الجزائر

الدولة الأمة: خمسون عاما من الجدال الفكري عطر الأحباب


الدولة الأمة: خمسون عاما من الجدال الفكري                                    عطر الأحباب
في بداية سبتمبر 1983، زرت المفكر الكبير مصطفى الأشرف في بيته بالأبيار (الجزائر العاصمة)، كنت فرحا بزيارته لسببين رئيسيين أولهما تجاذب أطراف الحديث معه في قضايا الفكر والسياسة وثانية تسليمه النسخ الأولى من كتابه ”الجزائر، الأمة والمجتمع” الذي ترجمه إلى العربية المرحوم حنفي بن عيسى وأصدرته شركتنا وقتها (المؤسسة الوطنية للكتاب).
في بداية حديثنا، أبدى المرحوم مصطفى الأشرف بعضا مما كان يؤرقه، شكرنا على نشر الترجمة العربية لكتابه الشهير، بيد أنه تأسف لكونها كلاسيكية ذلك أنه كان يرى أن الدكتور حنفي بن عيسى كان ينتمي إلى جيل المترجمين الجزائريين ”الكلاسيكيين” أو ”القدامى”. كان مفكرنا الكبير يفضل أن يترجم كتابه مرزاق بقطاش كون هذا الأخير مترجما حداثيا.
من هنا، من مسألة ”القديم والجديد” أو إن شئتم ”التراثي والحداثي”، انطلق حديثنا، ليعرج على الفكر المعاصر في الوطن العربي عامة وفي الجزائر خاصة. كان مصطفى الأشرف وقتها سفيرا للجزائر في ليما، عاصمة البيرو، وكان يشرف على عدة سفارات جزائرية في أمريكا اللاتينية، بحكم منصبه وتميز كتاباته الفكرية، ربط علاقات حميمية مع مفكري اليسار الثوري وأقطابه السياسيين في أمريكا اللاتينية إلى درجة أن الحكمين العسكريين في البرازيل والأرجنتين منعا في السبعينيات توزيع أو حتى قراءة كتابه ”الجزائر، الأمة والمجتمع” في نسخته الإسبانية أو الفرنسية كانت أمريكا اللاتينية تعيش وقتها على وقع الحروب الأهلية والانتفاضات المسلحة.
في سنة 1980، حضر مصطفى الأشرف أكبر مؤتمر سري لزعماء معظم الحركات المسلحة المناهضة للأنظمة الاستبدادية في أمريكا اللاتينية.
كنت أريد أن أعرف مدى تأثير تلك الحركات في الأوساط الشعبية وكذا اتجاهاتها الفكرية والسياسية. ذلك أن المعلومات التي كانت تصلنا وقتها ضئيلة ومشوشة في أغلب الأحيان، لم تكن القنوات التلفزيونية الفضائية قد خلقت ولم تكن الأنترنات قد أبدعت، تم إن الثقافتين الإسبانية والبرتغالية اللتين تنضوي تحتهما بلدان أمريكا اللاتينية لم نكن نعرفها سوى عن طريق الصحف الفرنسية والكتب المترجمة إلى العربية أو الفرنسية والتي لم يكن يصلنا منها سوى النزر القليل.
كان الأستاذ مصطفى الأشرف يرى أن الحركات التمردية في بلدان أمريكا اللاتينية ستصنع إن عاجلا أو آجلا مستقبل تلك البلدان ذلك أنها حركات وطنية تطالب أساسا باسترجاع الثروات الوطنية من المستغلين الأمبرياليين كما تطالب برحيل الدكتاتوريين والعساكر عن الحكم وتأسيس دول ديمقراطية عصرية تتوفر فيها الحريات الفردية والجماعية، مرورا بالتعددية الحزبية.
حكم مصطفى الأشرف كان مبنيا على إعجابه بأغلب زعماء تلك الحركات، كانوا مثقفين من الدرجة الأولى، بل إن بعضهم كانوا دكاترة جامعيين أو أساتذة يتميزون بقدرة كبيرة في التحليل السياسي وفي استشراف المستقبل، ناهيك عن شجاعتهم واستماتتهم من أجل بناء الدول المستقبلية الخالية من الظلم والاستغلال.
