لكل عبادة ولكل تشريع مقاصده وغاياته، ظاهرة بينة أو غير ظاهرة خفية، علمها من علمها وجهلها من جهلها؛ ولهذا كانت أولى قواعد الفقه الكلية التي اتفق عليها الفقهاء، قاعدة: “الأمور بمقاصدها”. ويفهم منها أن العمل الذي لا يحقق المقاصد المتوخاة منه لا وزن له، وأن العامل الذي لا يحرص على تحقيق مقاصد عمله عامل على غير سبيل، وأن العمل يقيم بمدى تحقيقه لمقاصده وغاياته وأهدافه. وهذه الحيثية المهمة يغفل عنها كثير من الناس، ويحسبون أن مجرد أداء العبادة (أو العمل) مهما كانت النتائج الموصلة إليها كاف، ولو رجعت على مقاصدها بالإبطال!.
والحج كغيره من العبادات والتشريعات له أسراره وحِكمه، وله مقاصده وأهدافه وغاياته، ومن المهم للحاج؛ ولغير الحاج، معرفة هذه المقاصد والأهداف، حتى يحرص على تحقيقها وتحققها. وحتى يقيم حجه بعد ذلك بمدى إدراكه لهذه المقاصد، ووصوله إلى هاتيك الأهداف، وبلوغه تلكم الغايات.
ولا يخفى كثرة هذه المقاصد ووفرتها؛ وسأجملها ذكرا من غير تفصيل مختصرا ما ذكره الأستاذ العلامة عبد الوهاب أبو سليمان في كتابه ((المقاصد في المناسك))، حيث صنفها كما يلي:
مقاصد عقدية: إعادة شعائر الحج إلى صفاء التوحيد، قال الشيخ العلامة ابن عاشور رحمه الله: “ومن حكمة مشروعيته تلقي عقيدة توحيد الله بطريق المشاهدة للهيكل الّذي أقيم لذلك حتى يرسّخ معنى التوحيد في النفوس؛ لأن للنفوس ميلا إلى المحسوسات ليتقوّى الإدراك العقلي بمشاهدة المحسوس”. تعظيم شعائر الله وحرماته. إقامة ذِكر الله والمداومة عليه.
مقاصد تشريعية: التيسير ورفع الحرج. الأخذ بالأحوط في أداء العبادات. الترقي في مدارج التقوى.
مقاصد علمية فكرية: التوعية الدينية بتعلم أحكام الحج قبل الإقدام عليه. لقاء العلماء والمفكرين.
مقاصد اقتصادية: الإنفاق من المال الحلال، الانتفاع بالتجارة، وهو داخل تحت قوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم..}. جلب الخيرات للحرمين تحقيقا لدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}. وهنا لا يقولن قائل: لا تحولوا موسم العبادة إلى موسم التجارة!؛ لأن القصد الأول هو المقاصد العقدية والعبادية ثم تأتي باقي المقاصد، قال الإمام العلامة ابن باديس رضي الله عنه: “فكل منفعة تجلبها عبادة، أو مضرة تدفعها، فملاحظتها عند قصد العبادة لا تنافي الإخلاص، ولا تنقص من أجر العامل، وهي مثل الثواب المرتب على العمل: هي في الدنيا وهو في الآخرة، كلاهما من رحمة الله التي نرجوها بأعمالنا”.
مقاصد اجتماعية على مستوى الفرد: الأمن على النفس والمال والعرض. أداء الحقوق الواجبة. الاهتمام بنظافة البدن. تجنب الرفث والفسوق والجدال {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. المعاملة الحسنة والكف عن أذى المسلمين ومضايقتهم. تعود الانضباط والتحكم في الرغبات. المساوة بين الحجيج وإلغاء كل أسباب التمييز.
مقاصد اجتماعية على مستوى الأمة: وحدة الأمة، يقول سيّد رحمه الله: “والحج بعد ذلك كله مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة.. يجدون فيه قوتهم التي قد ينسونها حينا. قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين، الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد.. راية العقيدة والتوحيد .وهو مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب. وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام، في ظل الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة. في أنسب مكان، وأنسب جو، وأنسب زمان..”. إحياء المعاني والقيم الحضارية الإسلامية. التعارف المؤدي إلى التعاون: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}.
المقصد الجامع لكل المقاصد: وهو شهود المنافع والظفر بها، قال الحق سبحانه: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير * ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق}. ولم يخصص سبحانه شيئا من المنافع دون غيرها، فهو عام في جميعها من منافع الدنيا والآخرة. ونكر المنافع؛ لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات. كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته. قال العلامة ابن عاشور رحمه الله: “ومعنى {ليشهدوا} ليحضروا منافع لهم، أي ليحضروا فيحصلوا منافع لهم إذ يحصل كل واحد ما فيه نفعه. وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب. فكنى بشهود المنافع عن نيلها. ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين.وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقى بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه.وتنكير منافع للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية؛ لأن في مجمع الحج فوائد جمة للناس: لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحا في الدنيا بالتعارف والتعامل”.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 15/05/2024
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : الدكتور يوسف نواسة*
المصدر : www.elkhabar.com