الجزائر

الحضارة عند مالك بن نبي



الحضارة عند مالك بن نبي
يعرّف مالك بن نبي الحضارة بأنها "جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل عضو فيه جميع الضمانات اللازمة لتطوره"، بمعنى أن تعامل أفراد المجتمع ضمن بناء اجتماعي أي ضمن شبكة من العلاقات الاجتماعية، تتيح للفرد تحقيق ما يعجز عن تحقيقه بكونه فكرة مستقلة. وهذا العمل تحت راية واحدة ولواء واحد إنما يكون (بالكلمة) التي لها الدور البالغ في تغيير وجهة أمة بأكملها، بالإضافة إلى قدرتها على أن توقظ شعبا من سباته وتنزع عنه كوابيسه المظلمة التي استغرق فيها، إلى فجر يوم مشرق بوادره العصيان ثم النصر وبالتالي الحضارة.فالحضارة عند مالك بن نبي أساسها النجاح، وإذا كانت غاية القوم وهدفه الأسمى التطور والتقدم وكسر قيود الأسر و التغلب على الهزيمة ورد الاعتبار للإنسان، كان لابد أن يكون الشعب كتلة واحدة، بنيانه كالبنيان المصفوف لا تهزه ريح، هذا ما يجعل أنسب الحلول لمجتمع كمجتمعنا في حضارته، كونها الداء والدواء وكونها سببا في رقي قوم وتدني قوم آخرين، ويقول في ذلك "فالكلمة يطلقها الإنسان. تستطيع أن تكون عاملا من العوامل الاجتماعية حيث تثير العواطف في النفوس فتغير الأوضاع العالمية".
فالحضارة "ماهي إلا نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي تدخل به التاريخ "، هذه الفكرة التي يستمدها المجتمع من أصالته التي يتميز بها عن غيره من الحضارات والثقافات، التي يستمد منها قوته وصرامته والشعلة التي أوقدت روح الإرادة فيه نحو العمل، وبالتالي التاريخ. وكل حضارة حسب مالك بن نبي تتبع أطوارا، تنتقل خلالها من حالتها الأولى وهي البروز إلى حالة الثانية وهي الأفول، أي أن حضارة معينة تقع بين حدين اثنين: الميلاد والأفول. وتنقسم إلى ثلاثة أطوار:
أولها: سماها طور الروح، وهو الطور الذي يستطيع فيه الإنسان التحكم في غرائزه، فيوجهها حسن توجيه، فتكون بذلك مساعدا له على الانطلاق، وهو الطور الذي تروض فيه الغرائز وتسلك في نظام خاص تكبح فيه الجماح وتتقيد عن الانطلاق. يليها طور العقل الذي لا يملك القدرة على السيطرة على الروح، فتتحرر الغرائز من قيودها تدريجيا مما يؤدي إلى انخفاض مستوى الإنطاق.
وآخرها طور الغريزة، أين تعجز الفكرة الدينية عن القيام بمهمتها، فتزول القيم وتذهب الأخلاق وينحل المجتمع، وبذلك نكون قد دخلنا فترة الركود والانهيار. وبهذه الأطوار الثلاثة تتم دورة الحضارة.
وفي حديثه عن كيف تتشكل الحضارة على أسس علمية مدرسة ومخطط لها، حتى تعود بالفائدة على المجتمع وعن العناصر التي إذا ما اجتمعت نشأت عنها الحضارة، نجده يضعنا أمام حالة الكيمائي الذي يحلل منتجاته ثم يركبها، ويقول في ذلك أن كل نتاج حضاري تنطبق عليه الصيغة التحليلية الأتية:
نتاج حضاري = إنسان + تراب + وقت، غير أنه لا يتوقف عند هذا الحد فقد يعطينا تفاعل الإنسان مع التراب والوقت كارثة بدلا عن حضارة، من أجل ذلك وفي سبيل توضيح فكرته يضيف إلى المعارف السابقة ما سماه مركب الحضارة، وهو المركب الذي يعمل على تفاعل تلك العناصر الثلاثة فيما بينها ويحرص على أن يوجه هذا التفاعل من أجل ما وجد لأجله وهو الحضارة. ويعطي مثالا عن ذلك في حالة الأوكسجين والهيدروجين وهما العنصران اللذين يتركب منهما الماء، غير أن وجودهما لا يفرض حتمية تشكل الماء فقد يوجد كل واحد منهما في حالته الخام وبالتالي لا يحدث تفاعلهما إلا بوجود مركب ثالث يوجه العملية، ويضيف مثالا عن ذلك في جزيرة العرب التي كانت قبل الإسلام مركبا فيه العناصر الثلاثة المذكورة سابقا مجتمعة، ولكن في حالة من الركود والخمول حتى جاء الإسلام وبزغ عليها بنوره، فجعلها من أعظم الحضارات في التاريخ بالرقي والتقدم والتحضر.
فالحضارة على حسب قوله هي التي تصنع المنتجات وليس المنتجات هي التي تصنع الحضارة، واعتمادنا على النسق البشري والأفكار خير من اعتمادنا على تكديس الأشياء والمنتجات، وعندما نشاهد التقدم الحاصل في ألمانيا، التي انطلقت من الصفر بعد الحرب العالمية الثانية، نلمس أهمية الوقت ونفهم معناه، حيث فرضت السياسة الألمانية على كل مواطن أن يشتغل ساعتين إضافيتين زيادة عن ساعات عمله المحددة يوميا مجانا، من أجل الصالح العام، وما نتج عن ذلك من إنجازات وتقدم لهو أفضل دليل على معنى الحضارة. وبالمثل يجب على العالم الإسلامي أن يبني حضارته الخالصة لا أن يكدس ما نتج عن الحضارات الأخرى، فيتخلص بذلك من التبعية، ويحقق ذاته، ويثبت نفسه كمجتمع راقٍ، وكحضارة بارزة.
إن ثمن حضارتنا ثمن باهظ لا يمكن أن يدفعه أحد، و الاستعمار على وجه الخصوص، فنحن أعطيناه ترابنا ووقتنا وثرواتنا وأنفسنا، وماذا أعطانا بالمقابل، أعطانا ظلما واحتقارا ولم يمنحنا حى صفة الإنسانية، فاغتصب أرضنا وأضاع وقتنا وفرقنا بحيث جعل كل واحد منا فردا تائها في بحر من الظلمات، هذا ما أعطانا فعلا وحقيقة وواقعا معاشا مقابل كل ما تنازلنا عنه، ومن أجل ذلك وجب علينا التغلب على الفشل فينا باتباع منهج حضاري أساسه التخطيط، التنظيم وتوجيه العمل، أساسه أن الحضارة لا تباع ولا تشترى. فالحضارة عند بن نبي "تسير كما تسير الشمس، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر".


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)