الجزائر

الجزائرمن أين يبدأ طريقها نحو مجتمع المعرفة؟




تحتضن دار الثقافة مولود معمري بولاية تيزي وزو ابتداء من اليوم وإلى غاية 14 نوفمبر الجاري الطبعة الثانية للعزف الكلاسيكي، التظاهرة التي دعت إليها الجمعية الثقافية ''محمد إقربوشن'' بالتنسيق مع دار الثقافة مولود معمري ومديرية الثقافة للولاية تعيد إلى الذاكرة أحد أبناء الجزائر الكبار وأحد عمالقة الموسيقى الكلاسيكية الجزائرية والعالمية الرجل الذي يحمل الناي كما سماه الكثير ''محمد إقربوشن''.
سطر القائمون على تنظيم هذه الطبعة للعزف الكلاسيكي، التي ستدوم ثلاثة أيام، برنامجا ثريا ومتنوعا يستهل بتنظيم معرض متواصل طيلة أيام التظاهرة بأروقة دار الثقافة وقاعة زميرلي، لعرض كتب وقصاصات صحف تتناول سيرة وأعمال الراحل محمد إقربوشن صاحب المواهب، فكان موسيقيا وشاعرا وكاتبا.
ويتم خلال حفل الافتتاح تقديم حفل موسيقي من تنظيم الأوركسترا الوطنية للموسيقى الكلاسيكية بقاعة المسرح الصغير لدار الثقافة مولود معمري، متبوعا ببيع بالإهداء لكتاب ''الموسيقى الكلاسيكية والجاهز العصبي'' من طرف السيد وانو غان.
ويتخلل برنامج الطبعة الثانية للعزف الكلاسيكي إلقاء جملة من المحاضرات، منها ''موسيقى الأوركسترا ومسيرة محمد إقربوشن'' و''حياة ومسيرة محمد اقربوشن''، إضافة إلى تنظيم مسابقة أحسن عازف وأفضل ثنائي، ومسابقة أفضل ثلاثي، وذلك باعتماد مجموعة من الآلات: الكمان، الناي والقيثار الكلاسيكي.
وتختتم التظاهرة بتوزيع الجوائز على المشاركين في مختلف المسابقات المنظمة، متبوعا بحفل فتى من إحياء أوركسترا المعهد الوطني للموسيقى، كما يرتقب أن تنظم الجمعية الثقافية لإقربوشن زيارة إلى مسقط رأس الراحل بآث وشن أين تم -مؤخرا- تدشين نصب تذكاري يخلد اسمه.
وحتى لا يعلو الغبار وجوه رجال الجزائر الأفذاذ وحتى لا يخبو نور كنوز أرضنا المعطاء؛ تعمد الجمعية الثقافية التي تحمل اسم محمد إقربوشن بالتعاون مع قطاع الثقافة للولاية إلى تنظيم نشاطات تخلد خلالها روح ذلك الفتى الراعي، الذي أثار اهتمام الإنجليز، ابن أزفون الراحل إقربوشن المولود يوم 13 نوفمبر 1907 بقرية آث وشن بتيزي وزو، انتقلت عائلته إلى العاصمة سنة 1870 وتابع دراسته الابتدائية بالقصبة، محمد إقربوشن ذلك الفتى الراعي الذي أثار اهتمام الإنجليز، وهو في عمر الزهر استضافته أهم العواصم وأشهر المؤسسات السينماتوغراية العالمية، كان يميل إلى الموسيقى منذ سن مبكرة، واكتشف من طرف الكونت روث أحد النبلاء الإنجليز في ,1919 الذي كان صاحب ورشة مجاورة لمنزل أسرة إقربوشن بالقصبة، فسافر بذلك الفنان العملاق إلى إنجلترا مع الكونت، فباشر دراساته في التلحين ببريطانيا وقرر ''روث'' دفعه نحو المجد، فقاده إلى فيينا بالنمسا، أين تعمق في التلحين مع الأستاذ ألفريد غرنفيلد، كان مولعا بالناي منذ نعومة أظافره، حيث كان يلقب بالرجل الذي يحمل الناي، وتحولت حياة هذا القروي الصغير ليصبح يلقب بالمايسترو، كما أنه يتقن عدة لغات منها الإنجليزية، الألمانية، الإيطالية، الإسبانية، الفرنسية، العربية، الأمازيغية وغيرها.
