الجزائر

الحانوت الوطني والبضاعة المكدّسة



الحانوت الوطني والبضاعة المكدّسة
هل من داعِ للتذكير بأن معظم الأفكار التي وردت في كتابات كمال داود الصحفية وفي روايته محلّ الخلاف، أو التي نُسبت إليه وثوقا أو تحريفا بسبب هذا الخلاف، والتي يتخاصم حولها المتخاصمون ويختلف من أجلها المختلفون، هي معروفةٌ منذ زمن بعيد عن الكاتب من خلال ما كتبه في أعمدته وافتتاحياته الصحفية، أو في إبداعاته. وهي فوق ذلك أفكار مطروحة في الطريق بضاعةً مكدسةً في حانوت المنغصات الكبير منذ ما قبل نشأة الزمن الوطني العسير بكل ما يحمله من متروكات ومكبوتات وفلتات، يطّلع عليها القارئ ويسمعها السامع في كل لحظة على ألسنة من مكّنهم تكوينهم وموهبتهم ووعيهم من التعبير عن مواقفهم بخصوص الهوية والعروبة والدين واللغة والسياسة وغيرها من المواضيع التي تشغل الساحة الثقافية بطريقة عقلانية تعتمد الحوار الهادئ والنقاش البنّاء، ولكن كذلك على ألسنة من لم يتح لهم نصيب من الوعي بخطورة الكلمة وخطورة تداعياتها، ولم تُتِح لهم تجاربهم الحياتية إدراك هذه الخطورة على الرغم ممّا يبدونه من ثقافة وانفتاح وتبصّر، لكنهم تعوّدوا على الإدلاء بدلوهم من خلال التدخل العنيف في هذه القضايا، فيخوضون في النقاش كحاطب الليل لا يترك أمامه شيئا إلا وضعه في رحله، ويصلون إلى درجة توجيهه وفق مسارات ضيقة وخطيرة يسوقون الآخرين إليها سوقا بما يفجّرونه من كراهية في الأفكار، ومن تأزّم في المواقف، ومن عنف رمزيّ تنفر منه اللغة التي يكتبون بها مهما كانت هذه اللغة.ولعل هذا كلّه ينمّ عمّا يحملونه من عُقد بعضها فوق بعض تعكس حالة مرَضيّة مُستعصية، لا تزيد لهذا النقاش إلا غموضا وتعقيدا، ولا يبالون بما يُنتجونه من غُصص في حقل الثقافة الحسّاس، وفي عالم الأفكار الخطير، حتّى لكأنّ الواحد يعتقد وهو يقرأ لبعضهم، أن هذه الأفكار التي يتخاصمون حولها إنما وُجدت الآن، وقيلت لأول مرّة، ولم يسبق لأحد أن قالها من قبل، في حين أن التاريخ الوطني مليء بما يشبهها، وبما هو أشد منها خطورة وأكثر منها إثارة للمعارك الفكرية وللزوابع الأدبية. ورغم ذلك، يبدو أننا أمة تعودت على التعامل مع التاريخ تعاملا فيه كثير من النفاق والحيلة يستطيع من يدّعون تمثيلها من خلاله أن يلْوُوا عنق المستعجَل في فجوة المسكوت عنه فتزداد بذلك بضاعة الحانوت الوطني تكدّسا من خلال الإصرار على تحريك الزوابع الهامشية في الاتجاه الذي يخدم المصلحة الآنية لهؤلاء أو لهؤلاء، والغاية من ذلك معروفة وواضحة.إن ما يُدهش فعلا في هذه الحالات هو هذا الاصطفاف الأعمى، وهذا التهويل، في حين أن مثل هذه الأفكار التي وردت في كتابات كمال داود و أخطرَ منها، يُردّد كلّ يوم، وعلى شتىّ المنابر، من طرف الكثير من المثقفين، وأحيانا بطرق هي من العنف والغلظة مما يجعل القارئ ينفر حتى من قراءتها، برغم ادعاء أصحابها التفتح والحداثة، أو ادعاء بعضهم الآخر الأصالة والتدين والتنوير، بحيث لا يمكن أن يتصوّر القارئ، بعد تفكير وتدبّر، أن ما يقولونه يصدر عن أناس لهم نصيب من الوعي بخطورة ما يقولون.