الجزائر

الجزائرية التي التصقت بالتربة وباللوحة والصلصال



باحثة من الطراز الثقيل، اختصت في الجزائر وشمال إفريقيا، عالمة اجتماع وباحثة في الأنثروبولوجيا، تنقلت بين الجزائر وفرنسا مع مرور مهم وعميق إلى مصر وأماكن أخرى. وجدت في منطقة الأوراس ضالتها، بحثا وتنقيبا في تفاصيل حياة الناس البسيطة والعميقة، دارسة الجوانب العقائدية والصوفية ومتتبعة طرق ووسائل وأسباب التطور والتغيرات التي طرأت على الممارسات والطقوس الدينية، محاولة التركيز على العلاقة العفوية والبسيطة والمعرفية في الوقت ذاته وسط المجتمع الريفي، والممارسة الدينية وارتباطاتها بكل التراكمات التي أنتجت معرفة عميقة ومخطوطات متنوعة المواضيع لا زالت مخزنة في بعض الزوايا. منذ بدايات وعيها ومنذ أول لحظة لمست فيها قدماها عتبة الكتاب "الجامع" لتتآلف مع لغة ليست لغة البيت لم تحس بالغربة؛ لأنها كما أوضحت؛ هي ابنة هذا المكان وابنة هذه الثقافة الشعبية بكل غناها وأسرارها وألغازها وبصماتها وتشعباتها، وبالتالي كان من الطبيعي بالنسبة لوالدها أن يدخلها إلى الكتاب في فترة العطلة لتتعلم اللغة العربية وتحفظ آيات القرآن الكريم، لم يكن صعبا عليها، كما أوضحت ذلك مرارا في محاوراتها أن تتآلفت مع اللوحة والصلصال، لأن كل ذلك كان جزءا من حياتها اليومية في قريتها "ثنية الحد" في "مسكيانة" التي شهدت ولادتها ذات 29 أوت 1934. حز في نفسها كثيرا أنها لم تحتفظ بلوحتها الأولى، لكنها لم تتأخر؛ وهي في أول تجربة ميدانية لها في الأوراس أن تشتري واحدة بدينار كجزء من حميميتها ومن الذاكرة الجمعية التي سكنتها. كانت تجربة غنية جعلت علاقتها شفافة وعميقة مع الحرف العربي، الذي وجدت فيه نوعا من السحر في طريقة تعلمه في الكتاب "الجامع" الذي طبع شخصيتها قبل أن تدخل إلى المدرسة الأهلية والثانوية ملاحظة الاختلاف في طرق التعلم والمناهج المتبعة، من الحصير والجلوس على الأرض والألبسة التقليدية وحركة الجسد المرتبطة بالحفظ وعملية التكرار كطقس أساسي وممارسة ضرورية لتخزين المعلومة، إلى المدرسة النظامية مع السبورة والطباشير والمنضدة والكراس والمداد والريشة، والانضباط في اللبس والتصرف ودقة الوقت. ربما من هنا كانت البداية، التي سكنت أعماقها وتخزنت في اللاوعي لتصبح في ما بعد هاجسا من هواجس البحث والتنقيب لتتوج بكتاب سبقته وتلته كتب أخرى " أيات الصمود / الثوابت و المتغيرات الدينية في الجزائر المعاصرة" والذي ترجمه إلى العربية لطيف فرج ونشر في دار العالم الثالث. لم تنس الكتاب"الجامع" ولا طرق التعلم فيه إذ دافعت عنه بقوة في مؤتمر من مؤتمرات اليونيسكو . باحثة وأستاذة، بالرغم من أنها تدين بالكثير معرفيا لبيير بورديو ومولود معمري، إلا أنها بقيت مستقلة في فكرها، محاولة باجتهادها وقناعاتها وعلاقتها الخاصة بالمجتمع الجزائري أن تتميز لتخلق لنفسها نهجا آخر في البحث حتى وإن لم تخلق نظريتها الخاصة أو مدرستها الخاصة، إلا أنها اقتنعت بالبحث الميداني بنظرة أكثر دقة وموضوعية والتصاقا بالأرض والذاكرة وقدرة الإنسان على الخلق المرتبط بالتراكم على كل المستويات. فاني كولونا، مثلها مثل الكثيرين ممن كانوا قريبين من النبض الجزائري العميق، معبرين بصدق عن وطنيتهم وعن نضالهم من أجل استقلال الجزائر؛ معتبرين أنفسهم جزائريين حتى العمق وبقناعة تامة ومواقف مبدئية جريئة واجهوا المستعمر كل بطريقته الخاصة ، سواء بالنضال المباشر والانغماس في الثورة التحريرية، أو والانخراط في أحزاب وطنية ويسارية كان همها إسماع صوت الجزائريين في المنابر الدولية، كما شاركوا ككتاب وصحفيين وفنانين وسينمائيين في وضع الواقع الجزائري والحراك الثوري في الواجهة. الأسماء كثيرة هناك المعروف منها، والمجهول والمنسي، عائلة شولي أكبر دليل على ذلك بكل ما قدمته للجزائر من تضحيات ومواقف نبيلة ومشرفة، آنا غريكي، لوسيت حاج علي لاريبير ، موريس أودان.. وآخرين كثر. فاني كولونا وزوجها انتهجا نفس الطريق ونفس المنهج. ولدت وعاشت وعملت في الجزائر حتى سنة 1993 حيث غادرت إلى فرنسا بسبب الأوضاع الصعبة والتهديدات مثلها مثل الكثيرين. لم يهدأ لها بال وفكرها مشتت بين الوضع الداخلي في الجزائر ووضع المثقفين الجزائريين الوافدين إلى فرنسا آنذاك، إذ بادرت مع بيير بورديو وأندري ماندوز ومحمد حربي في تأسيس الللجنة العالمية لمساندة المثقفين الجزائريين (CISIA) في جوان 1993. ساعدت الكثير من الجامعيين فِي اختصاصات مختلفة ونجحت في إيجاد مناصب عمل لهم في الجامعات والمعاهد الفرنسية . لتغادرنا على حين غفلة في 17 نوفمبر 2014 وتدفن حسب وصيتها في مدينة قسنطينة، لتعود بذلك إلى عطر اللوحة والصلصال الذي سكنها، وإلى دفء التربة التي أنجبتها واحتضنتها وأحبتها، وناضلت من أجلها بقوة حتى آخر نفس. امرأة لم تترك لا للحقد ولا للكراهية ولا للأفكار المسبقة أن تتسرب إلى قلبها؛ بالرغم من أن والدها قتل في الجزائر في ظروف تراجيدية. لروحك الطيبة الرحمة والسلام عزيزتي فاني.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)