الجزائر

الخبر تزور المجاهد والسياسي أحمد مهساس الفرنسيون متشبعون بالفكر الاستعماري ويعتقدون أنهم أصحاب مهمة حضارية



الخبر تزور المجاهد والسياسي أحمد مهساس                    الفرنسيون متشبعون بالفكر الاستعماري ويعتقدون أنهم أصحاب مهمة حضارية
انحطاط ثقافة المجتمع سبب التعبير عن المطالب عبر العنف وقطع الطرق بومدين كان يريد فرض الحلول بشكل إجباري على الفلاحين مازال أحمد مهساس يحمل في ثناياه عنفوان الشباب والرجل الثوري. لم تثنيه سنواته السبع والثمانون على النهوض باكرا. استقبلنا، على الساعة الثامنة والنصف صباحا. قابلنا والبسمة تعلو محياه، بمجرد أن فتح لنا باب بيته الواقع في قلب الجزائر العاصمة. أخبرته بأنه يبدو وافر الصحة،  بعد أن لامست ذلك من خلال تقاسيم وجهه المنشرح. ابتسم، وشكر الله، ثم قال إن صحته تحسنت كثيرا، بعد الوعكة الصحية التي أصابته منذ أسبوعين. قلت له، ونحن نهم بدخول غرفة المكتب ''أنت تنتمي إلى جيل قوي ذهنيا، جيل حارب فرنسا''. ابتسم مجددا، فجلسنا على أريكة مريحة، قرب النافذة، وقد بدأت أشعة الشمس الصباحية تتسرب للغرفة. كنت أتصور، وأنا ذاهب عند السيناتور أحمد مهساس من أجل زيارة خاصة، أن الحديث مع وجه تاريخي مثله، باعتباره أحد مهندسي حرب التحرير، سوف ينحصر في قضايا التاريخ. فالرجل ارتبط اسمه بالثورة بشكل وثيق. يذكره الصحفي الفرنسي ايف كوريير، في الصفحات الأولى من كتاب ''تاريخ حرب الجزائر''، ويتوقف مطولا عند سعيه الحثيث رفقة محمد بوضياف وديدوش مراد للتعجيل بقيام الثورة عبر إيجاد قوة ثالثة ترفض منطق التناحر السياسي، عندما التقوا بمقهى ''الأوديون'' في باريس خلال شهر مارس 1954  لكن كتب التاريخ المدرسي لا تذكر هذا الدور.رغم أن كوريير يذكر دور مهساس، ويعترف به كأحد مهندسي الثورة، إلا أن هذا الأخير يقول ''كنت ألتقي به حينما شرع في تأليف كتابه، لكنني سرعان ما أدركت أنه صاحب توجه مشكوك فيه، فقررت تجنب لقائه''.يعتبر مهساس أحد مهندسي الثورة، وسوف يخبرنا لاحقا بأن معارضته السياسية لنظام بومدين كلفته ثمنا غاليا، وهي التي أدت إلى تهميشه وعدم التعرض لمساهماته النضالية والثورية. هذا الدور التاريخي الحافل بالإنجازات، جعلني أعتقد بأن الحديث مع مهساس لن يخرج من نطاق الثورة والتاريخ، وإذا به يأخذنا منحا آنيا. لكن التاريخ سوف يرافقنا طوال الحديث من خلال المزج الذي لمسته عند الرجل بين العنفوان الثوري لسنوات الشباب وبين الرفض المطلق لتجاوزات العولمة، وكأني به يرفض نظاما استعماريا آنيا.أحمد مهساس رجل لا يقبل الأنظمة المفروضة بالقوة، كأنه ابن حظيرة ديمقراطية. قضى طفولته وشبابه في ظل نظام استعماري، وهو يعرف معنى أن يكون الإنسان خاضعا للسيطرة، لذلك يريد لنفسه ولغيره التمتع بفضائل العيش في فضاء حر.