الجزائر

«الجمهورية» تسبر أغوار قاعات المحاكم بوهران



«الجمهورية» تسبر أغوار قاعات المحاكم بوهران
إن طريق السلامة بيّن وطريق الندامة أبين، من أراد حياةً قوامها الهدوء و السكينة فليتخذ من القانون بوصلة تحدد مساراته وتضبط اختياراته و إلا فإن أبواب المحاكم ستفتح على مصراعيها لتقتص من كل آثم مجرم ناهك لحقوق الأشخاص و المجتمع فالأمن على النفس و المال هو جماع النعم و مقصد الحق والعدل وإذا زال حل محله الخوف والروع والفزع ومن أبرز العوامل المنتجة لبذور الارتياع و الشقاء والظلم والجريمة بكل أشكالها و أنواعها التي حولت البيوت الجميلة إلى أقفاص من حديد يسكنها ناس يفتقدون الاحساس بالأمان وبدلت مواقيت السمر والسهر في مدن كبرى كوهران فأضحى الغروب ساعة الإيذان بالهروب إلى البيوت خوفا من خفافيش الظلام و قطاع الطرق والدروب.هذا التوصيف ذو المسحة التشاؤمية ما كان ليكون لولا العدد المهول للقضايا المعروضة على أقسام الجنح وغرفها ومحكمة الجنايات بمعالجة يومية لملفات بين طياتها و بين أسطر أوراقها مآس ما لها آس، قتل وتنكيل، رشوة و محسوبية، اختلاس للمال العام و سوء تسيير، مخدرات وسرقات وضرب للأصول والفروع وذوي الأرحام، جرعات من المرارة يتناولها المشتغلون بحقل العدالة بشكل دائم لكن فسحة الأمل و الرغبة الملحة في التطهر من درن الشوائب والمصائب يفتح طريقا آخرا ومنهاجا جديدا في النظر إلى ما يقع ويحدث داخل بيت العدالة من حكايات وكواليس وأصداء في إطار غير مألوف والاستثناء المتغلب في كثير من الأحيان على القاعدة.لذلك ارتأينا الإفلات من قبضة اللغة الرسمية بكلماتها العامة و المجردة واستبدالها بحروف الوصف لرسم لوحات من قلب غرف المحاكم دون الاخلال بهيبة المكان وقدسية الإجراء وجلال المبتغى. الأيمان المغلظة ولغة الجسد الواحدة"أقسم بالله أنا خاطيني"، "و الله العظيم ما خونت" ، "براس ما و براس بويا ما ضربته " ، " حرام مرتي ما بعت الكيف " و و و ...لا تمر ساعة في أي قسم أو غرفة من أقسام و غرف المحاكم و المجالس القضائية إلا و تقتحم آذان الجالسين عشرات من عبارات الأيمان خاصة في قضايا الجنح و الجنايات ، و جميع المحبوسين يتكلمون لغة جسد واحدة فالقامة منكسرة و الرقبة مختبئة بين الكتفين و العينان شاخصتان في الأرض و الأيدي لصيقة بالظهر و الوجه تكسوه علامات الاستعطاف والاسترحام و طلب العفو و المغفرة أما نبرة الصوت فمضبوطة على موجة التمسكن والانكسار .أما مفردات العبارات فجميعها مستمدة من قاموس الندم و قهر الفقر و شبح البطالة و الأزمات الاجتماعية و الاقتصادية وانعدام السكن و العنوسة فلا دار ولا دوار وهروب الأمل في تسطير غد أفضل وعليه فإن الاعتداءات والسرقات والمخدرات وترويع الآمنين و قطع الطريق على المسافرين والقتل و الاغتصاب و الرشوة ، كل ذلك مبرر و للمحكمة واسع النظر . "مخبزة بلا خبز"نهرته بكلمات تقطر غضبا وخنقا لما حاول الدفاع عن موقفه بالقول أنه غير عنوان مشروعه و أن ممثلي وكالة "أونساج" و البنك الممول اكتفوا بالبحث عنه في العنوان القديم و لم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث عنه في مقره الجديد .