي ..تسبقنا أشواقنا لطيور تتنغنى بالحرية !جمارك التّخوم قابلتنا باللين والحسنى ..في الحال عجّلت بختم الجوازات ..واحتوانا تراب الخضراء مع الشّروق ..ننشق نسمات الصّبيحة الحنون برحاب صحراء توزر ..محدّقين هناك على مد البصر .لمناظر خلاّبة وأشجارغضّة تسكنها الطّيور السّارحة !سرحت مع حديث النجوى لأسترجع الذّكريات مع الإفريقية ..الأفلام التونسية التي تصور حياة البساطة والبداوة لأهلي القدماء .والطّرب العتيق " مع العزابة "والبكرة التي شردت مع الرّيح والقصابة..سيدي منصور ..البير والصّفصاف والنّاعورة .. ! سبّحت بحمده لبيت الجريد ومشاهد العيد ! أخذتني غفوية فيروز ،حلمت بشمائل الأولين ومعجزات الغابرين .... العرب الأقحاح الذين اتخذوا من العظام الرّميمة أسلحة يدوية ..!.. مضارب الأولين الصّالحين بالمغرب الكبير !.. واحات توزر وواحات سوف توأمان !. انتشلني صاحبي وراح يحدثني عن غضب الياسمين !والخراب الذي شابت لسخطه شجرة الصّندل ! انعطف بي إلى خيراتها والتّمور المتاخمة للصثّحراء ..وما جعلها محجّا للسائحين !وسماحة شمس رب الجلال توزع نورها على أرجاء توزر وأنحائه على مر السّنين !فما أحلاها مدينة الأحلام وباب جنّة الخلود !الجنّة التوزرية التي انستنا الجنّة السّرمدية ! أنهارها ترتوي من مائتي نبع !حديثه شائق.. ! جعل الأسطوانة تردد بداخلي أغاني الرّعاة !.. وتراءى لي الشابي بسكروتته وطربوشه الأحمر ..!محمود المسعدي و....... !سلاف "سير ...سير ..سير يا لزرق سير" ... " ،سوق الجمال خش لبلاوي الصّحراء.. مرتع الغزلان..سل على محبوبي كحيل الشفره ..سل على محبوبي كحيل النظره ،.." أحمد حمزة ...نعيمة التونسية ،تمنيت في النّجوى أن يتوقف الزّمن حتى لا أخرج من توزر ..جوهرة الّصحراء ،" لكن دوام الحال من المحال "،اقتربنا من المتلوي بمناظره الجذّابة ..تتمايل الهيفاء ببردة الواشي نحوى قفصة ..على حواشي سفوح التالجة، رقصت أوردتي لسحر جمالها الأخّاذ وروعة مناظرها الخلاّبة وذلك الوادي الجاري والحدائق الغناء ..والحقول والمزارع.. وأشجار الزيتون .ومع مرور الكرام دخلنا سيدي بوزيد وإياة أروى تنير الدّنيا !ها نحن ضيوف بلاد السباسب وعروس شعر الحرية متوشحة بوشاح الانعتاق، وقد زيّنها الرّبيع ! عانتقنا خيمة البركة المعجّة بشعراء وشواعر من كل فجّ عميق ،البتلة الخمرية والقهوة التونسية ،ومن حولنا شاعر يتغني بالحرية ،بيده راية هاربة من دم الأضحية وورود بيضاء وأخرى بنفسجية ، يحوم كالفراشة النقية ..يوزع الرّحيق من رونزا برية إلى لوتس ساحلية !كان شاعرا حصيفا ، جبل على الحرية ..شاهق الطور....سيجته الانسانية .. ابن تونسي وتونسية ..مرحا ..عميق التفكير ..له من فن الكلام بندقية ، .يتغنى بمهرة غجرية ..في الخلاء لا سرج ولا مخلاة صوفية ،تلتهم ما طاب لها من شوفان البرية ، في الصّباح وفي الضحية ..تججل :الحرية ....الحرية .في مهرجان شعر الحرية ،دنت شاعرة تسر قلوب الحاضرين، شاعرة برائحة الدّم. قائلة في همس ممزوج بالحنين : أهلا نورتم المراح يا أخوالي، قرأت غربتها ومكنون أمرها ،ومن ملامحها إتضح لي بأنها من سلالة نقية،فاغرورق الدّمع في مقلتيها ومقلتي !عبارات ..نظرات ..تفتت الحصية ! حنينها الينا لا ينسى وفضلها يشفع لها إلى يوم الدّين،ومازالت وستبقى تشتغل مكانها في الذّاكرة ..ولها ما لها من مودة واحترام..إنسانة لها أنامل بردية ..زاوجت بين طيبة البدوية وفطنة الحضرية ..أخية ،وبها نعتز ونفتخر ،وأيقنت بأن هذا النوع من أشد الحرائر ولاء وجدية . تناسلت بتلات الألفة وتكسّرت المزهرية . وبعدأن كسّرنا قسطا من تشنجات الطلوع .. رحنا لنطوف شوارع سيدي بوزيد وأزقته .. متنصلين، نجوب الدّكاكين والمقاهي والمعابد..