العولمة.. تلك الأكذوبةوبدا لي الرجل، وقد تشعب الحديث معه، أنه يفضل ترك هامش الحرية لما يتعلق الأمر بالفعل. وبكثير من الوعي والنقد تحدث عن قضية العولمة، واعتبرها بمثابة فخ نصب للشعوب التي تخلصت من الاستعمار بعد تضحيات كبيرة، لكي تقع مجددا في شباك استعمار من نوع جديد. ويعتقد مهساس بأنه لا مجال للإيمان بشيء اسمه العولمة. وبكثير من الثقة في النفس، قال ''كذب من قال إن العولمة تخلصنا من الظلم''. ثم أضاف بمنطق السياسي المحنك الذي صقلته تجربة النضال الوطني ضد المستعمر، وبعد أن اعتدل في مجلسه ''ما نعيشه اليوم على مستوى العلاقات الدولية، عبارة عن سيطرة، ولا علاقة له بالعولمة. سيطرة دولة عظمى هي الولايات المتحدة الأمريكية على شعوب أخرى ضعيفة''. ويعتقد مهساس بأن الجزائر دخلت بالبداية في مسار العولمة بشكل مندفع، لكنها سرعان ما تراجعت عن ذلك الاندفاع، فأصبحت تفكر وفق منطق نقدي ووطني، فأبدى بعض الارتياح بخصوص هذه المسألة التي يبدو أنها بمثابة مسألة مؤرقة بالنسبة له، وهو الذي تعرف على قادة الحركات التحريرية في باريس، لما عاش سنوات الهجرة بعد أن اختلف مع الرئيس هواري بومدين، كما سيخبرنا لاحقا. وأضاف ''أنا جد مرتاح بشأن هذه المسألة''. فالتراجع عن الاندفاع أمر مفيد، وهذا من شأنه أن ''يضع أسس مجتمع عادل''. ولا يؤمن مهساس بالشراكة التي تقضي على الخصوصيات الوطنية، ويؤمن بأن الواقعية هي النظرة المثلى بخصوص العلاقة مع الغرب. لكنه سرعان ما يتخلى عن تفاؤله، وارتياحه، ويشرع في تقديم صورة قاتمة لدى حديثه عن المساعي الأمريكية لفرض توجهاتها على دول الجنوب باسم توجهات معينة تصطدم في الغالب مع التوجهات الوطنية. فتسأل قائلا ''كيف نجرم الاستعمار اليوم نظير جرائم ارتكبها فيما سبق، بينما نشاهد ممارسات استعمارية من نوع جديد تريد التغلغل بين ظهراني الشعوب التي خضعت للسيطرة، وذلك باسم بطرق مختلفة ومغايرة؟فيجيب ''هذه الشعوب بحاجة دائمة إلى البقاء مرتبطة بالإرث النضالي للحفاظ على مكتسباتها الوطنية''.لم أشك لحظة في أفكار أحمد مهساس، فالرجل يعيش حياة بسيطة بين كتب التاريخ والصور القديمة، المعلقة على جدران مكتبه، جنب شهادات التقدير التي منحت له من قبل الرئيسين الشاذلي بن جديد وعبد العزيز بوتفليقة، فسألته عن موقفه مما قاله وزير الخارجية الفرنسي السابق برنار كوشنير بخصوص مستقبل العلاقات بين الجزائر وفرنسا، بعد رحيل  جيل نوفمبر. وإذا به يبتسم، ثم يقول ''كوشنير لم يأت بالجديد، فالفكرة التي عبر عنها كانت موجودة في الجزائر قبل الثورة. برزت في الأربعينيات حينما كان الفرنسيون يعتقدون بأن القضاء على جيل الحركة الوطنية الجزائرية سوف يقضي على روح المقاومة''.ويضيف ''حتى الديمقراطيين الفرنسيين أنفسهم، كانوا يفكرون وفق أطروحات كوشنير. قالوا لنا بعد الاستقلال.. أنتم قمتم بالثورة، لكن الشباب الجديد سوف يفضل العيش مع فرنسا. إن الفرنسيين متشبعون بالفكر الاستعماري، وحتى الديمقراطيين منهم يعتقدون بأنهم أصحاب مهمة حضارية''. ومن هذا المنطلق، يحرص مهساس على مسائل الثقافة وكتابة والتاريخ والذاكرة. ويطرح مسألة خطورة كتابة التاريخ اعتمادا على التأليف المشترك مثلما حدث في السنوات الأخيرة، بين بعض المؤرخين الجزائريين والفرنسيين، واعتبر هذا المنهج الجديد