في سنة 1928 قدم ثلاث (رابسوديات) بلندن، بعد أن تحصل على الجائزة الأولى للبيانو في فيينا سنة ,1926 كما أنشأ فرقة سمفونية كبيرة رابسودية جزائرية سنة 1935 حققت نجاحا كبيرا، إضافة إلى أولى سمفونياته القبائلية ''حفلة شرقية'' و''رقصة أمام الموت''، التي ألقها بين 1930 و1364 ووضع إقربوشن موسيقى فيلم ''قدور في باريس'' لـ''أندري ساروي'' وكذا العديد من الأفلام منها فيلم الجزائر ''عزيزة'' الفيلم الجزائر ''سيرتا''، غطاسو الصحراء وغيرها.كما ساعد الفنان عددا من مطربي الاغية القبائلية على غرار احسن مزاني، صورية نجيب، محمد حامل، الشيخ نور الدين وفريد علي الذي كان تلميذه، فألف له 50 أغنية قبائلية أشهرها لحن أغنية ''أيما صبر أورترو''، احتضنته السجون الفرنسية سنة 1944 بسبب انتمائه إلى منظمات وطنية. بعد خروجه من السجن لحن أشعار ''ألف ليلة وليلة؛ لـ''رابند راناث ثاغور'' وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وضع موسيقى للفيلم الشعبي ''مناعة الوحدة''، ''مدرسة متنقلة''، كما قام بإنشاء القناة القبائية بإذاعة باريس وغيرها من الأعمال التي لا تزال خالدة، واستمر عطاؤه في مجال الفن والثقافة إلى غاية ,1966 حيث انطفأت شمعته في سن التاسعة والخمسين بالجزائر العاصمة، بعد معاناته من مرض السكري تاركا وراءه أزيد من 590 مؤلفة موسيقية.

يستمد مجتمع المعرفة قوته وحيويته من الثورة العلمية والتكنولوجية، وما أحدثته من تطور هائل في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
اكتسحت منجزات تلك الثورة المتواصلة كل أنحاء العالم، وفتحت للإنسان آفاقا بلا حدود، وأسست لزمن حضاري جديد المشارك فيه فاعل وموجود، والغائب عنه مهمش ومفقود.
نعرف أن تلك الثورة وفتوحاتها الباهرة لم تحدث بالصدفة وفي التّو، فقد كانت نتيجة تراكم الخبرة والمعرفة في متصل تاريخي حضاري تنقّل شرقا وغربا، وتعاقبت أزمنته وأماكنه، فالتقدّم الحضاري لا يقتصر على عرق أوحد أو منطقة جغرافية دون غيرها، وليس أيضا من احتكار عقيدة دينيّة تقصى ما سواها، فالعقل أعدل قسمة وزعت بين الناس.
تخلصت بلادنا بتضحيات كبيرة من ظلم وظلام الإحتلال، ومضى ما يقترب من نصف قرن بعد تحرير الوطن، وودعنا القرن العشرين بحدوده القصـــوى في الخير والشــر، على حد تعبير إ. هوبزباون فيلسوف التاريخ البريطاني المُعاصر، في دراسته بعنوان عصر النهايات القصوى (The age of extrems)، وبقي في ربوعنا عدو لا يقل خطرا وتهديدا لحاضرنا ومستقبلنا، إنه التخلف في العقليات والهياكل وما يفرضه علينا من عجز وتبعية وأخطاء في التدبير والتسيير.
كيف تتدارك الجزائر ما فات وتعدّ العدّة لما هو آت في هذا القرن الجديد، ونحن ننهي عقده الأول؟
ما هي أفضل السبل لتذليل العوائق التي تحول دون تأسيس مجتمع المعرفة ونشرها واستثمارها لصالح الدولة والمجتمع؟ هل تؤدي أنظمة التعليم والتكوين والبحث وظائفها في إعداد رأس المال البشري صانع الثروة ورهاننا الحقيقي على المستقبل؟ ما هي حصيلتنا من النخبة صانعة ذلك المستقبل (Think Tanks)؟
هل هناك لدينا استراتيجية طويلة المدى لنقل العلوم والتكنولوجيات الحديثة وتمثلها، تمهيدا لتوطينها والمشاركة في إنتاجها على المديين المتوسط والبعيد؟
كيف تستفيد الجزائر من عولمة واثقة من نفسها وهجومية، وتساهم في تدفقها دون أن تفقد مميزاتها الروحية وخصائصها الحضارية؟
هل هيّأْنا بيئتنا المحلية في الريف والمدينة للحد من هجرة الكفاءات إلى خارج الأوطان وتمثُّل مستجدات المعرفة المنقولة لإحداث تغيير في العقليات والسلوكات لكي نتصالح مع ذاتنا الحضارية، ونستفيد من تجاربنا التاريخية وننخرط في عصرنا، فلا يكون تطوير المعرفة وتطبيقاتها من الكماليات والتّرف الفكري لنخب منفصلة عن واقع شعوبها، وكأن التخلف قدر بلادنا المحتوم.؟
1 الفجوة الرقمية
تجد التساؤلات السابقة نفس الإهتمام في معظم بلدان العالم الثالث بمبادرات من المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني، والإنشغال واحد، وهو كيف تخرج بلادنا من وضعية التخلف الموروث والمتراكم في كل لحظة بسبب التطور المتسارع للعلوم والتكنولوجيات؟ وما هي الآليات التي تمكننا من تجاوز الهوة المهولة أو الفجوة الرقمية التي تفصلنا عن موكب المقدمة الذي يقوده عصر الإتصال والمعلوماتية والجينوم؟ وما يعرف بعلوم المقدمة الخمسة وهي: المعلوماتية والتليماتيك والبيوتكنيك والالكترونيك والبيروتيك:
لا شك أن من دوافع هذا الإهتمام إدراك الكثير من النخب الفكرية والسياسية بأن معركتنا الحقيقية التي لا تقبل التأجيل والتردد ينبغي أن تكون ضد التخلف ومضاعفاته التي اعتقلت العقل ولوثت الروح.
