الجزائر

''الخبر'' في ضيافة أرملة الفنان الرّاحل عبدالمالك إمنصورن ''ترك لي بيتا بلا نوافذ.. ولولا راتبي الشهري لمتنا جوعا''



تعفّن قطاع الثقافة وراء السكتة القلبية التي أودت بحياته بابتسامة عريضة يكتنفها الكثير من الحزن والأسى، فتحت لنا مليكة بن زلماط، أرملة الفنان الرّاحل عبدالمالك إمنصورن، أول أمس، باب بيتها الكائن بالمدنية في الجزائر العاصمة، حيث اقتطعنا زهاء ساعتين من وقتها، توقّفنا خلالها عند أهمّ المراحل الحياتية، وأبرز المحطات الفنية التي مرّ بها، وسط زخم من الذكريات الأليمة التي طبعت حياة ومسار الرّاحل.  التاريخ: 20 أوت 2011.. الزمان: العاشرة مساءً.. المكان: المسرح الوطني الجزائري محي الدين بشطارزي.. إنه موعد الوقفة التكريمية التي خصّ بها عبدالقادر بن دعماش، محافظ المهرجان الوطني لأغنية الشعبي، في طبعته السادسة، الفنان الرّاحل عبدالمالك إمنصورن، الذي فقدته الساحة الفنية الجزائرية في 7 فيفري 2010، إثر سكتة قلبية مفاجئة، تاركا وراءه رصيدا فنيا ثريّا، يضمّ 45 أغنية من كلماته وألحانه، إضافة إلى العديد من الحفلات والجولات الفنية التي كان يُحييها ما بين الفينة والأخرى.
تقول أرملة الفنان بالمناسبة: سعيدة جدّا بهذا التكريم الذي تزامن مع الشهر الفضيل، كما أشكر السيد عبدالقادر بن دعماش على هذه الالتفاتة الطيّبة، التي من شأنها الرّفع من معنوياتي ومعنويات أبنائي، بعد الظروف العصيبة التي أثقلت كاهلنا في الآونة الأخيرة .
حفل الأطلس طرده من سونلغاز
ولأن كل زاوية من زوايا بيتها لاتزال تستحضر طيفه في مُخيّلتها، كانت مضيفتنا تتحدّث إلينا والألم ينخر كيانها لفراق حبيبها وزوجها ووالد أبنائها، الفنان الرّاحل عبدالمالك إمنصورن، الذي تقول عن رحيله: كم أشتاق إليه. لقد كنا نعشق بعضنا بجنون. أشعر اليوم بفراغ قاتل يمزّقني، ولكن ما باليد حيلة سوى الرضى بقضاء الله وقدره .
صمتت مليكة هنيهة ريثما تستعيد أنفاسها، بعد أن تنهّدت بحرقة صاهدة التمسناها من نبرات صوتها المتقطعة، وما إن تمكّنت من كبح دموعها الجارفة، ولملمة أفكارها المتناثرة، أعادتنا إلى نقطة البداية، وتحديدا إلى 20 أكتوبر 1955، تاريخ ميلاد عبدالمالك إمنصورن، الذي وُلد وترعرع بالمدنية (سالومبيي) في الجزائر العاصمة، تُوفّي والده وهو في سنّ الثالثة، فلعبت والدته (84 سنة حاليا) دور الأم والأب معا، حيث وجدت نفسها مُرغمة على العمل لكسب لقمة عيشها، وسدّ رمق أبنائها. مُوضحة: رغم الأوضاع المزرية التي كابدها عبدالمالك، رحمه الله، منذ الصغر، إلاّ أن حرصه على إتمام دراسته، أهّله لقطع تأشيرة البكالوريا، وتقلّد منصب رئيس مصلحة المحاسبة بالشركة الوطنية للكهرباء والغاز سونلغاز ، التي تفاجأ ذات يوم من سنة 1982 بطرده منها، جرّاء حفل فني أحياه بقاعة الأطلس في الجزائر العاصمة . وتابعت مُتأسفة: هذه الحادثة ظلّت تحزّ في نفسه إلى آخر نفس من حياته، فبعد أن خسر وظيفته بذريعة إهمال منصبه، ندم على اليوم الذي اقتحم فيه عالم الفن .
