الجزائر

الحروب والأزمات السياسية



أما عن الحروب والفتن فهي آفة تفتك بأعداد كبيرة من السكان، فإنها كانت تنشب من حين لآخر، بين دولة بني زيان وبين جارتيها الحفصية والمرينية، في غالب الأحيان، وهؤلاء كانوا يطمحون إلى بسط نفوذهم على بلاد المغرب كلها، فلم يرضيا بوجود الدولة الزيانية على أرض المغرب الأوسط، وهذا واضح من خلال الهجومات المتكررة، لأبي يعقوب يوسف المريني على مدينة تلمسان، في نهاية القرن السابع هجري، الثالث عشر ميلادي، وتصميمه على ذبك في الحصار الطويل، الذي دام نحو تسع سنوات، وهو حصار كان له وقع شديد على سكان مدينة تلمسان، بحيث أحاط العسكر بها من جميع جهاتها، وضرب عليها سياجا من الأسوار، واختط مدينة إلى جانبها، ليأخذ بمخنقها فنال سكان مدينة تلمسان من الجهد والجوع، ما لم ينل أمة من الأمم ''فاضطروا إلى أكل الجيف والقطط، والفئران وأشلاء الموتى''، على حد تعبير ابن خلدون(105). وارتفعت أسعار المواد الغذائية والحبوب والخضر والفواكه وسائر المرافق غلاءا تجاوز حد المألوف(106)، حتى استهلك الناس أموالهم ومدخراتهم وضاقت أحوالهم فكان الهالك بالجوع أكثر من الهالك بالقتل''(107)، وأطلق المرينيون أيديهم على المنازل ''نهبا واكتساحا''(108)، وأصدروا أمرا بقتل كل من يدخل بضاعة أو مواد غذائية إلى مدينة تلمسان(109)، فتضرر السكان في داخلها، لانعدام الأقوات باستنفاذ المخازن، فلم يطق السكان تحمل هذه المجاعة(110)، فمات منهم خلق كثير، وهرب من استطاع الهروب، من بين الأسوار متسترا بجناح الليل، ولم يبق داخل المدينة إلا نحو ألف جندي مقاتل، وبضعة مئات من السكان من بينهم، أمراء بني زيان وحاشيتهم وحريمهم(111). وفي هذا الصدد يقول أحد المؤرخين: ''فكم خرجت فيها من ذمم، وكم هلكت فيها من أمم، وكم انجلى من أهلها أعلام، كم كابدوا من محن فيها وانتقام''(112).
فقد بلغ عدد الموتى من أهل تلمسان- كما تشير النصوص- قتلا وجوعا وتشريدا زهاء مائة وعشرين ألف نسمة(113)، وتوضح وثيقة أخرى بأنه ''كان على أهل تلمسان بلاء عظيم، من غلاء الأسعار وموت الرجال، وتثقيف من يخاف من الفرار.. وفر أكثر أهلها، فلم يبق فيها- تلمسان- إلا نحو المائتين وكان فيها من المقاتلة نحو الألف''(114).
وهذا دليل على أن المدينة قد أصبحت خالية من سكانها، الذي كان عددها يفوق مائة وخمس وعشرين ألف نسمة، على أكثر تقدير(115). ولم يبق فيها إلا بضعة آلاف، ظلوا صامدين ضد الحصار يقاومونه بكل الوسائل.
ومنذ هذا الحصار تضاعفت أطماع بني مرين، إلى عاصمة بني زيان، وتواصلت الحصارات، حتى لم يعرف أهل تلمسان الراحة، حيث واجهوا حروبا متتالية مع بني مرين، الذين تمكنوا من الاستيلاء على مدينة تلمسان، نحو عشر مرات خلال عهد بني زيان(116). وكذلك لم تهدأ الجبهة الشرقية مع بني حفص، ولم يسدها الهدوء والوئام في أغلب مراحل تاريخ الدولتين(117). فقد أهلكت هذه الحروب الكثير من أبناء تلمسان وأهلها(118)، وشردت العديد منهم إلى أقاليم أخرى من بلاد المغرب والمشرق(119).
ولا شك أن العمران هو الآخر قد تعرض إلى التهديم والإتلاف بسبب القصف بالمنجنيق والدبابات وبمختلف أدوات الحصار وآلاته، وقد أحزن السلطان أبا حمو موسى الأول رؤية خراب القصور والدور التي أنشأها وشيدها في عاصمته، وزاد السلطان أبو العباس المريني المدينة تخريبا عندما استولى عليها سنة 789هـ(120)/1384م.
ومن خلال ما تقدم يتضح بأن سكان مدينة تلمسان تعرضوا للقتل والتشريد، وتعرضت أيضا ممتلكاتهم إلى التدمير والتخريب، إلا أن الجدير بالملاحظة هو أنه كلما انتهى الحصار تضاعف عدد السكان الذين صارت لهم خبرة ومهارة كبيرة في التعامل مع الشدائد و المحن، بحيث يعيدون التعمير والإنشاء من جديد، بعد رحيل العدو وعودة الأمن والهدوء والاستقرار.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)