الشعوب العربية عظيمة لكن حكّامها أقزام ذهنيا لا أعتقد أن فتح قطاع السمعي ـ البصري في صالح الجو العام طرقنا باب بيته الواقع بأعالي العاصمة، وكلنا فضول لمعرفة المزيد عن شخصية ومسار الرجل المبدع والوزير الأسبق لمين بشيشي، الذي استقبلنا بابتسامة عريضة لم تبرح محيّاه طيلة الساعات الثـلاث التي قضيناها وإيّاه، استوقفنا خلالها عند أبرز المحطات التي مرّ بها، مفضّلا أن تكون أيام طفولته الأولى عنوانا لفاتحة اللقاء.
استجمع مضيفنا قواه بعد أن جلس على أريكة مريحة بمضافته الهادئة، كمن يجلس على كرسي الاعتراف، لا حيلة له سوى البوح بالحقيقة دون مواربة. حدّق فينا مليّا بوجهه البشوش. صمت برهة، ثـم قال: تفضلي يا بنيّتي، كلي آذان صاغية .
حينها، فضّلنا أن تكون البداية من مسقط رأسه سدراتة بولاية سوق أهراس، التي وُلد بها في 19 ديسمبر 1927 وزاول فيها تعليمه الابتدائي، قبل أن ينزح إلى تبسة لمتابعة تعليمه المتوسطي، ثـم جامع الزيتونة بتونس سنة .1942 فأفصح: عشت في صغري بأسلوبين متناقضين، أسلوب والدتي الصارم إلى حدّ القسوة، في كل تصرف مني تعتبره مشينا أو عبثـيا، وأسلوب والدي الذي كان يتوخى طريقة النصح والتنبيه، واختيار نماذج السلوك القويم في حياة الأنبياء والمرسلين، والصحابة والحواريين .
وتابع موضحا: والدي الشيخ بلقاسم بن الشريف اللجاني ـ رحمه الله ـ هو صاحب الفضل في تربيتي وتكويني وتوجيهي، وكذا بلورة شخصيتي، ثـقافيا ووطنيا واجتماعيا .
تفرّغي للموسيقى وراء طردي من الزيتونة
وبينما نحن منغمسون في الاستماع إلى مضيفنا، فإذا بأحد أحفاده يستأذن مقاطعتنا، وبيده صينية مزيّنة بحلويات شهية ومرطبات منعشة، يتوسطها إبريق من الشاي وآخر من القهوة، أضفت على أمسيتنا الربيعية أجواء عائلية، تخلّلها حديث عن ميادين التربية والتعليم، والإعلام والثـقافة، وكذا الفن والسياسة، كيف لا وهي الميادين التي رسمت ملامح الأستاذ لمين بشيشي، الذي دعانا إلى ارتشاف الشاي وتناول الحلوى، وهو يستحضر بامتنان سيّدة جزائرية فجّرت موهبته الفنية بالمدرسة الكولونيالية، اسمها مريم داودي. معقّبا: كانت مدام داودي ـ عليها الرحمة والرضوان ـ بارعة في العزف على آلة البيانو، يُريحها وجود جمهور يصغي لأدائها، فكانت تدعونا إلى بيتها لتعزف لنا بعض المقاطع الكلاسيكية. وعوض أن تنتظر منا التصفيق على الأقل، كانت تُكرمنا بحليب ومرطبات وأحيانا شكولاطة .
وعن ميولاته الفنية التي تجلّت منذ أيام طفولته الأولى، أكد مضيفنا أن انخراطه في صفوف المعهد الرشيدي بتونس أنساه دراسته بجامع الزيتونة، ممّا أسفر عن طرده منه بعد ثـلاثـة أشهر عن التحاقه به. فقال: لحسن حظي أن والدي توسّط لدى شيخ الزيتونة الذي سمح لي بالعودة مجدّدا إلى مقاعد الدراسة، حتى تخرّجي منه سنة 1951 بشهادة مكّنتني من الانتساب إلى سلك التعليم، قبل أن أتولّى إدارة مدرسة الحياة بسدراتة من 1951 إلى .1956 وفي سنة 1954 توفي والدي، فأجبرت على إعالة والدتي وإخوتي .
وأضاف متأسفا: سبق لي أن جسست نبض والديّ بشأن ميولاتي الفنية، فكان الرفض القاطع من والدتي التي كانت تثـور لمآل ابن الشيخ الذي سيصير مدّاحا. أما والدي، فقد عارض الفكرة، بحجة أن مُمتهن الفن في مجتمعنا شخص هامشي، جدير بالتصغير والتحقير . وأردف يقول: هكذا تبخّرت أحلامي في مجال الفن، فوجدت نفسي إماما واعظا، بعد وفاة والدي أسابيع قليلة قبيل اندلاع الثـورة .