وزارة الصحة جمعتنا وعلاقته مع أبنائه استثنائية
وعن خلفيات لقائها مع الفنان الرّاحل عبدالمالك إمنصورن، اعترفت مليكة بن زلماط (من مواليد 16 مارس 1957، ببلكور في الجزائر العاصمة)، أن علاقتهما التي تعود إلى سنة 1974، تمخّضت عن قصة حبّ جمعتهما حين كانا زميلين بوزارة الصحة، فأنا كنت سكرتيرة، بينما هو كان مُحرّر تقارير طبية . مُستطردة: بعد فترة التعارف قرّرنا الارتباط رسميا، ولمّا حان موعد عقد القران اشترط عليّ عبدالمالك أن يُصادف حفل زفافنا عيد ميلاده، فكان له ذلك، حيث إننا تزوّجنا في 20 أكتوبر 1978، ورُزقنا بعدها بكل من سهام، مصطفى، نصر الدين، عبدالفاتح وجهيدة . وأردفت تقول: لم تكن علاقة الرّاحل مع أبنائه عادية، كانت استثنائية للغاية، أتذكّر أنه أقلع عن التدخين لمجرّد إصابة جهيدة بالحساسية، كما أنه كان يرى نصر الدين وعبد الفاتح بعين الصديق، ما جعله يُعوّل عليهما كثيرا خلال حفلاته وجولاته الفنية . وأضافت: موازاة مع تفنّنهما في مداعبة نوطات آلة السّانتي ، كان عبدالمالك، رحمه الله، ينصحهما بمواصلة مشوارهما الموسيقي بعيدا عن الغناء، لاسيما بعد أن تجرّع كؤوس المرّ من بعض المنتجين الانتهازيين، الذين جنوا أموالا طائلة على حساب أغانيه .
الشيخ عبد الرزاق بوفطاية كان مثله الأعلى
بحسرة لا تُضاهيها حسرة، شرعت مضيفتنا في إعادة بعث بعض الطقوس التي كان  الرّاحل يُمارسها لحظة استسلامه للإلهام. قائلة: كان عبدالمالك يُحبّذ الجلوس على أريكة مُريحة بالمضافة، حيث يجد راحته التامة لحياكة كلمات وألحان قصائده التي لم يحفظها يوما، خلافا لحفيدتنا سارة (4 سنوات) التي تحفظ كافة أغانيه عن ظهر قلب .
وأشارت مليكة إلى أن عبدالمالك إمنصورن، الذي ولج عالم الفن سنة 1978، والذي شارك في برنامج ألحان وشباب سنة 1980، كان مُتأثرا بشيخه الرّاحل عبدالرزاق بوفطاية، الذي أحيى حفل زفافهما، ناهيك عن حبّه الكبير للفنانين بوجمعة العنقيس والهاشمي فروابي، وكذا إعجابه الشديد بالممثلين الفكاهيين لخضر بوخرص وحميد عاشوري. مُبرزة أنه علاوة على تعلّقه بالطبوع الغنائية الأصيلة، كـ الشعبي ، القبائلي ، المالوف ، المديح ، الحوزي وغيرها، كان مُتيّما أيضا بالأغنية الهندية التي أدّاها في أولى بداياته الفنية، وذلك في الوقت الذي لم يستسغ يوما الأغاني الشبابية، وفي مقدّمتها الرّاي .
مات ناقما على السياسة العرجاء لوزارة الثقافة
33 سنة من العشرة الزوجية، كانت كافية بالنسبة إلى مضيفتنا لمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن الرّاحل، الذي عانى الأمرّين طيلة حياته، فقد تربّى يتيم الأب، وعاش محروما من منصب شغل دائم، كما أنه مات نادما على خوضه غمار الفن، وناقما على السياسة العرجاء التي تنتهجها وزارة الثقافة، التي لم تُكلّف نفسها حتى عناء الردّ على طلب مقابلتها . مُعلّلة: ما السكتة القلبية التي أودت به سوى وليدة تعفّن قطاع الثقافة في بلادنا، فقد توالت عليه الصدمات وخيبات الأمل، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة تحت الضغط . ونوّهت تقول: قبل وفاته، دعته إحدى الجمعيات الثقافية الناشطة بمدينة مرسيليا الفرنسية، لإحياء جولة فنية هناك في 6 مارس 2010، بيد أن حظّه العاثر أدار له ظهره مرة أخرى، فرحل دون تحقيق مُراده .