بمثابة محاولة لتسريب ثقافة مناهضة لقيم الجزائريين. أخبار ''الحرافة'' تؤلمني  وعن سؤال حول إن كان يعتقد بأن المجتمع الجزائري قادر على الدفاع عن نفسه، ومواجهة إغراءات الكولونيالية الجديدة، يجيب، قائلا ''نعم هناك شباب قادر على اكتساب وعي فعال لصد هذه الإغراءات''. وينصح شباب اليوم، بقوله ''عليكم بتبني المسائل الإيجابية التي تركناها''. لكنه يضيف بنبرة نقدية حتى لا يبدو بأنه صاحب خطاب وطني لا ينظر للواقع ولا يقوم على حقائق المجتمع، ويقول ''نعم هناك ضغط في المجتمع، أعرف هذا جيدا. وهذا مشكل خطير جدا. مثل كل الجزائريين تصلني أخبار ''الحرافة'' عبر وسائل الإعلام. ويحز في نفسي كثيرا لما أسمع شاب في مقتبل العمر يرمي بنفسه إلى الهلاك في عرض البحر''. وبعد أن تنهد وأبدى مسحة من الحزن، قال ''كنا نتصور أن الجزائر سوف تعرف صعوبات أخرى لها علاقة بالعلم والتكنولوجيا، وليس هذه التي نعيشها اليوم والمرتبطة بمظاهر اجتماعية مثل الانحراف وتفشي السرقة على مستوى النخب المسيرة وغيرها من مظاهر الاحتيال. للأسف أصبحت الحيلة و''الشطارة'' بمثابة وسائل تستعمل لتحقيق الحاجات، بل إنها ثقافة تشكل تفكيرا مشتركا بين الناس، وطريقة لاكتساب الثـروة، وقضاء الحاجيات. وللأسف هذا هو التفكير المشترك بين الناس اليوم. ومنه أصبحت ثقافة المجتمع رديئة جدا، ونتج عن ذلك غياب الفعالية الاجتماعية. وقد أدى تراكم هذه السلبيات انتشار المظاهر غير الحضارية مثل التعبير عن المطالب عبر العنف وقطع الطرق وغيرها من مظاهر الاحتجاج غير المتحضرة''. وبما أنه سبق لي وأن حاورت مهساس في بداية التسعينيات، لما كان على رأس حزب ''اتحاد القوى الديمقراطية''، وكان قد أخبرني حينها بأنه شرع في كتابة مذكراته، سألته أين وصلت المسألة، فقال إنه لم ينجز بعد هذا المشروع، لكنه لا يزال متمسكا به، وأضاف ''أنا صاحب مواقف، ولن أتخلى عنها أبدا. كما أنني مسؤول عن الشهداء الذين كانوا معي، ولزاما علي أن أكون وفيا لهم''. وأعرف جيدا أن مهساس لو أكمل كتابة مذكراته، فإنه سيقول أشياء كثيرة. سيتحدث عن الاستعدادات الأولى للثورة. وكيف تجرأ مناضلون شباب على تجاوز انسداد حركة انتصار الحريات الديمقراطية. ويكشف مسائل كثيرة تتعلق بدور مصالي الحاج الذي لم يتنكر له يوما خلافا لآخرين، ولم يرمه بالخيانة، مكتفيا بالقول إنه كان مترددا فيما يتعلق بالعمل المسلح. كما بإمكانه أن يكشف بعض الجوانب المتعلقة بالصراع بين القادة خلال الثورة، ويتوقف عند علاقته بعبان رمضان الذي كان له الفضل في اكتشافه لأول مرة لما كان مسؤولا على عمالة قسنطينة في نهاية الأربعينيات، حيث كلف بإعادة تنظيم الحزب من جديد. وكيف اختلف مع جماعته بسبب قرارات مؤتمر الصومام، مما أوصل العقيد أوعمران إلى اتخاذ قرار تصفيته في سويسرا بواسطة المجاهد أرزقي باسطا الذي رفض تنفيذ الأوامر، وغيرها من القضايا الشائكة التي تجعل من أحمد مهساس فاعلا رئيسيا.