يبدو من اختيار عباراتك و طريقة تعبيرك أنك شاب حذق يتقن لعبة المراوغة والافلات من قبضة الأسئلة و قد نجحت في إغراق جيبك بسيولة مالية ضخمة لكن جميع أوراقك اليوم سقطت و حيلك لن تنطلي على المحكمة ، و القضية ببساطة أنك قدمت مشروعا افتراضيا يتمثل في إنشاء مخبزة و أعطيت وكالة أونساج عنوانا إجتماعيا محدد المدة و بمجرد أن قبضت الثمن من البنك لا مخبزة و لا خبز ، أما مسألة أنك غيرت العنوان فثق في كلامي أن هذه الحجة سمعتها عشرات المرات من أشخاص من أمثالك مثلوا أمامي هنا بنفس التهمة ، يا لهذه العناوين الطائرة التي لا تقف على أرض ثابتة و يا حسرة على المبالغ الفلكية التي قدمتها الدولة لشباب غير مسؤول تخلى عنها على قارعة التباهي والبذخ والإسراف، لو كان كلامك بحق مؤسسا لأبلغت ممولي مشروعك بعنوانك الجديد قبل أن يرفعوا دعوى ضدك و لأتيتنا اليوم بعقد رسمي يثبت تغييرك للمحل ختمت القاضية كلامها . ذاك السارق من ذلك المارقبعد خروجه من السجن بيومين ألقت مصالح الأمن القبض عليه مجددا بتهمة سرقة هاتف نقال بوسط مدينة وهران ، هو شاب في العشرينات من العمر تعود على دخول المحاكم برتبة مجرم منذ كان قاصرا ، قسمات وجهه و سهام نظراته تؤكد أن لومبروزو لم يخطئ فيما توصل إليه من نظريات في علم الاجرام .طلب القاضي من الضحية أن تنظر جيدا إلى المتهم و تتأكد من أنها لم تخطئ في حقه ، سهام تبلغ من العمر 25 سنة ، بشعرها المسبوغ بالأصفر و المسرح بإتقان و بوجهها الغارق في بحيرة من الألوان أحمر على أزرق على بني و بشفتين تتراقصان بانسجام على إيقاع الأسنان المنهمكة في سحق الحلوى ، تقدمت إلى منصة العدالة بجلابتها الحمراء ضيقة الأطراف تميزها فتحة صدر واسعة و دون أن تنظر إلى الجاني و لو بطرف العين أكدت للقاضي أنه هو ، نعم هو من سرق هاتفي النقال بالقرب من سوق "لباستي" و أطلق الريح لرجليه نحو أزقة "سان بيار" و صديقتي نعيمة الجالسة هناك تؤكد لكم صدق قولي ... صوت أجش مبحوح طرد ذبذبات الغنج و الدلال و أيقظ الجالسين و الواقفين من تنويم الإثارة و الجمال ، إنه أب المتهم المترصد في المقعد الخلفي ، انفجر في وجه الفتاة بكلمات كل حروفها مستمدة من قاموس الكفر و السب و الشتم و التهديد بالاغتصاب و لولا تدخل رجال الشرطة لحدثت جناية داخل قاعة الجلسة . "سرج يا فارس""الطمع يخسر الطبع" مثال شعبي ينطبق من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه على صاحب الخيول الماثل أمام المحكمة بتهمة سرقة سرج ملك لزميل له بمركب الفروسية بالسانيا .