أخذنا صورا إزاء الجدارية ، ثم رجعنا لخيمة تغازلها النّسمات،تداول الفرسان بداخلها في الحرّة والعمودية والنثرية.. والكلمات الشّاعرية التي تتخلل االالقاء ،وانتهت الأمسية في جو سيدته الكلمة ولا سواها ،تجمّع الحمام بمناكب الخيمة المهلهلة، وعلى حين غرة حضر الباص يطلق صفارته.. ليطير بنا إلى سبيطلة ،وأثناء السّير تكسّرت غلالة الخجل الفضية .. تحولت القصائد إلى أغنية .. وتعالت الزغاريد بقلب حافلة تكسّر الرّياح ،وخرجت الأصوات الرّخيمة من وراء الضباب والعتمة .."غرّيت بيا ".."باطل يا حمه باطل" ..سوج يا لحمامّ على زرقة لوشام " ،إلى أن لوّحت مدينة سبيطلة توحي بأمازيغ مرّوا من هنا !طوقتنا مدينة جرجير بهوائها المنعش وتربتها النّدية ..آوانا فندق بنجومه الثلاث ،قاعة تتلألأ بثريات الخزف ..غرف نقية بأفرشة التّرف ! مرتبة ترتيبة تونسية ..مغاربية .بعد نومة العصافير ..نزلنا حول موائد معدة بأنواع مختلفة من أطعمة، تفنّن في إحضارها طاهيات المرقد الفاخر ،ثم إقترح محافظ المهرجان الاتجاه إلى القاعة المحاذية ، وكانت عبارة عن ملهى ،بها حديقة، يفوح بأرجائها مسك الليل والنرجس الخجول .. وتدثّرها شجيرات اللبلاب ،كأنها خيمة بكر لا تقطنها إلا الجنّيات.. !أزهارها تتراقص على نسمات الليل ،بابها الخارجي يضارع لحدما بيت الحريم،في مدخله تمثال مرمري لامرأة شبه متبرجة، تحاكي شهر زاد في ألف ليلة ،نافورة الماءتعزف لحن خريرها ، ومن الجهة الغربية مقهى عصرية تعد القهوة الشرقية ..المشروبات الطبيعية والارجيلة الشامية ،رائحتها تدحر صمادير الكدر ..ونكهتها تجلب النشوة .. ردهتها معبر لسرب الهواء ... أرائكها المخملية سرقت من صالون ولادة الأندلسية ،كانت جلسة الشعر والسّمر بغرفة منزوية داخل المركب ،حضرتالشيشة وحضرت المباخر القمقمية ،والنوافذ المواربة تجلب النّسمات ،شعراء لم يبخلوا أو يشحوا بالكلمة المعتّقة الشّاعرية ، شاعرات تونسيات صنعن نكهة القمر والسّمر بعبث العفة المطلق ..من أصواتهن الناعمة وأسلوبهن الرّقيق ،براعم مسّها الشعر فتفتحت ،نزعنا الحمتنا على منأى من الهوك، وإزاء المحبّة ..يسقط الأدب، الشعراء من عادتهم التمرد ،أحصنة بلا قيود ..دون حسيب ولا رقيب ،يرقصون ويغنون ..يحبون بعضهم ..ويشهرون أسلحتهم ..يطلقون النّيران على آسارى التزمت والتسلّط ..يعشقون الجمال والدّلال ..يقمعون المحظور اقتداء بمأثور عنترة ،شوق وأشواق ومعاملة طيّبة ومحبّة دون نظير، وهذا ما جعل أسراب الأنواء والغيوم الدّاكنة التي تعكر الأجواء تتوارى ..يحجبها السّحاب ،بتلك الغرفة الرومسية ..لم يكن للحيلة مكانا بين نساء بحجم الصّبايا ورجال رضعو ا العفّة في العنفوان !ومرت ليلة زاهية ..تشلشل فيها عطر الكتى والخزامى، ..رمّم الشّعراء من خلالها ما تبقى من العمر !عدنا إلى الفندق يغازلنا ملا ك النّوم مع هزوع الليل ،في غرف بعبق الياسمين ، نامت الأراوي ونام الغزلان، حتى تنفّس الصّبح الجميل ،وأشعة شمس الرّبيع تنير مدينة النّوا والآثار ،تناولنا قهوة الصّباح ثم انطلقنا أفواجا إلى سبيطلة القدم وكانت الطّبيعة هناك بما فيها من ثراء وجمال .. هي معشوقتنا على السواء ،يمزجنا العشق ..ينحتنا بشرا واحدا ... توحّدنا كلمة أنجبناها في حالة جنون ..إستحالت يرقة ففراشة ترفرف بين الآثار والنّوار .... !نواوير النّعمان وآثار الروّمان ،"قوس النّصر" ..كنيسة: "بلا تور جيكوندوس" ،كانت لنا همسات وذكريات وصور ..ومناجاة شتى مفيدة وممتعة ،حتى أذنت لنا غزالة الظهيرة ابوتنا إلى القاعة المترامية بالطّابق العلوي من الفندق التّحفة ،وأقمنا ساعات للشّعر دون هوادة ولا أغلال، وكانت أمسية رائعة ودون رسميات ..