بومدين كان لطيفا معي رغم خلافاتي معهلما وصلنا إلى معارضته لبومدين، قلت له ''كنت شجاعا فعلا، تجرأت على معارضة العقيد هواري بومدين'' في عز حكمه. ابتسم وقال ''نعم عارضت بومدين، ولم يكن يخيفني. ثم إن بومدين كان رجلا لطيفا وظريفا معي، وكان يعرف قيمتي النضالية، لذلك لم أسمعه يوما يخاطبني بشكل غير لائق، بل كان يكن لي كثيرا من الاحترام. واختلفت معه فيما يتعلق بطريقة تسيير المسألة الزراعية. كنت أنا بصفتي وزيرا للفلاحة في حكومته، أفضّـل طريقة أكثـر ديمقراطية، بينما كان هو يريد أن يفرض الحلول بشكل إجباري على الفلاحين''. خلافات مهساس مع بومدين أوصلته إلى الاستقالة من منصبه كوزير للفلاحة. استقر في باريس في سبتمبر 1966، وكان عضوا فاعلا في التنظيمات المعارضة لنظام بومدين، منها المنظمة السرية للثورة الجزائرية التي أنشأها محمد لبجاوي (أوكرا)، كما عمل مع بشير بومعزة وجورج حبش، وساهم في تفعيل ''تجمع الاتحاد الثوري'' إلى جانب كل من محمد بودية وبن منصور. ثم أنشأ ''التجمع الوطني للديمقراطية والثورة'' سنة 1977، رفقة قايد أحمد الذي اختلف بدوره مع بومدين، والعقيد الطاهر زبيري الذي قاد محاولة الانقلاب الفاشلة على بومدين سنة .1968مازالت هذه المرحلة ترمي بظلالها على مهساس، وإلى اليوم يحز في نفسه كثيرا تلك المحاولات التي استهدفته عقب استقالته من الحكومة، وقال ''روجوا حولي دعايات كثيرة.. قالوا إنني سرقت أموال الدولة، وفضلت الهروب، وغيرها من التهم التي نسبت إلي جزافا. والأخطر من كل هذا أنهم همشوني من الكتب المدرسية، ورفضوا ذكر الدور الذي لعبته فيما يتعلق بالإعداد للثورة. وكان الألم ينخر جسدي. اختلفت معهم فكريا، فراحوا يكيلون لي تهم السرقة''. بودواو هي جنتي، وأحن إليها كثيراعاش مهساس حياة قاسية في باريس بعد مغادرته الجزائر. عاد للدراسة في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، وناقش رسالة الدكتوراه. ومازال يذكر ظروفه المادية القاسية آنذاك، وقال ''لم أجد المساعدة سوى من رجل واحد هو محمد ولد الحسين المجاهد بالولاية الرابعة في ناحية شرشال. كان يملك محلا صغيرا فوظفني رفقة بلعزوق (وهو أحد مساعدي بومعزة لما كان وزيرا في حكومة بومدين) وكلفني بإعداد الفواتير''. استرسل مهساس في الحديث. تحدث عن عودته إلى الجزائر بعد الانفتاح الذي شرع فيه الرئيس بن جديد. وقال ''رغم ذلك قاموا باستنطاقي في المطار''. وإثـر عودته طلب من السلطة أن تمنحه الضوء الأخضر للعمل مع مجموعة من الطلبة من ذوي الاهتمامات المتعددة لكتابة تاريخ الجزائر وفق منهجية وطنية، لكن طلبه لم يحظ بالموافقة. وبينما كنت أتأهب لإنهاء الحوار مع مهساس، بعد أن لاحظت أنني أخذت منه وقتا طويلا، وقصد تجنب إرهاقه، سألته سؤالا أخيرا ''هل مازالت تزور بودواد مسقط رأسك؟''، فكان رده ''نعم، بودواو هي جنتي. أحن إليها كثيرا، كل تلك المنطقة التي تمتد من الرغاية إلى برج منايل ويسر تعتبر ملاذا بالنسبة لي''.  وعلى وقع هذا الحنين الجارف إلى عوالم الطفولة، غادرت بيت مهساس، وأنا أردد ''إنها حياة تليق برواية عظيمة''.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)