يمثل التحكم في تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتوطين المعرفة التي أنتجتها، أحد أهم التحديات المطروحة علينا اليوم وفي مقدمة رهانات المستقبل للحضور في عصرنا وتطوير مجتمعنا، فإذا كان العلم مصدر الثروة وأساس القيمة المضافة، فإن إنتاج المعلومة وتوصيلها واستثمارها شرط لا غنى عنه للتنمية، والسلاح الأقوى لخوض السباق على الساحة الدوليّة وتكفئ الإشارات السريعة التالية لتبيان ما يفرضه علينا التحدي من إرادة وتعبئة للموارد والكفاءات، وما يتطلبه الرهان من جهد ووقت ينبغي أن يكون لصالحنا وليس ضدنا.
- أضافت المعلوماتية وشبكات الإتصال العابرة للقارات مشهدا غير مسبوق في تاريخ الإنسانيّة، يمكن من الناحية النظرية الحصول عليها واستخدامها في أي مكان في العالم، ويمكن لأي شخص أن يتلقّى من الشّبكة أو يرسل فيها ما يشاء من الرسائل في الموقع الذي يختاره، ونشهد اليوم مدى فاعلية وتأثير تكنولوجيات الاتصال التي تقارن بأسلحة الدمار الشامل.
أقول من الناحية النظرية، لأن كمّ وكيف المعلومات المرسلة يتوقف على مدى حيويّة الإنتاج المعرفي والإزدهار الثقافي والاقتصادي ويخضع بالتأكيد للخريطة الجيومعرفية التكنولوجية والجيوثقافية، بما فيها من ثروة لغوية وما تقدّمه أدبياتها العلميّة والإبداعية من اكتشافات واختراعات وفنون وآداب، وبهذه المقاييس، تحتل اللغة الإنكليزيـة أكثر من  70 % من كل ما يصدر ويتلقاه الناس على شبكات المعلوماتية والأنترنيت.
- يذهب كثير من العلماء والباحثين في تأثير العلوم والاكتشافات في التحولات التي شهدها العالم خلال القرن الماضي وما سيكون عليه الحال حتى سنة ,2100 ومن بينهم إريك هوبز باون (E.Hobsbown) وم.كاكو (M.Kaku) صاحب نظرية المجال الكمي (Quantum) والنانو، إلى أن التراكم العلمي الذي سجّله القرن العشرون وحده يساوي نصف تراث البشرية، منذ بدء الخليقة.
- وفي الإستفتاء الذي اشترك فيه ألفان (2000) من العلماء الحاصلين على جوائـز نوبل والمؤسسين لقواعد المعلومات عن أهم سمة ميزت نهاية القرن العشرين، وما هو الاكتشاف الذي يحرك التحولات فيما سيأتي حتى منتصف هذا القرن الواحد والعشرين، نشرت نتائجه سنة 1998 تحت عنوان تقرير دلفي (Delphy report 1998)، طلب الاستفتاء الإجابة على الأسئلة التالية:
هل أنّ السمة الغالبة والمؤثرة هي علوم الفضاء التي حررت الإنسان من الجاذبية؟ أم هي علم الأحياء الجُزَيْئي (Biologie Molucaire) الذي توصل إلى تحليل وتركيب الطاقم الوراثي (Génome) للكائنات الحيّة الذي يتكوّن من 11 مليار خليّة؟ أم هو الحاسوب وتكنولوجيات المعلومات؟ كانت إجابات أغلبيّة العلماء هي الحاسوب وتكنولوجيات الاتصال التي كانت القاطرة لكل الاكتشافات السابقة، ولجدها الأقرب الذي صنعته شركة أيْ. ب. إم. (I.B.M) سنة 1997 واسمه ''ديب بلو''، وهو يستطيع تحليل 200 مليون نقلة في الثانية.