تعلّمنا صناعة الدّمى فخطّطنا لإنجاز مشروع أجهضه البنك
كشفت ابنة بلكور أن ابن سالومبيي لم يدقّ يوما باب أحد لطلب المساعدة رغم حاجته الماسة، فقد كان شعاره في الحياة: ما عنديش وعند ربّي ما يخصنيش . مُردفة: بعد طرده من سونلغاز ، أُحيل عبدالمالك على البطالة، وهو ما جعل عائداته من الحفلات والجولات الفنية، مصدر رزقنا الوحيد، إلى أن عُيّن سنة 1991، حارسا بمؤسسة تعليمية بالمدنية، لكنه سرعان ما استقال من هذه الوظيفة التي كانت تُشعره بالإهانة .
وفي سياق ذي صلة، أسرّت لنا مضيفتنا أن دوّامة البطالة التي كان الرّاحل غارقا فيها، أجبرتها سنة 1996 على الالتحاق مُجدّدا بعالم الشغل، ولكن هذه المرة بالمركز الثقافي ذبّيح شريف بالمدنية، حيث تُقدّم حاليا دروسا في طرز الألبسة التقليدية وصناعة الدّمى، وهي الحرفة التي تعلّمها الرّاحل واستوعب أسرارها، فقد كان يساعدني في تلبية عدّة طلبيات، حتى أننا خطّطنا لإنجاز مشروع استثماري، لكنه لم يرَ النور بسبب رفض البنك منح قرض لنا .
كان يُؤثر على نفسه ولو به خصاصة
استرسلت مليكة في الحديث، كمن يتوق إلى تفريغ شحنات زائدة من متاعب الحياة ومشاقها، كيف لا وهي التي تُغطّي في الوقت الحاضر مختلف حاجيات وشتى مستلزمات أبنائها، في ظلّ غياب قانون يحفظ للفنان كرامته. قائلة: الحمد لله أن عبدالمالك، رحمه الله، ترك لي بيتا يقيني من حرّ الصيف وقرّ الشتاء، فقد باع سيارته يوم كان سائق أجرة، من أجل شراء هذه الغرف الثلاث التي تفتقر حتى إلى نوافذ . وتابعت: رغم الظروف المادية الحرجة التي كنا نتخبّط فيها، إلاّ أنه كان إنسانا خيّرا، فقبل وفاته بأسبوعين تقريبا أوصاني بتزويد جارنا بالماء مجّانا. أضف إلى ذلك، أننا كنا نُسدّد ديوننا بعائدات الحفلات والجولات الفنية، التي كان يُنشّطها من حين لآخر . مُؤكّدة بحسرة: لولا راتبي الشهري لتضوّرنا جوعا، فالفن في بلادنا لا يُغني ولا يُسمن من جوع . 
زيادة الوزن حرمته من نشوة التراويح
وخارج سرب الفن، حاولنا التطفّل على كواليس اليوميات الرمضانية للرّاحل، فعلّقت عليها مليكة بالقول: يا حسراه على رمضان زمان، كان عبدالمالك لا يأكل إلاّ من طهي يدي، فقد كنت أُعدّ له الشوربة ، طاجين الزيتون ، الفلفل ، البوراك ، المطلوع ، الكسرة .. وما إلى ذلك من الأطباق التي كان يُفضّل تناولها خلال الشهر الفضيل . مُواصلة: كان مُدمنا على اقتناء قلب اللوز من مخبزة سرير الشهيرة بالمدنية، بينما كان يستغني عن الزلابية ، ويكتفي بتناول الحلويات التقليدية، مثل مقروط العسل ، البقلاوة ، الصامصة ، بنيون وغيرها .
من جهة أخرى، أفادت مضيفتنا أن الرّاحل لم يكن يُغادر فراشه إلاّ في حدود الحادية عشرة صباحا، يتردّد على سوق الحومة ، يُخصّص قسطا من الوقت لمشاهدة برامج اليتيمة ، وآخر لتلاوة ما تيسّر له من الذكر الحكيم، إلى جانب مواظبته على قيام الليل والإكثار من الدّعاء، لتعويض ما يُفوته في صلاة التراويح، التي كان يعجز عن أدائها بسبب وزنه الزائد (توفّي وهو يزن 135 كلغ).
وبعد دردشة طويلة عريضة لا تتّسع مساحة الصفحة لتفاصيلها، ودّعنا مضيفتنا وبيدها ألبوم صور الرّاحل، وكلّها  ثقة وعزم على تنفيذ وصيته القاضية بجمع كافة أعماله الفنية، وطرحها في شكل صندوق غنائي، حتى يتسنّى لمتذوّقي أغنية الشعبي الاستمتاع بروائعه الخالدة.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)