ذلك أن الأفكار هي نفسها منذ أن وُجدت، والذي يضفي عليها صفة الخشونة أو الليونة هم من يقولونها بالطريقة التي يقولونها بها، وبما يُحمّلونها ممّا يختزنون من نوايا سرعان ما تظهر في خلفيات نصوصهم حتى وإن ادعوا غير ذلك. إن التاريخ الوطني، وخاصة التاريخ الثقافي منه، يزخر بمثل هذه المقولات الرافضة للغة العربية، وللهوية الوطنية، وللدين الإسلامي، ولنماذج السياسة والحكم التي سادت في تاريخ الجزائر، وكذلك للأشخاص الذين تعاقبوا على هذه البلاد سواء أكانوا ساسة أم إيديولوجيين، أم مثقفين. وعلى الرغم من ذلك، فإن أيّا من هذه العناصر لم يختف بسبب حدة ما طرحته المراحل من أفكار رافضة متشددة، ولم يُهَدَّد بالدرجة التي يصبح فيها آيلا للانقراض أو للمحو، أو للمسخ. ولعل في ذلك كلّه عبرة تاريخية على درجة كبيرة من الأهمية يتناساها المشتغلون بتأجيج ما سبق تأجيجه وترويج ما اعتاد الناس ترويجه.إن ما يُحزن فعلا، وما يدعو إلى التفكير مليا في دواعي وخلفيات هذا الاستغلال المفرط لما يمكن تسميته بقضية كمال داود، هو أنْ يتّخذ هؤلاء وهؤلاء الكاتبَ رهينةً لطموحاتهم الشخصية، ولتصوراتهم الموقفية، ولعقدهم النفسية والهوياتية، فيجعلون منه ومن أمثاله متجرا مُربحا يحقق لهم بعض ما يتصورون تحقيقه من شهرة أو نفوذ أو تفريج عن عقد في لحظة يعرفون أنها عابرة، وأنها ستصبح طيّ النسيان، كما الكثير من مثيلاتها، بعد انقضاء مدّة فاعليتها. وهم بذلك يتلاعبون بالكاتب أولا من خلال استغلال ما يتعرض له من هالة تقديس مزيفة لا محالة من طرف الغرب، ومن حالة تدنيس مفتعلة لا يستحق صاحبها الدخول القسري في “غينس” المغضوب عليهم، وذلك على الرغم ممّا تحمله أفكاره من عنف مقابل يبدو أنه لا يعي خطورته تماما، نظرا لشيوع هذه الأفكار بيننا وترديدها من طرف الكثير من المثقفين بمناسبة أو بدون مناسبة من أجل تحقيق مآربهم الظاهرة والخفية.لقد أثبتت التجارب التاريخية القريبة والبعيدة، أن العصبيات لا تُولّد إلاّ العصبيات، وأن الهزّات تولّد ارتدادات شبيهة بها أو أقوى. كما أثبتت التجربة الجزائرية المعاصرة بالذات أن المثقفين بما يقدمونه من صورة عن أنفسهم في المرآة العاكسة لأنفسهم لم يكونوا في كثير من المراحل التاريخية وخاصة المراحل الأخيرة من تكوّن الدولة الوطنية، غير قطيع (بحسب الذي يلحون على استعماله) سائر في مسارات رسمت لهم سلفا لم يكونوا على وعيّ حقيقيّ بمنطلقاتها وبمآلاتها على الرغم ممّا يدّعونه من قدرة على تحليل الأزمات التي مرّت بها الدولة الوطنية، وعلى الرغم ممّا يحاولون تصديره في كتاباتهم من فهم عميق لمسبّباتها و لنتائجها.إن ما يدعو فعلا للأسف أن يحوّل هؤلاء الباحثين عن العظام كمال داود، كما حوّلوا غيره من قبل و في ظروف مماثلة، إلى مُنتج مُستعمل و منتهي الصلاحيّة يضيفونه إلى البضاعة المكدسة في الحانوت الوطني الكبير، ثمّ لا يهمّهم بعد ذلك أن يتقدّم هذا الوطن أو أن يتأوّه كمال داود داخل رؤيته الكامويةّ، متناسين أن هذا الوطن لا يحتاج إلى دروسِ أيّ كان من أجل التعلم من تجاربه، أو إلى تطبيبِ أيّ كان من أجل مداواة جراحه النازفة.بقي أن نقول إنه لو بقي لكمال داود حسنة واحدة فقط يتفق عليها الجميع ويُشكر جزيل الشكر عليها، فهي لا محالة، إتاحته الفرصة، من كثرة ضربه المتكرر على الجرح، إلى إخراج الكثير الكثير من الغلّ من بطن (الدّوحاسة) الوطنية المقيّحة، وتحريره بعض الفضاء الطامح إلى الشفاء داخلها، لعله يجد طريقا لذلك.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)