لديه خيول أصيلة ثمن الواحد منها 200 مليون سنتيم على الأقل فكيف يعقل بموكلي أن يسرق سرجا ثمنه لا يتعدى مليونين نحن أمام قضية غير منطقية يرفض العقل تقبلها وعليه نطلب من سيادتكم المحترمة الحكم ببراءة موكلي قال المحامي، لكن القاضي وجه نفس السؤال إلى الماثل أمامه، تعثرت كلمات سعيد على طريق ملغوم بالأدلة المنفجرة ضده ، فالرجل صاحب الأربعين عاما سرق السرج و هو ما أكده أحد عماله في جلسة المحاكمة ، خبأه في إحدى إسطبلاته مدة 6 أشهر ثم باعه لأحد ممارسي رياضة الفروسية، وقد تعرف الضحية بسهولة على سرجه بمركب السانيا فأخبره المشتري بالقصة التي انتهت في أروقة المحكمة ... لما حاصرت الأسئلة الممزوجة بالاتهامات سعيد من كل زاوية اعترف قائلا: "أنا لم أسرقه و لكنني أخذته فقط لأنه لم يكن له صاحب"."قالتلي ربيني على يدك و علمني ما دامني صغيرة" تقدم نحو منصة القضاء بخطوات متمايلة وابتسامة بلهاء تكسو شفتيه ونظرات شاردة في الخواء، معطفه الجليدي وسروال الجينز لم يتمكنا من لجم جموح عضلات جسمه القوية و الضخمة و التي تشي أنه عاشق لرياضة كمال الأجسام ومدمن على تناول أقراص البروتيين ، لم يخبئ يديه خلف ظهره ، لم يطأطئ رأسه أثناء حديثه مع القاضية كما فعل من سبقوه في جلسة المحاكمة...تلت عليه القاضية وقائع القضية فهو يبلغ من العمر 30 سنة، أعزب و يقطن بأرزيو التي ولد فيها، متابع بتهمة تحويل قاصر لا يتعدى عمرها 16 سنة ، أخذها إلى بيته العائلي الذي مكثت فيه قرابة 5 أشهر إلى أن عرفت الأم مكان ابنتها فاتصلت بالشرطة التي أعادت الطفلة إلى أهلها. هل تنكر هذه الوقائع تساءلت القاضية في الحقيقة سيدتي الرئيسة أن هذه الفتاة تعشقني و طلبت مني أن أربيها على يدي و أعلمها . تعلمها ماذا ، المجون و الفسوق ؟ بل أعلمها تفاصيل الحياة و منطقها فهي فتاة جميلة جدا وقد حاول زوج أمها أن يقيم معها علاقة جنسية لذلك لجأت إلى حماي . لكنها قاصر و ليس من حقك استقبالها في بيتك ؟ حرام أن أتركها في الشارع تنهش الكلاب لحمها ؟ لكن حلال لك أن تستمتع بها مدة 5 أشهر بلا حياء ولا خجل حتى من أقرب الناس إليك، هل تزوجتها عرفيا على الأقل ؟ لا . هل أنت مستعد للزواج معها ؟ لا يمكن لأنه توجد فتاة أخرى الآن في البيت طلبت حماي. هل هي قاصر كذلك و فرت من زوج أمها. هذا الأمر لا يخصك.عاد المتهم إلى مقعدة بنفس المشية و الابتسامة تاركا القضية غارقة في دهشة شديدة و حمرة الغضب قد التهمت وجهها بالكامل ."الشكولاطة" والصداقةتلون وجهه بالصفرة و غرق قلبه في الحسرة، كان إحساسه في حالة سكون و عقله في وضعية ركون ، كطفل يرسل أولى خطواته في الحياة دون أن تفتح له أمه ذراعي الحنان و الأمان مشى مترنحا بطيئا نحو منصة العدالة لما أعلن القاضي عن رقم القضية و عن اسمه و لقبه ، بلغة شبه قانونية تسير على ساق واحدة حاول أن يناقش رئيس الجلسة صاحب الرأس الخالي من الشعر لفرط المصطلحات الحقوقية التي أغلقت مسامات جلده. هل تعترف بأنك سرقت ؟ نعم سيدي القاضي أعترف بأنني نهبت علبة شوكولاطة من محل تجاري ملك لصديقي الشاكي ، الذي تعرفت عليه مع تعرفي على مذاق المأكولات لحظة الفطام ، صديقي رجل صاحب أخلاق نبيلة و شمائل جليلة و صفات نبيلة لهذا صاحبته 34 سنة و ها هو اليوم يجازيني على ذلك بمقاضاتي من أجل علبة شوكولاطة ، لكنك تعترف أنك أخذتها خلسة يسأل القاضي ، نعم لأنني سائق "كلوندستان" و لم يسدد لي ثمن نقلي لأفراد أسرته إلى بيت أبيه و وجدت حرجا في طلب حقي فقمت بما قمت به ... طأطأ القاضي رأسه و تمتم قائلا ماتت الصداقة . "عذبني صغيرا وحملني وزره كبيرا "حاول أن يلتهم الوقت بين الجلوس و الوقوف و الخروج من قاعة المحكمة ثم العودة إليها مسرعا ، لكن هيهات هيهات فقد هده القلق بعينيه الصغيرتين الفارغتين إلا من الحزن و إدمان الأرق ، رجل في السبعين من العمر ، زحفت كتائب السنين عليه فانهارت أمام جبروتها قواعد القوة و الشباب و جفت ملامح النضارة و البهاء عن وجهه الذي قسمته التجاعيد إلى أجزاء غير متناسقة ، يتنفس الصعداء ثم يستغفر ويحمد الله ويعود إلى كرسيه بطلب من شرطي أقلقه قلق الشيخ المتواصل.سألناه عن قصته و سبب تواجده في المحكمة و الارتباك الطاغي على تعابير جسده ومحياه ، كأنه سد مائي فتحت جميع أبوابه في لحظة واحدة شرع عمي الحاج يروي مأساته مع ابنه المسجون [ لقد توفيت أمه بعد ولادته بأسبوعين سنة 1972، والدتي تكفلت بتربيته مدة 4 سنوات قبل أن تفارق الحياة و تنتقل روحها الطاهرة إلى بارئها، تزوجت مجددا في 1978 في العام الذي التحق فيه هو بالدراسة ، كان طفلا غير عادي لا يتوقف عن التسبب في المشاكل ، مع أطفال الجيران ، مع معلميه ، مع التلاميذ مع زوجتي و شقيقاته ، كنت كالمجنون أركض وراءه ليل نهار ، لم يكمل تعليمه فبمجرد بلوغه سن الثالثة عشر بدأ يدخن و يحتسي الخمر و يغيب عن البيت بالأيام الطوال ، إلى أن جاءني أول استدعاء للمحكمة ، كان ذلك سنة 1988 أعلموني أن ابني متهم بالسرقة الموصوفة و تكوين جمعية أشرار و منذ ذلك التاريخ و إلى غاية هذه الساعة ما زال السيناريو على حاله] ... بما أنه حالة ميؤوس منها و لم يعد طفلا أو قاصرا كما كان عليه الحال في الماضي لماذا لا تشطبه من سجل حياتك نهائيا و ترتاح من القلق الذي يفتك بك ؟ ابتسم الشيخ بطريقة فيها الكثير من الغموض وقال [حينما ترزق يا ولدي بالأولاد تعرف الإجابة بدون مساعدة من أحد]. المخدرات والخضروات ![ سأفترض أن كلامك صحيح و أنك تقول الحقيقة و أنك تشتري الأقراص المهلوسة للاستهلاك الشخصي ، فلماذا إذن ضبط رجال الأمن 20 قرصا داخل معطفك الجلدي في مكان مشبوه بحي سان بيار ؟ كان يكفي أن تبتلع حبة و تترك بقية الكمية في بيتك لتتفادى أي مشاكل مع الشرطة و العدالة ] لم يجد إلياس صاحب 23 سنة ما يرد به على القاضي سوى تكرار ما قاله من قبل بأنها للاستهلاك الشخصي و أنه شاب يعاني من البطالة و المشاكل الاجتماعية و أن ملاذه الوحيد للهروب من الواقع الكئيب هو تناول المؤثرات العقلية التي تحجب عنه أي رابط مع العقل و التعقل ...