الجزائر

الحراك والمؤسسة الدينية



لن نجانب الصواب إن نحن أكدنا بأن المسجد في البلاد الإسلامية، كما في الجزائر، ظلّ، في أغلب الأحيان، مهتما بشأنه في تأدية ما يراه مفيدا، أو ما يتخيله كذلك من ناحية نشر الطقوس والشرائع والاجتهادات والفتاوى، سواء بالعودة إلى النص الجامع، أو بالبناء على مرجعيات فقهية عينية لتمرير خطاب متفاوت العمق والزاد المعرفي، متباين من حيث الطرح وسبل الإقناع، ومن حيث المقاصد العامة من وراء تقفّي رزمة من العلامات الدالة على توجه ما، عقلاني أم لا، خرافي أم لا، بصرف النظر عن منتجيه وفضاء تسويقه ومتلقيه، ومقتضى الحال.إنّ توجُّه المسجد الآيل إلى تكريس الشعائر وشحن العواطف، تكريسا لمنظور السلطة وأوامرها، على حساب الموضوعية وبعض الوقائع الدنيوية، هو الذي ظل يتبوأ المنحى الخطابي العام. لذلك بدا، كمنقذ مهزوم أمام ورم الحقيقة، منفصلا عن الشأن السياسي الكارثي، وغير مهتم، بشكل مباشر، بأزمة القصر وممارساته وتعفنه، أو بالموقف الذي يجب أن يتخذه العالم، أو الإمام، كعارف بشؤون الأمة، وبوضعها الاجتماعي والطبقي بفعل تمركزه المؤثر، وبفعل قيمته المثلى، من منظور العامة، كمورد أكثر وثوقا من بقية المرجعيات الممكنة، بما في ذلك المرجعيات العلمية والرياضية والمنطقية والعقلانية والسياسية التي تتكئ عليها النخب الانتهازية، والتنويرية معا العالم، بالنسبة لهذه المجتمعات المخصوصة، إن نحن ركزنا على التحليل الأنسي، هو الإمام والفقيه ورجل الدين والمفتي، وأما الباقي فلواحق يمكن الاستغناء عنها لأنها ليست ذات مصداقية نصية، أي ليست ذات قيمة روحية يمكن أن يعوّل عليها في فعلي التبيين والإقناع.
غير أنّ المسجد الجزائري ، رغم هذه القيمة التاريخية الراسخة في ذهنية الناس ونواميسهم، كسند مركزي موثوق به من حيث المصدر ، بقيّ منغمسا، ببعض المغالاة المريبة، في موضوعات بعيدة عن حال الجماعة المستقبلة لخطابه، أي ما تعلق بمجموع الموضوعات المتواترة من قرون، دون أية تقوية للمنقول المعاود عن طريق الحفظ، ومن ذلك: الصيام، القيام، الصدقة، الرقية، الضلالة، الزكاة، نواقض الوضوء، الشيطان، الحج، الشرك، جهنم، اليهود، ثم... وهذا مهم جدا: طاعة أولياء الأمر منكم، أي الملك والحاشية واللصوص، وذلك درءا للفتنة النائمة، أو لأمر ما يعرفه الفقيه والوزير المنسجمين بشكل مفارق. لم يجرؤ هذا المسجد المنقذ من الضلالة و الظلام ، ولو مرة واحدة، على إدانة البطالة والاختلاسات والتجاوزات والجرائم الاقتصادية والفساد والهدم المقنن للدولة الجزائرية من قبل أولي الأمر، مع أنّ من وظائفه الأساسية محاربة الشرّ من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية التي يتأسس عليها جزء كبير جدا من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والسيرة. هكذا ابتعد عن واقع الأمة، وعن الأولويات التي بمقدورها إنقاذ المجتمع من الفقر والانحرافات الأخلاقية التي قوّضت كيانه.
