الجزائر

الذكرى الحزينة



الذكرى الحزينة
مرّت ذكرى عزيزة على كل جزائري، بل كلّ عربي ومسلم. ذكرى غالية على التاريخ وعلى الشهداء، كلا حدثٌ، وهي الذكرى الخمسينية للاستقلال. من لا يتمنّى لبلاده أن تكون في مقدّمة البلدان، علماً وثراءً وأخلاقاً ونظافةً وديموقراطيةً؟ فقد كان الشهداء والمجاهدون الأصلاء يتمنّون ذلك بكلّ تأكيد. ولكن هل رأوا أمنيتهم تتحقّق بمناسبة الذكرى؟ ليس على هذا النحو.
يبدو أن الذكرى قد مرّت حزينة، لأنّنا لم نفهم مغزاها ولم ندرك معناها. فتعاملنا معها كما تعاملنا مع أيّ ذكرى: اجتماعٌ وافتراقٌ، ومصافحةٌ وابتسامٌ، واختلافٌ واتفاقٌ، ومهرجانٌ ينافس مهرجانا موسوما بالشعبية ويرفرف فوق هامتها العلم وتعلو زغاريد النساء. ثم مآدب تُصفّف ومآرب تُقضى ومفرقعات تصمّ الآذان نشتريها بأثمان خيالية، ودعوات سخيّة لفنانين معلومين ومجهولين، وشخصيات معروفة وأخرى نكرة، ثم قراءة الفاتحة على أرواح الشهداء بناة المجد ودعاة الحرية. تلك هي حصيلة الاحتفال بالذكرى التي كان يجب أن تكون مصدر فرح وغبطة، فكانت مصدر حزن ويأس، وكان يجب أن تكون عملاقة فجاءت قزمة. وما هكذا تحيا الذكريات في بلد المليون شهيد وموطن التاريخ المنتهب، والوطن المغتصب، والدولة المطموسة والهويّة المجروحة ببنادق الاحتلال القسري. هل يكفي أن نحيي الذكرى بما لذّ وطاب، وما أثار الغرائز والشهوات وأنسى الناس ما حدث وألهاهم عما حدث؟
الوقوع في الخطأ
لعلمنا وقعنا في خطأ حين توقّعنا أن تكون الذكرى الخمسينية فاصلا مرحليا بارزا للعبرة والتأمّل أمام مرآة الحقيقة، مرآة الزمن التي تُبدي أوجه الخير والشر، وتعكس تفاصيل الأشياء وتكشف عن المستور، فتُعلن أنّ الآزفة قد أزفت للمحاسبة العادلة لفاعلي الخير وفاعلي الشرّ، وتعطي لهذا الجائزة الكبرى وتُمطر الآخر بالزواجر العظمى. هل حقّا وقعنا في خطأ؟
مثلا كنا نتخيّل أن الجيل الذي تربّع على الكرسي طيلة خمسين سنة قد سئم الحكم، وسلّم الأمانة كاملة إلى جيل آخر عاش ووعى معنى الذكرى، جيلٌ متعلّم عصري العقل والمزاج، يُعايش الواقع الوطني والدولي، ولديه مرجعيات ثابتة من التاريخ والهوية تحفظه من الانحراف، وتوجّهه نحو حبّ العمل والتنافس والتفوّق. كنّا نظن أن جيل الخمسينية قد أدى ما عليه ثمّ اعترته الشيخوخة، وأصيب بفقدان الذاكرة والهذيان والعجز. لقد قام جيل الخمسينية بمهمّات نجح في بعضها وفشل في أخرى، وليس عيبا أن يفشل المرء إذا سعى واجتهد، ولكن العيب في الكسل والتقاعس والانغماس في الملذّات والإصرار على الجهل ومنع الآخرين حقّهم في الجلوس على نفس الكرسي.
بصراحة تصوّرنا أن تكون المناسبة موعدا لتأليف أفواج عمل تتوفّر على الاستقلالية القانونية والنزاهة الأخلاقية والكفاءة العلمية، وتملك حريّة الحكم وسلطة التنفيذ. مهمة هذه الأفواج هي دراسة الحالة وإعلان النتائج على الملأ، إن نجاحٌ فنجاحٌ وإن فشلٌ ففشلٌ، لأن من حقّ الجيل الحاضر أن يعرف ما فعل الآباء، وماذا حصد جيلهم قبل الفناء، وليس من حقّه أن يموت بأسراره لأنها ملك للأمة.
الخريطة العلمية