تضوّعت مسكا ، ومع قبول الليل .نظّمنا قعدة كالبارحة، للشعر والطّرب من جديد ، ليلة أخرى حالمة .. في حجر سبيطلة هاربةمن جحيم الأوطان ، وحضرت الحافلة لتسري بنا إلى سيدي بوزيد .،طوينا الطريق كالعادة في جو الفرح والمرح،ودون شعور ترجّلنا بمقام الولي الصالح " سيدي بوزيد"وبالباب الكبير قابلنا الوكيل برحابة صدر ..شيخ طاعن.. بطربوشه التّليد وسكروتته العسلية ، يذكر بخير سلف ،روى لنا بإيجاز عن الشيخ بوزيد.. الذي هجر المغرب الأقصى وشق على فاس العتيقة أن تحتويه ..وأتت به نوارس الخير إلى أجداده القادمون من جزيرة العرب..ومكثوا بالقيروان..يحملون كتاب العلى .ترحّمنا وقرأنا الفاتحة في النّجوى..تيمّنا به ، وسرقنا صورا جنب الضريح ..... رفاة القطب الرّباني الصارت ثرى..تحجبها رمال وصفائح ..ويكللها شال أخضر ،لى جانبه مخطوطات يشق على الزّائرين فك رموزها ،ودار في خلدي بأن النّاس يزورونه ..يدعون الله ويتبرّكون ،وما هي إلا دقائق وبارحنا مراح البركة ،حيث خيمة الترف التي شيّدت بكرة من جديد ،للحظات الختام ،اشرأبت الأعناق لكلمة الضيوف التي ألقاها أحد الشعراء،لحظات من التّكريمات والشّهادات ، شق على الجميع لحظة المبارحة ،والخيمة الوردية غصتّ بكوكبة كثيفة، يظهرون مناقبنا ويشهرون مآثرنا كافرين بلحظة الفراق، ودّعنا الأحبة على التلاقي ملتهفين..مكتفئين ومتجهين عبر السباسب العليا، ودوما في رحاب الصّحراء ..قفصة ،والأسطوانة تردد بخلدنا ذكريات الليالي ،وصلناها مع صلاة الظهر ،تناولنا الغداء في أفخر مطاعمها،وطاكسي المحطة حملتنا، ككل الرّكاب عبر الوادي .. الذي دخلناه مع اشتداد الظلام ،هبطنا بشفير الوادي ليلا ،المدينة متبرّجة ،رايات..فوانيس متلألئة..حولت الليل نهارا ،نخلات سامقات تغازاها النّسمات العليلات، ولا فرق في الأمكنة فالوادي وقفصة سواء ،وقفنا محملقين في المقاهي وروادها الولوعين بالشّيشة ،ومع تلاشي عناء الطاكسي ،باغتنا أحد الأصدقاء الفنانين بإبتسامته التي لا تفارق شفتيه.. صافحنا مقبلا بحرارة ...مشى بنا إلى بيته..لتكسير العياء ،تبادلنا أطراف الحديث قبل العشاء السوفي وبعده ،حدثنا بروية عن النّدوة الفكرية وكواليسها ،وحدثناه عن إقامتنا بتونس وكواليس شعر الحرية ، ورجل الثقافة وموقفه إزاء ثورة البوعزيزية ..ورجل الشّارع الذي نال مكسب الانعتاق والحرية ..وعي التونسي تجاه القضية.. الشّاعر واستشرافه لتكريس الديمقراطية ،وأنهينا الحديث الشّائق بصور تذكارية ،وامتطينا الأكسونت وودعناه كعادتنا نمزق ظلمة الصّحاري بأمل والتؤدة، أملين طي البرية، والقمر الشّاحب في خدره ،غير مكترثين بالأودية والشّعاب العامرة بالنّوق والجمال التائهة.. التي أسكرها الرّبيع، تؤنسنا شريفة فاضل " الليل موال العشاق "يؤججها مذياع الأكسونت،دقا ..دقا يا لحمام يالي تمشي بالمهل ،والسواد يتلاشى وئيدا ..ولم نشعر بموت الليل البهيم ..حتى لاحت مدينة السعادة مع إشراق الصّباح،ارتشفنا آخر قهوة الطّريق وودعناه خير رفيق ،بارحناه ،ونزهة آذار أوشكت على النّهاية، ومازلنا في رحلة عشق الرّبيع ،نبحث عن جماله المحجوب، في العشب اليانع وشجيرات الشيح والعرعر، بصحاري سيدي عامر وحد الصّحاري والبراري المتبرّجة..التي وشّحها آذار بردائه المزركش .،وما هي الا ساعة وكنا بالجهة الشرقية لمدينتا الحالمة ،عدنا والعود أحمد، وقبل أن أودعه بباب مغناه ، طوينا ورقة الليالي دون تمزيقها على أمل رحلة مماثلة إلى القيروان أو لبنان إذا كان في العمر بقية ..




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)