كانت طاعة أولي الأمر منكم، منذ استقلال البلد إلى غاية اليوم، هي التي توجه خطابه المعياري، وكان أولو الأمر هم هؤلاء الذين يكتبون ما وجب قوله وتمريره في المناسبات الدينية وأيام الجمع: خطب مقننة، غنية من حيث المحسنات البديعية، وموجهة بعناية فائقة. ما يعني أن تقاليد القصر العتيد، وعلى رأسه وزارة الشؤون الدينية، هي التي كانت تفكر وتقرر وتؤلّف ما تراه مناسبا لها.لقد انتحل القصر صفة المصلح والمرشد والعاقل والتقيّ للتدليل على انضباطه وكماله الذي لا تضاهيه النخب مجتمعة. أمّا المسجد، بهالته الكبيرة، فبدا تابعا له، قبل الحراك وأثناءه وبعده، ومنفذا لما يملى عليه من الوصاية المباشرة، بحيث بقي، رغم هيبته وقداسته المكرستين، بمنأى عن الاهتمامات الدنيوية للرعية التي أنهكها السلطان، وبعيدا عن مخططات السلطة الهادفة إلى محو الدور التحويلي للمسجد كصوت للحق والعدالة الإلهية.
لقد لعبت هذه المؤسسة الدينية، الموثوق بها سلفا،والمحاصرة من قبل النظام وأعوانه وأزلامه وبعض المشعوذين من دعاة الإسلام السياسي، دور الناطق الضمني باسم هذه الأنظمة المتعاقبة على البلد، ولم تركزعلى دورها في التوفيق ما بين الدنيوي والأخر ويلإنقاذ البلد من العمى الشامل الذي أسهمت فيه مختلف الجهات، دون السقوط في التبعية المطلقة لأجهزة الفساد التي كانت توجهها وجهة لا تلحق ضررا بمكاسبها الكبيرة خلال عشريتين من إسكات الثقافة والعقلوالسطو على أرزاق الأمة وصناعة الأوهام واللصوص والأثرياء والأزمات، وصولا إلى التقشف، كإنجاز عظيم حققته الدولة الجزائرية بعد 57 سنة من الشعاراتوالدعاية، وبعد عقدين من التدمير الممنهج لأسس المجتمع ومقوّماته وثقافته وإرثه ونضاله ولغته.
لم يكن لهذه المؤسسة، المنسحبة من الدنيا وسفاسفها، أي حضور في الحراك الشعبي لأنها ظلّت هيئة مغيبة،غيبية،وأكثر تركيزا على شؤون الموت وعذاب القبر وأهوال القيامة والدعاء للحاكم، في الوقت الذي كان هذا الحاكم مركزا على الحياة، غارقا في توزيع الجهل المبرمج والفناء على المواطنين، وتوزيع الحياة و العقار والأموال والمناصب والوطن على الموالين له من خيرة الأشرار الذين لم يفضحهم المسجد، خدمة لعلة وجوده: إحقاق الحق إرضاء للخالق، بقدر ما تواطأ معه رغما عنه، ورغم يقينه بأن «الساكت عن الحق شيطان أخرس»، حسب ما يردده، دون أي تحيين لما يقوله. لقد قدم الإمام والمفتي والعالم والفقيه خدمات جليلة للحاكم المنحرف، وذلك بتحريف الأنظار عن قضايا جوهرية في حياة المؤمن والمواطن، ومن ثمّ تمكين النظام من التمادي في غيّه بتفقير البلد وإضعافه إلى درجة مخيفة لم تؤثر في مواقف المسجد الذيل.هل انخدع هؤلاء بخطاب القصر فدعموه من حيث لا يدرون؟
الظاهر، من منظورنا، أنّ الحراك الجزائري، كثقافة ووعي، ولد أعزل من كلّ سند ديني أو مسجدي محتمل، كما تجلى من الشعارات والممارسات المستقلة عنه وعن خطابه المكرر حول نواقض الوضوء وأهوال القيامة. لم تستفد الهبّة الشعبية، على الأقل من حيث التجليات، من دروس المسجد الذي لم يعد، كما يبدو للعيان، سوى مساحة مطهرة للصلاة والاستغفار استعدادا للآخرة الوشيكة، مساحة غير معنية أساسا براهن المجتمع واحتياجاته البسيطة التي تشكل جزءا من وجوده على سطح الأرض، ومقدمة محتملة لعالم الغيب الذي أصبح، بالنسبة للمسجد، هدفا في حد ذاته، مجرى ومرسى لأي فعل وحركة، وقيمة يقينية، وذاك ما كان يرغب فيه النظام الذي أطّر هذه المؤسسة الجليلة عن قرب، وعاث فيها فسادا لا نهاية له: تحييد المسجد بإفراغه من ثقافة المقاومة حتى لا يكون قوة إيمانية ذات قيمة مؤثرة، وقد أفلح في ذلك بجعله فضاء محايدا لا رمزية له سوى الرمزية التي رغب فيها النظام: إبعاده عن ممارسات القصر، وعن هموم المحيط الخارجي وما كان ذا علاقة بالشأن اليومي للأمة المحاصرة.