كلام الشاب قليل الخبرة وناقص المعرفة لم يكن مقنعا على الاطلاق و هو ما خلص إليه محاميه الذي ينبئ الشعر الأبيض الذي غطى رأسه والتجاعيد التي قطَّعت وجهه أنه رجل متمرس له صولات و جولات داخل المحاكم ، تقدم الأستاذ و بصوت خرقت ذبذباته طبلات الحضور بدأ يرافع [ سيدي القاضي مع احترامي الشديد لشخصكم الموقر و لمنصبكم السامي لكنني ذهلت و دهشت من سؤالكم الغريب العجيب الذي طرحتموه على موكلي بخصوص حمله للأقراص المهلوسة خارج حدود بيته ما دامت هي للاستهلاك الشخصي و هنا أطرح عليكم سؤالا سيدي الرئيس وأتمنى أن يتسع صدركم لسماعه ويتفتح عقلكم للإجابة عليه، هل هناك نص قانوني يمنعني من شراء صندوق كامل من الطماطم للاستهلاك الشخصي و أقرر أنا بإرادتي المنفردة من التجول خارج حدود بيتي حاملا لهذا الصندوق و عدم الاكتفاء بحبة آكلها في البيت وعليه سيدي الرئيس نطلب من سيادتكم المحترمة الحكم ببراءة موكلي و لكم واسع النظر و شكرا ]. ملكي أكثر من الملكأعترف سيدي الرئيس أنني سرقت هذا الرجل الماثل أمامكم ، لقد تتبعت خطواته أنا و شريكي الذي لا يزال في حالة فرار ، دخلنا معه إلى البنك و تأكدنا أنه استخرج مبلغا ماليا معتبرا و بمجرد خروجه من المؤسسة المصرفية ، قطعنا عليه الطريق فقد قام رفيقي بإشهار خنجر و التهديد بطعنه و توليت أنا أخذ المال ثم هربنا وسط الزحمة فقد كان يوما مكتظا بالمارة ، تقاسمنا المبلغ مناصفة فقد كانت غنيمة كل واحد منا 10 ملايين ، لكن الضحية تمكن من وصف ملامحي جيدا مما أدى إلى توقيفي من قبل مصالح الأمن بعد عملية السرقة بأسبوعين ، أتمنى أن يؤدي اعترافي سيدي القاضي إلى تخفيف العقوبة عني فأنا شاب يعاني من عدة مشاكل اجتماعية و اقتصادية و أقر بخطئي و أتمنى أن تسامحوني .أخلطت هذه الاعترافات غير المنتظرة دفاع محامي الشاب و مع ذلك أصر صاحب الجبة السوداء على إبقاء خطته كما هي مع تعديل بسيط لا يمس الجوهر [ سيدي الرئيس ، يتبين من كلام موكلي أنه ليس هو من أشهر الخنجر في وجه الضحية و هدده بالطعن و إنما شريكه الفار من العدالة و عليه فإن موكلي بريء براءة الذئب من دم يوسف و لا علاقة له بهذه الجناية لا من قريب و لا من بعيد و تأسيسا عليه نلتمس من سيادتكم الحكم ببراءته و إخلاء سبيله ] . كلب نبح فتوقفت القافلةانسكبت الدموع من محاجره تحرق محياه لما التقى بزوجته العجوز و أبنائه الخمسة و كثير من أحفاده الذين غصت بهم قاعة الجلسة ، أتوا زمرا للاطمئنان على صحة رب العائلة الأكبر و لحضور أطوار محاكمته بعد أن تسبب في قتل جاره الذي يشاركه نفس المرحلة العمرية ف كلاهما تخطى عتبة العقد السابع .حاول الحاج قدور أن يحتال على الحزن و يتجاهل الزمان و المكان ليقضي لحظات عذبة مع الأهل الذين لم تغادر أعينهم عيناه فهم لم يتعودوا فراقه لكن سرعان ما باءت محاولاته بالفشل فقد كان الخطب جلل و الحمل أثقل من أن تكابده رجلاه المرتعشتان أصلا ، ازداد خفقان قلبه الذي جفت عروقه من البهجة و السعادة حين رمى رئيس المحكمة في وجهه الشاحب بأسئلة تقطر دهشة ، هل حقا قتلت محمد الذي جاورك مدة 46 سنة بسبب نباح كلب ؟ هل صحيح أنك ضربته بقضيب حديدي في الرأس و تركته مغشيا عليه يسبح في دمه ؟ إن التقارير التي أمامي تثبت أنك هددته في ملإ من الناس بأنه إن لم يطرد الكلب من سطح منزله فإنك ستقتله و اعتقد الحاضرون أنك تقصد قتل الحيوان و إذا بك تطرد صاحبه من عالم الدنيا لمجرد أن نباح الكلب أزعجك فبماذا ترد ؟ خنقت الحسرة صوته للحظات كانت أطول من عمره و حين لملم ما بقي من رفات قواه رفع رأسه الأبيض مستسلما من هول ما اقترفته يداه وقال بنبرة أبوية موجها خطابه للجالس فوق منصة الحكم [ يا بني لم يبق في العمر رصيد جديد يسمح بالمراوغة ، لقد قتلني الخطأ قبل أن يقتل جاري ، فهو على الأقل مات وسط أهله و أبنائه أما أنا فسأموت في زنزانة مظلمة موحشة ذليلا وحيدا كأي مجرم خارج عن القانون علما أنه طيلة حياتي لم تطأ قدمي مركز شرطة أو درك فقد كنت أمشي رفقة ظلي فقط ، ويعلم ربي أنني لم أكن أقصد قتل جاري ولكنها نيران الغضب حينما تلتهم الصبر والحلم و تحولك إلى مجرد صبي لم يحتلم، رجائي الوحيد أن يسامحني أبنائي وأبناء جاري فكلهم ضحايا طيشي و تهوري ]. _________________قصة و قصاص ‎نار لا تنطفئ بلقندوز فيلالي حين رد تحية الصباح على والدته داخل جلسة القاعة انبعثت من فمه رائحة الكحول المستقرة في جوفه منذ عدة أشهر، ملامح وجهه المرهق تفضح سر علاقته الدائمة مع الأرق بعد أن خاصمه النوم و لم يجد وسيطا يصالحه معه، لم تتماك الأم رؤية ابنها البكر مخمورا بالحزن و الكآبة حد الثمالة فرفعت يديها وصاحت بالدعاء على من كان السبب، هرول شرطي نحوها وأمرها باحترام قداسة المحكمة فانفجرت باكية، كانت الذكريات السيئة تحوم فوق رؤوس الجميع وغيوم الماضي تحجب نور الحاضر والمستقبل.عندما طلب منه رئيس الجلسة الحديث وجد صعوبة كبيرة في جمع رفات إرادته وكبح دمعته فهو بحاجة إلى كل مياه الدنيا لإطفاء حرقة قلبه ونار فاجعته، قصر الكلام و طال الندم ، من أين أبدأ الحكاية يا سيدي القاضي أأقول لك أن هذه القابعة في قفص الرذيلة كانت في يوم ما زوجتي وحبيبتي ولا يهنأ لي رقاد إلا بعد أن تكتحل عيني برؤية فرحتها، أأقول لك أنني عملت كثور هائج ليل نهار لأوفر لها مسكنا لائقا وعيشة هنيئة، أأقول لك أنني زرت كل الأطباء وأجريت كل التحاليل حتى أرزق بطفلة تشبهها في الوقت الذي كانت تبتلع هي أقراص منع الحمل سرا، حين دخلت البيت ووجدت رجلا في فراشي يتلذذ بجسد كان في يوم ما حلالي، تشعبت بي الطرق وغاب عني الأفق وغطى دخان الخيانة قاتم السواد أي شعاع أمل في الحياة ، كان بمقدوري أن أقتلها هي وعشيقها الذي سكنت معه في بيت الفحش قبل زواجنا بسنوات لكن رأيت في تلطيخ يدي بدمهما النجس تشريف لهما وراحة لا يستحقانها فنحن أمة لا تذكر للموتى إلا المحاسن حتى لو بلغت عيوبهم عنان السماء لذلك قررت أن يكون دور البطولة في تلطيخ سمعتها للسانها و يدها...بعد أن قضت المحكمة على الزانيين بالسجن النافذ طلبت الأم من فلذة كبدها أن يرافقها إلى البيت لكنه رفض عرضها بلطف واتجه صوب حانة ليست ببعيدة عن مقر المحكمة ليحتسي مزيدا من بكائه.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)