الجزائر

الحراك اللبناني وتعقيدات المشهد الاقتصادي



الحراك اللبناني وتعقيدات المشهد الاقتصادي
جاء حراك الشارع اللبناني متأخراً وبعدما توقع الناس أن اللبنانيين أدمنوا الحرمان والإحباط ولم يعودوا يروا ضوءاً في آخر النفق، فرضوا بالأمر الواقع وظلت الهجرة إلى الخارج بالنسبة إلى الشباب الحلم الذي يعيشون من أجله. لكن لبنان يختلف عن الدول الأخرى التي شهدت حراكات في الشارع بسبب تعقيدات المشهد اللبناني. لا شك في أن مرور 25 سنة على انتهاء الحرب الأهلية كان كافياً كي يسترجع البلد عافيته ويجري إصلاح ما خربته الحرب لو جرى تبني سياسات واستراتيجيات تضع الاقتصاد والسياسة على المسار الصحيح، لكن باستثناء بعض أعمال البنية التحتية التي كلفت أثماناً باهظة لم يتجاوز لبنان آثار الحرب. وكل أنواع الخدمات التي تُعتبَر من الحقوق الأساسية للمواطن حتى في الدول النامية والفقيرة من طرق ومجاري وكهرباء وماء ومعالجة نفايات وبنى تحتية وأمن تدهورت أخيراً إلى ما دون المستوى المطلوب، ولا يشعر المواطن بحصول تحسن فيها على رغم الوعود العديدة التي يسمعها، وإنما على العكس يزداد بعضها سوءاً بمرور الوقت. ومن ناحية ثانية لا توجد سياسات اقتصادية سليمة تسعى إلى تحريك الاقتصاد وإيجاد وظائف، فوصلت البطالة خصوصاً بين الشباب إلى معدلات مقلقة، على رغم أن الأرقام الفعلية قد تكون أعلى من المنشورة رسمياً. ووصل الدين العام إلى مستويات غير مبررة وغير مقبولة اقتصادياً. والسبب هو فساد النظام الضريبي ونظام الجباية في شكل عام الذي يعجز عن جمع ما يكفي لتمويل النفقات العامة، هذا بالإضافة إلى شبهات الفساد التي تحوم حول بعض صفقات الإنفاق العام. ولسد فجوة العجز الحكومي المتنامي، يستخدم الجهاز المصرفي ودائع القطاع الخاص لإقراض الحكومة. وحتى المبالغ المتبقية لا تذهب لتسليف القطاعين الخاصين الأكثر حاجة إلى التنمية، وهما قطاعا الزراعة والصناعة التحويلية وإنما يذهب 70 في المئة من التسليفات المصرفية لتمويل قروض شخصية كشراء السيارات والسفر والأثاث وكلها في الغالب نفقات تصرَف على سلع مستوردة لا يستفيد منها الاقتصاد المحلي في إيجاد فرص عمل ولا في نمو إجمالي الناتج المحلي.ولا تعود معدلات البطالة العالية بين الشباب والنساء فقط إلى الفشل في تبني سياسات اقتصادية ناجحة وإنما هناك افتقار واضح إلى سياسات عمل تؤدي إلى التقليص من البطالة وتمكين المرأة ومساعدتها على الجمع بين العمل الوظيفي والأمومة. فكل بلدان العالم بما فيها الدول المتقدمة اقتصادياً والغنية تعاني البطالة التي أصبحت اليوم مشكلة عالمية لكنها تطبق سياسات عمل يلتزم بها الجميع للتخفيف من حدة البطالة، لأن العمل لا يعني فقط أن يكون مصدر دخل للفرد العامل لكنه عامل استقرار اجتماعي مهم له ولعائلته لشعوره بأنه شخص منتج ومفيد بالمجتمع. والمقصود بها هنا سياسة العمل الجزئي التي تسمح لشخصين بدلاً عن شخص من احتلال وظيفة واحدة، هذا بالإضافة إلى منح المرأة ساعات عمل مرنة وإجازة أمومة طويلة. كل ما يشهده لبنان من تردٍ في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لم تستطع القوى السياسة الفاعلة فيه أن تغير فيه شيئاً كثيراً منذ انتهاء الحرب. كل السياسيين ينتقدون الأوضاع القائمة والحكومات التي سبقتهم لكنهم لا يقدمون شيئاً يختلف عنها، وهذا يعود في شكل رئيس إلى تعقيدات المشهد اللبناني. فلبنان على رغم صغر حجمه وقلة عدد سكانه، تجعل تركيبته السياسية إدارته أعقد بكثير من دول أكبر حجماً وأكثر سكاناً. فلا توجد أحزاب سياسية بالمعنى الفعلي للأحزاب في الدول الديموقراطية، وإنما هي إقطاعات سياسية تمثل طوائف ومذاهب على رغم تسميتها باسم حزب أو حركة أو تيار، ولها مصالح اقتصادية ومالية وسياسية تمتد من زعاماتها وحتى أصغر المنظمين إليها.وعلى رغم من وجود دستور يفتخر به اللبنانيون ويعتبرونه من أحسن الدساتير في العالم، إلاَّ أنَّ مصالح الإقطاعات السياسية لا يبدو أنها تتفق والاحتكام إلى الدستور وإنما تحكم البلد بتسويات تعرف بموجبها كل واحدة من هذه الإقطاعات أين يجب عليها أن تقف حتى لا تسيء إلى مصالح الإقطاعات الأخرى. هذا إلى جانب ارتباط كل واحدة من هذه الإقطاعات بقوى إقليمية ودولية ولا تعمل في فراغ. فالإقطاعات السياسية على رغم الاختلاف الظاهر بينها ترتبط مصالحها مع واقع الحالة اللبنانية الراهنة، وأي خلل في هذا الواقع أو تغيير سيؤثر في مصالح هذه الإقطاعات السياسية وهي بالتأكيد لن تسكت عليه. الحكومة الحالية والقوى السياسية المختلفة وإن أظهرت إلى الآن تأييداً لشعارات الحراك، إلاَّ أنَّ موقفها منه يتسم بالحزم كلما وجدت أنه بدأ يتجاوز الخطوط الحمر ويهدد مصالحها، وهذا ما يدعو إلى القلق على مصير هذا الحراك. فإذا أصرت الجهات المنظمة على موقفها واستمرت في حراكها، لا بد من نقطة يصطدم عندها الطرفان. وهذا ما يدعو إلى القلق على مستقبل الحراك على رغم أحقية مطالبه، ويُخشى أن يؤدي هذا الاصطدام إلى إطلاق شرارة نزاع أهلي يأتي على ما تبقى من الاقتصاد والوضع الاجتماعي والأمني الصعب.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)