لهذا وذاك تجاوزه هذا الحراك الدنيوي، بحسناته وعلاّته التي سيكشف عنها الوقت، كما كشف عن الخراب العام الذي تسببت فيه العصابات، مرتكزة على الولاءات وتجييش التبع في ظلّ صمت النخب، وفي ظل تواطؤ المسجد، عن قصد، أو بشكل عفوي جعله صدى خافتا لغيره، وليس صوتا ذا قيمة اعتبارية حقيقية لا تريد أن تكون تابعة للولاءات السياسية التي تستغله لأغراضها الظرفية، بعيدا عن النص، وقريبا من المصلحة المتحولة التي استثمرت في عفوية الطبقات الاجتماعية الهشة في وقت سابق من تاريخ البلد، كما حصل في التسعينيات، وكما قد يحصل عندما يضعف البلد ويصاب بالتفكك والوهن.
الشعب يريد إسقاط النظام ورحيل أذنابه، وكل الداعين إلى العهدة الخامسة، ثمّ: أكلتم البلد أيها اللصوص»، . هذا هو لبّ الحراك ولغته، ومنطقه الذي قفز عليه المسجد الجزائري المعاصر، وكلّ المؤسسات والشخصيات التي أساءت التقدير، مع أن هذه المطالب من جواهر الإيمان بالمعتقد، ومن المصدر القرآني الذي يحرّم أكل الأخ ميتا، كما فعل أغلب المنتمين لنظام الريع، كيف لم يقم المسجد بإدانة السارق والمجرم والقاتل كصور ماثلة من وجوه الشيطان الرجيم؟ ،مع أنه على دراية بالتفاصيل، وبالعلاقات السببية بين الوقائع المدمّرة، بالعلة والمعلول؟ لقد أتضح، في نهاية الأمر، أن لغة الحراك بسيطة جدا ومعبرة، مختزلة جيدا، بليغة ومباشرة، وأقلّ ارتباطا بالميتافيزيقيا والنظريات الكبرى والفتاوى والسجع ومختلف المحسنات البديعية التي يشتغل عليها المسجد المنسجم مع ذاته في منفاه الغيبي، هناك في السماء حيث لا يواجه الملوك وذوي النفوذ وأبواب الزنزانة.
يذكرنا هذا الوضع الدادائي الذي ميز المسجد بما قاله الشاعر الهندي طاغور: «زرت كل البلدان والمحيطات، لكني لم أبصر قطرة ندى على وردة أمام باب بيتنا.» هذا الشيء الثمين هو الذي نسيناه عندما لم ننظر من حولنا لنبصر التفصيل الضروري لحياتنا، وعندما نظرنا بعيدا بعيوننا وبعيون غيرنا، أو تأسيسا على مرجعيات غير وظيفية سياقيا. لم نكتشف واقعنا وطرائق التعامل معه بحكمة منتجة للوعي، وقادرة على التحويل الإيجابي. هكذا نزلنا إلى القاع بخطى عملاقة، في الوقت الذي كانت فيه العصابة تشغّل آلاف العيون لتحقيق ذاتها بكل الوسائل المتاحة، دون أي اعتبار للأخلاق والضمير والدين المدجن الذي أفادها في فتوحاتها المتمثلة في خنق الوطن وتقزيمه والسطو عليه، بتزكية من الجميع، ومن المؤسسة الدينية أيضا، وتلك حقيقة مأساوية تدخل في باب السخرية السوداء. ذاك ما ينسحب علينا جميعا، وعلى منطق العالم والفقيه، ما يشبه الالتفاف حول جهنم بطرائق ذليلة، ومجنونة، لكنها حادثة. ربما فقد الشارع ثقته في هذه الهيئات المؤطرة فاختار إطاره الخاص به في التعامل مع الوضع بوسائله، بعيدا عن خترفة الثقافة والدين المختطف من عقود. هذه هي الحقيقة التي وجب قبولها، بمنأى عن الزعامات الوهمية للنخب ورجال الدين.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)