يحزّ في نفسي لما أتذكر ابني يناديني عمي
سكت مضيفنا هنيهة ريثـما يستحضر محطات أخرى من حياته، فبدا كالتائه وسط زحمة المهام الإدارية والحقائب الوزارية التي أسندت إليه. وبين مدّ وجزر كان يتراءى لنا من نظراته البريئة ونبرات صوته المتهدجة، أعادنا بشيشي إلى خمسينيات القرن الماضي، وتحديدا إلى خريف 1956، حين ساهم في تأسيس جريدة المقاومة الجزائرية التي كان سكرتير تحريرها، وهو المنصب نفسه الذي تقلّده سنة 1957 بجريدة المجاهد الصادرة باللغة العربية، قبل أن يُساهم بمعية الراحل عيسى مسعودي في تقديم برنامج صوت الجزائر بالإذاعة التونسية، والذي حُوّل إلى صوت الجمهورية الجزائرية إبّان تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة.
كان الحديث معه شيّقا للغاية، الأمر الذي عزّز فضولنا لمعرفة حال مضيفنا غداة الاستقلال. توقف فجأة ليرتشف نزرا من شايه، ثـم استرسل: بعد أن عيّنني وزير الخارجية الأسبق سعد دحلب، على رأس مكتب الجزائر ببنغازي في ليبيا في ماي 1962، عدت أدراجي إلى أرض الوطن في صيف نفس السنة، وبدأت في اتحادية ومحافظة عنابة كعضو بخلية الإعلام، وكان على رأس الاتحادية آنذاك عبد السلام حباشي، الذي خلفته باقتراح من مسؤول جهاز الحزب الحاج بن علا .
وما بقي راسخا في ذهني من تلك اللحظة، يردف بشيشي: هو عودتي باكرا إلى منزلي بعنابة صباح ذات يوم، فتح لي أحد أبنائي الباب، وما إن رآني حتى صاح صباح الخير عمي الأمين . وقتها، شعرت بلطمة تدينني دون قصد بتقصيري في حق أولادي وعائلتي .
وفي خريف 1964 يواصل مضيفنا: طلب مني الرئيس الأسبق أحمد بن بلة تولّي رئاسة المؤسسة الإنشائية، التي تتكفل بتشييد فندق لاحتضان مؤتمر حركة عدم الانحياز سنة . 1965 مفصحا: رغم أنني لم أكن مهندسا معماريا، قبلت المهمة واقترحت على بن بلة 40 اسما للفندق، فاختار من بينها الأوراسي . بيد أنه عندما شارفنا على إنهائه، طلب منا توقيف الأشغال والتوجه صوب نادي الصنوبر للحفر هناك، وهو ما تمّ بالفعل .
جسست نبض والديّ بشأن ميولاتي الفنية، فكان الرفض القاطع من والدتي التي كانت تثـور لمآل ابن الشيخ الذي سيصير مدّاحا. أما والدي، فقد عارض الفكرة، بحجة أن مُمتهن الفن في مجتمعنا شخص هامشي، جدير بالتصغير والتحقير.
الخرطوم أهانتني وميدان الاتصال طعنني
بخطوات متثـاقلة ثـقل حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه وقتها، نهض مضيفنا لفتح باب شقته المتواضعة، فإذا بنجلته وفاء ترتمي بين أحضانه وتسأله عن صحته، ليجيبها أنه بخير وعلى أحسن ما يرام. غادرت وفاء المضافة بعد أن تجاذبنا بعض أطراف الحديث.
بعد دقائق قليلة، استأنفنا حديثـنا المنوط بالمناصب التي تقلّدها مضيفنا الذي نوّه بعودته إلى مهنته الأولى التعليم، وحبيبه الأول الفن. موضحا: وبمبادرة من عبد الله شريّط، أمين عام وزارة التربية الوطنية آنذاك، التحقت بالوزارة مكلفا بالنشاط الثـقافي المدرسي . وتابع يقول: عُيّنت نائب مدير وزارة الأخبار مكلفا بالموسيقى والمسرح والفنون الشعبية، بعدها مدير الإنتاج بالإذاعة والتلفزيون (1970 ـ 1975)، ثـم مدير المعهد الوطني للموسيقى (1978 ـ 1982)، فأمينا عاما لوزارة الثـقافة من 1982 إلى . 1985 مستطردا: عُيّنت أيضا قائما بالأعمال في القاهرة (1986 ـ 1988)، ثـم سفيرا للجزائر بالخرطوم (1989 ـ 1990)، فمديرا عاما للإذاعة الوطنية (1991 ـ 1994)، وكذا وزيرا للاتصال (1994 ـ 1995)، علما أنني أحد مؤسسي المجمّع العربي للموسيقى، الذي أشغل فيه حاليا منصب النائب الأول للرئيس .
وعلى ذكر جلّ هذه المهام، استوقفنا المتحدث عند بعض المواقف التي لا تزال تحزّ في نفسه. قائلا: عندما أتذكر الإهانة التي تلقيتها وأنا سفير الجزائر بالخرطوم سنة 1989 يقشعرّ بدني لإهانة بلدي، فقد خصصت الجزائر حينئذ عشر منح لطلبة سودانيين، إلاّ أنني تفاجأت برفض استقدامهم إلى الجزائر بذريعة تدنّي مستوى التعليم بها، وهي إهانة جعلتني أستقلّ أول طائرة تجاه الجزائر وبقلبي جرح لم يندمل بعد .
