الجزائر

''الحقيقة المزوّرة''



تأخّر كثـيرا الرئيس بن بلة..
تأخّر عن واجبه تجاه أصدقائه الشهداء..
وتأخّر عن واجبه تجاه بلد كان على رأس حكمه..
تأخّر بأجيال عن واجب تنقية الأجواء وتصفية القلوب..
تأخّر الرئيس بن بلة، ليقفز في خريف عمره، على اللياقة والتواضع..
لم يبق إلاّ أن يقول بأنه كان كل شيء وكان الكل في الكل ..
لو لم ينقلب عليه أصدقاؤه وحلفاؤه عام 65، ربما لبقي جالسا إلى اليوم على كرسي الحكم. لكن المصالح الشخصية كانت أقوى. كانت بقوة مصالح أفراد نسجوا خيوط الانقلاب على المؤسسات في صيف .62
والخيط الذي يربط يومنا بذلك الأمس أن من يحمل عصا الحكم يتصرّف بذهنية أنا الكل في الكل .
والمرض ليس خاصا بالرئيس بن بلة. هو مرض الرؤساء والنظام ككل. وهو ناتج عن ممارسة الحكم في ظل تنظيم مغلق، يقوم على فكرة أن السياسي وصي على الهواء الذي نستنشقه، ومحتكرا لكل صور البطولات والنجاحات. أما الإخفاق والفشل، فيتركه لـ الشعب الفنيان .
إن من بين أخطر ما ورثـناه من تركة ممارسة القوة والعنف في السياسة، فكرة تقول أنا صمّام الأمان والاستقرار . لقد تطوّرت تلك الفكرة إلى مستوى العقيدة، وأصبح تحنيط الوظائف مذهبا تسير عليه الأجيال. على الأقل، هذا ما أفسّر به كلام الرئيس بن بلة وهو يصف نفسه. و أنا لا أوجّه لوما على ما قاله، لأن التاريخ الذي صنعته أيادٍ وإرادة شعبٍ، تمّ احتكاره سياسيا لمصلحة. لذا، يمكن لأيّ مسؤول الحديث عن نفسه بقداسة مصطنعة وعن ذاته بوقار، كما يمكن لكل رئيس أن يضع نفسه في مرتبة يقدّرها هو..
والكلام الذي خرج به ياسف سعدي عن المجاهدة لويزة إيغيل أحريز، لا يتناقض والاتّجاه الذي يأخذ التاريخ كأنه مادة متفجرة. يصنع منها قنابله متى يشاء. يزرعها حيثـما يشاء، مستهدفا من يشاء.
إن التناقض في الشهادات، وتعاقب الأزمات السياسية والدستورية خلقت حساسية من هذا الماضي. وبدلا من تجاوز الفراغ، وقعنا في قلبه. وأضحى عالمنا تحمله كلمات غير دقيقة، وتزيّنه جمل مجردة من المصداقية، وتفتخر به كتب محشوّة بالولاء للأقوى.
وسنبقى عرضة لسموم  أهواء رجال يستغلون التاريخ والماضي لتصفية حسابات تعود إلى مرحلة شبابهم. وسنظلّ رهائن حقيقتهم وشهاداتهم وقنابلهم. يتلاعبون بها وبنا كما يشاؤون، جاعلين منا مجرّد مستهلكين.
ماذا تغيّر اليوم؟
كل قوي يصنع حقيقته هو، ويسوقها رغيفا..
والعبرة اليوم من مظاهر التلاعب بحقائق تاريخية، أو بـ تأميمها لمصلحة شخصية، أن نعي بأن الاستمرار في نطح التعقل والمنطق سيؤدّي بنا، بعد نصف قرن آخر، إلى التساؤل عن مصدر اللّعنة .
سيؤدّي عدم تسييس التأريخ إلى إلحاق أضرار معنوية ومادية بعدد من الأبطال . فالتسييس لم يأتِ بالحقيقة، بل صنعها . لكن رفع يد السياسي عن مهمة كتابة التاريخ، بشكل موضوعي، سيعالج  نفسية قراءتنا وتناولنا لتاريخنا وماضينا.
ما كان منتظرا من أناس فتحوا طريقا نحو الاستقلال، هو عدم السطو على جهد الآخرين. وتفادي الحقيقة المزوّرة.لكن، كما كانوا أبطالا في القمع أو في التزوير، أصبحوا ضحاياه. وفي هذا، تم احترام مبدأ التداول على الحكم، و تدويره على الحلقات المحيطة به والمشكّلة له. فكم من بطل انقلب إلى ضحية، ثـم من ضحية إلى بطل..
فمن هو  المجاهد ومن هو المزيّف؟ من هو الأصيل ومن هو الصورة المصادق عليها بشهادة زور؟
كأننا نعيش أجواء صيف .1962 نتجادل على خصومات قائمة وأخرى محتملة.
وكأننا أمام نفس المهمة، أي صنع لعبة تلهي، وتنسي وتبعد الأنظار..


 hakimbelbati@yahoo.fr


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)