صداقة مصطفى الأشراف الحميمية أحيانا مع بعضهم كانت ناتجة عن اتجاهه الفكري الذي لخصه في كتابه الهام ”الجزائر الأمة والمجتمع” كما كانت تقديرا لمبادئ ثورة نوفمبر 1954 التي ناضل مفكرنا الكبير من أجل تجسيدها في الواقع منذ نهاية أربعينيات القرن العشرين فقد ظلت الثورة الجزائرية حسب مصطفى الأشرف تلقي ببعض ظلالها على الكثير من الحركات التحررية أو المناهضة للأنظمة الاستبدادية في العالم.
خلال حديثنا الذي دام قرابة الساعتين، فاجأني المرحوم مصطفى الأشرف بقوله: ”إن الحركات الشعبية والكثير من شعوب أمريكا اللاتينية تتجاوز الشعوب العربية وحركاتها التحررية أو النهضوية بقرنين إثنين من التقدم الثقافي والفكري !”. كان هذا في سنة 1983.
ودّعت الأستاذ مصطفى الأشرف وأنا قلق حائر، كان بيته الكولونيالي جميلا وواسعا لكنه لم يكن يشغل منه سوى غرفة لا تتجاوز مساحتها ال 16 أو ال 18 مترا مربعا كان قد جعلها مكتبه المليء بالكتب والأوراق، إلى درجة يصعب عليك أن تتحرك دون إزاحة مجموعة الكتب أو رزمة من الأوراق المحبّرة. لازلت أعتقد أن مقارنة أوضاعنا السياسية في الوطن العربي بمثيلتها في أمريكا اللاتينية أقرب إلى الواقع والعقل من المقارنات الأخرى التي تذهب أحيانا إلى مقارنات هي ضرب من الوهم كمقارنة أوضاعنا ببعض ما عاشته أوروبا أو أمريكا مثلا.
كانت معظم الحركات الثورية أو التمردية في أمريكا اللاتينية حركات يسارية، مطالبها الوطنية غالبا ما تتلاقى مع مطالب الحركات الوطنية في الوطن العربي عموما وفي الجزائر خصوصا، كمثال على هذا تذكر حركة الصندنيين” Les Sandinistes في نيكاراغوا أو مثيلتها ”التوبّا ماروس” les Tupamaros في الأورغواي كلتاهما قريبة جدا في الكفاح والفكر من الثورة الجزائرية، كانت ثورة نوفمبر 1954 قد انتصرت في الجزائر سنة 1962 فاتخذ حكام الجزائر المستقلة النظام الاشتراكي كمنهج سياسي واقتصادي في تسيير شؤون البلاد، نفس المنهج سار عليه دانيال أورتيغا Daniel Ortéga زعيم حركة الصندنيين حين انتخب رئيسا لنيكاراغوا سنة 1984، كان قد اتخذ رفقة المناضلين في الحركة الوطنية الصندينية شخصية أوغيسطوسيزار ساندينو Augusto César Sandino رمزا لتأسيس أول دولة وطنية أو أول دولة أمة في نيكاراغوا الحديثة.
لماذا؟ لأن ساندينو هو أبو الحركة الوطنية النيكاراغوية في العصور الحديثة، ذلك أنه حارب الاستعمار الأمريكي لبلاده (1907 1937) من سنة 1924 حتى سنة 1934حيث كادت له الولايات المتحدثة الأمريكية فاغتالته على أيدي بعض الخونة في هذه السنة المذكورة.
حسب المرحوم مصطفى الأشرف صديق دانيال أورتيغا، فإن هذا الأخير مثقف من الطراز العالي ويعرف تمام المعرفة الثورة الجزائرية وزعماءها.
كان حكام الجزائر ولا يزالون يعتبرون الأمير عبد القادر رمزا للحركة الوطنية ومؤسسا للدولة الأمة في تاريخ الجزائر الحديثة كونه حارب الاستعمار الفرنسي (1832 1847) وتحدث عن وجود أمة جزائرية قبل 1830 كما حاول وضع الأسس الأولى للدولة التي بإمكانها أن تصمد أمام الغزاة الفرنسيين.
يتبع
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)