أضف إلى ذلك، يردف بشيشي: فإن الاتصال هو ألعن منصب تقلّدته في حياتي، لقد طعنني لمّا استيقظت صباح ذات يوم من سنة 1994 على خبر نقلته قناة فرانس , 2 بعد أن كنت أنتظر الضوء الأخضر لنقله عبر التلفزيون الجزائري .
تلمسان جديرة باحتضان عاصمة الثـقافة الإسلامية
حاولنا التعاطي مع الأستاذ بشيشي في بعض القضايا الراهنة، فكانت الانطلاقة من تظاهرة تلمسان عاصمة الثـقافة الإسلامية 2011، حيث أبرز أن تلمسان جديرة باحتضان هذا العرس الثـقافي، كما ثـمّن البحبوحة المالية والقفزة النوعية اللتين عرفهما قطاع الثـقافة مؤخرا.
وعمّا يتداوله البعض بشأن الميزانية الضخمة التي تضخّ لقطاع الثـقافة، قال بشيشي: من يتّهم وزيرة الثـقافة خليدة تومي بتبديد المال العام، فليأتِ بالبرهان . كاشفا أن مؤسسة مفدي زكريا التي يرأسها حاليا بالنيابة، ستشارك في التظاهرة بندوة الجانب الروحي والديني في أشعار مفدي زكريا ، إضافة إلى عرض فيلم وثـائقي حوله.
وعن موقفه إزاء فتح قطاع السمعي ـ البصري، أبان بشيشي أنه ثـمة أطراف ترمي إلى التشهير بنفسها عبر هذا المطلب. موضحا: لقد تاه الجزائريون وسط الكمّ الهائل من القنوات الفضائية التي أدّت إلى تضليل الرأي العام. لذا، لا أعتقد أن فتح قطاع السمعي ـ البصري في صالح الجو العام .
أستبعد انتفاضة الشعب الجزائري وإسرائيل وراء غليان الشارع العربي
وبشأن التحولات الكبرى التي هزّت الشارع العربي، على غرار ما حدث في تونس، وما جرى في مصر، وما يحصل حاليا في ليبيا وسوريا واليمن والبحرين والأردن وغيرها، أرجع مضيفنا أسباب انتفاضة الشعوب العربية في وجه حكّامها إلى الأوضاع المزرية التي تتخبّط فيها، معلّلا: هناك وضع لا يطاق، فتونس كانت على صفيح من نار، ومصر كانت تقودها عصابة أشرار، وأما ما يكابده الشعب الليبي، فمردّه سياسة القذافي التي تحتكم إلى سقف دون أعمدة . مستطردا: الشعوب العربية عظيمة، لكن حكّامها أقزام ذهنيا . وتابع يقول: إسرائيل وراء غليان الشارع العربي، بدليل أنها بكت الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، وندّدت على نظيره المصري حسني مبارك، ولم تقل شيئا عن الزعيم الليبي معمّر القذافي .
وعن الاحتجاجات التي طالت الشارع الجزائري، قال بشيشي: من حق الجزائريين المطالبة بحقوقهم والتعبير عن انشغالاتهم، غير أنني أستبعد انتفاضة الشعب الجزائري. فمهما يكن، أوضاعنا أقل سوءا ممّا هو عليه غيرنا .
استقالة الشيخ سعدان خسارة كبيرة لـ الخضر
في ختام حديثـه، شدّد الأستاذ لمين بشيشي على ضرورة مطالبة فرنسا بالتعويض المادي، لا الاعتذار الشفهي فحسب، كما دعا الشباب الجزائري إلى التشبّث باللغة العربية، درءا للغط الذي قد يفقدهم لسانهم. كاشفا عن مشروع إعادة بعث برنامج الحديقة الساحرة عبر الشاشة الصغيرة ، دون أن يغفل إبداء رغبته الجامحة في فوز منتخبنا الوطني لكرة القدم أمام نظيره المغربي، خلال المباراة الحاسمة التي ستجمعهما اليوم فوق المستطيل الأخضر لمدينة مراكش المغربية. قائلا: أترقّب بشغف مشاهدة المباراة، لاسيما أنني أتوقّع فوز الخضر ، لأنهم عوّدونا أن يكونوا أسودا خارج الديار، علما أنني أتأسف كثـيرا لاستقالة الشيخ رابح سعدان، الذي يعدّ خسارة كبيرة لـ الخضر خصوصا، والكرة المستديرة الجزائرية عموما . وعلى أمل تأهّل أشبال الشيخ سعدان لتصفيات كأس إفريقيا للأمم 2012، ودّعنا الوزير الأسبق لمين بشيشي، راجين المولى جلّ وعلا أن يمدّه بالصحة الوافرة، وأن يحفظه لعقيلته وأبنائه وأحفاده.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 04/06/2011
مضاف من طرف : sofiane
صاحب المقال : الجزائر: زارته كهينة شلي
المصدر : www.elkhabar.com