فهل تكوّن فوجٌ درس مدى تقدّم الجزائر في ميدان العلوم خلال خمسين عاما؟ عندما كانت الثورة تشقّ طريقها، كان الثوّار المتنوّرون (النخبة، إذا شئت) يتطلّعون إلى أن تكون الجزائر دولة علمية الأطر والاتجاه، مخصّصة رصيدا كبيرا من ميزانيتها للبحث العلمي لتلحق بالدول المتقدّمة: كان التقدّم في نظرهم هو اكتساب العلم والدخول في عالم التكنولوجية، ما يعني بناء المختبرات وتخريج العلماء المخترعين ليبدعوا حياة علمية جديدة يضاهون بها ما عند الدول الأخرى. فهل وضع أحدٌ خريطة علمية تحت الشمس ودرسها على حقيقتها؟ ثمّ أجاب على السؤال المؤرق وهو لماذا لم نفعل ذلك بمناسبة الذكرى الخمسينية؟
الخريطة التاريخية
هل أعدّ فوج ما خريطة تاريخنا ودرس منظومته في المدارس لاستعادة الثقة به، وحاسب مغتصبيه بالقلم وبالقانون، والكشف عن وسائل التزييف التي استُعملت؟ هل قام الفوج بكتابة نموذج تاريخي بطريقة علمية مدعومة رسميا؟ أليس التاريخ (كلّه) هو نحن، هو ماضينا، هو أبطالنا وعلماؤنا. التاريخ (كلّه) من القديم إلى الفتح الإسلامي إلى اليوم. لقد كنا ضمن قبائل بلاد المغرب ومن الخلافة الإسلامية، ثم من إمارات ودويلات مذهبية، كانت تتألّف منّا ومن غيرنا، لأنّنا كنّا نمثّل وإياها وحدات قبلية ظهرت فيها أسماء: الأدارسة والإباضية والأغالبة وصنهاجة والحمّاديون والعبيديون والمرابطون والموحّدون. وهذه الكيانات كلّها كانت تخضع لحدود القبيلة والمذهب وحدود الولاء للخلافة، وليس لحدود السياسة والجغرافية، وفيها ما ظهر في المغرب وما ظهر في تونس وما ظهر في الجزائر، وما ظهر في موريتانيا، وكل هذه الأقطار، المعروفة اليوم، كانت جزءًا من هذا الكلّ. وكلّها كانت تدين بالإسلام وتستعمل لغة القرآن في الإدارة والتحارير العامة والتأليف والتدريس..
ولماذا تتغاضى الذكرى الخمسينية عن دويلات، في حجم الأقطار الحالية تقريبا، ولكنها لم تخضع لحدودٍ سياسية وجغرافية أيضا، وقد تمثّلت في بني مرين بفاس وبني حفص بتونس وبني زيان في تلمسان. وكانت الجزائر أبخسها حظّا في السعة والهيمنة، لأنها انحصرت بين قوتين أكبر منها حجما وحضارة، ولأن قادتها لم يشيّدوا مركزا ثقافيا ينافس الزيتونة والقرويين والأزهر (وما أشبه الليلة بالبارحة). ولكن الجزائر عوّضت هذا الضعف في العهد العثماني، فأصبحت قطب الرحى ومركز الثقل وسيدة البحار، مضافة إليها ليبيا بعض الوقت، وتونس كلّ الوقت، بينما المغرب بقي يتخبّط في صراع عائلي شريفي.
وفي العهد العثماني، أيضا، رسم قادة الكيانات الأربعة الحدود السياسية والجغرافية المعروفة اليوم، فكانت الأقطار هي ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. فلماذا نقتصر على عهد المقاومة والتحرير. ألم نكن جزءًا من شعب واحد ونسب واحد، ثم أصبحنا ندين بدين واحد مستعملين لغة واحدة. أليس التاريخ كلاّ لا يتجزّأ. أليس من انقطع تاريخه انقطع سنده ونسله ونُسب لغير أهله؟ ثمّ لماذا يتنكّر بعض الجزائريين اليوم لأجدادهم، هل هم أعلم بالدين واللغة من المعزّ بن باديس ويوسف بن تاشفين ومحمد بن تومرت وعبد المؤمن الكومي ويغمراسن الزياني.. حين مارسوا الإسلام دينا ومنهاجا، واتّخذوا العربية لغة رسمية في الإدارة والخطاب؟ يتبع


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)