2 الحداثة وما بعدها
- إن تكنولوجيا المعلومات والاتصال هي أساس مشروع ما بعد الحداثة الغربيّة، وهو مشروع يقوم من الناحية الفلسفية على فكرتين:
أولاهما أن العالم في حركية دائمة، وهو قابل للتطور والتقدم بلا حدود، وبالتالي فإن الماضي ليس كتلة صمّاء ونهائية، نتعامل معها عن طريق القبول بالجملة أو الرفض بالجملة، ومهمة النخبة العالمة والمفكرة هي القيام بحفريات في الماضي لتحويره والإضافة إليه والانطلاق دوما إلى المستقبل للغوص في أعماقه والتحكم فيه.
أما الفكرة الثانية فقد أنشأت فلسفة جديدة للتاريخ غيّرت التصوّر الدائري للزمن، وإمكانية تكرار أحداثه على نفس النمط، ووضعت مكان الكمال الثابت تصورا مغايرا يعتبر المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا غاية متحرّكة وليست وضعيّة مٌتشكلة بصورة نهائية في الماضي، ولا هي نموذج منفصل عن إرادة الإنسان وعقله، إنّ التقدّم حسب هذه الرؤية عمليّة مستمرة في الزمان، تقاس سرعتها بمدى كثافة وسهولة الاتصالات وتزايد المخزون المعرفي وتطبيقاته العملية، ومن أهمها البرمجيات Logiciels والإدارة الإلكترونية  (E.Government) وتطبيقاتها ومدى انتشار استعمالاتها داخل البلد الواحد وبين مختلف بلدان العالم.
3 مؤهلات في حاجة إلى تفعيل
إن الموقع الاستراتيجي للجزائر وما وهبها الله من ثروات باطنية ومخزون معتبر من الطاقة شريان الحياة الاقتصاديــة في العالم، تجعلنا مسرحا لصراعات الدول الكبرى ومصالحها الأنانية، وفي أحسن الأحوال مجرد أسواق لاستيراد التكنولوجيات الجاهزة مقابل استنزاف مواردنا غير المتجددة واستقطاب النخب المفكرة والمبدعة في العلوم والفنون والآداب وإغرائها بالهجرة إلى الخارج.
تتطلب مواجهة هذه التحديات الخطيرة والملحة، تفعيل الجهد العلمي والتنسيق الجيّد بين الهياكل المختصة مثل الجامعات ومراكز البحث للتغلب على احتكار المعرفة واختراق منطقة الحضر على التقانات المتقدمة والعمل بطريقة منظمة وذكية تحترم حقوق الملكية الفكرية والصناعية، وتضمن لنا في نفس الوقت الحق المشروع في المعرفة، مثل الحق في الحياة والحرية والكرامة.
إن نقل التكنولوجيا وتوطينها في الجزائر يتطلب توفر الآليات الضرورية للاستيعاب والتمثل في محاضن تكون مثل خلية النحل التي تمتص رحيق الأزهار لتنتج الشهد، وذلك وفق خطة محكمة لتطويع الخبرة المنقولة وتوظيفها لتلبية الحاجات الحقيقية للمجتمع، وتشجيع النخب التي تنتج الأفكار وإشراكها في بناء السياسات الداخلية والعلاقات الدولية، واكتساب التأهيل التقني) (Know-How) وغرسه في القطاعات المنتجة للثروة والاستفادة من تجربة اليابان ونمورها السبعة، والصين التي بدأت كلها بنقل التكنولوجيا الأروبية والأمريكية وتقليدها، ثم إنتاجها في مرحلة ثانية وتطويرها بعقول وخبرة نخبها والمؤهلين من إطاراتها، ونعرف أن صادرات اليابان وخاصة كوريا الجنوبية التي كانت في نفس وضعية الجزائر في سبعينيات القرن الماضي وبدون ثروات طبيعية تصدر اليوم، ما يزيد على كل ما تصدره البلدان البترولية العربية مجتمعة وثروتها الحقيقية هي الخبرة (soft-ware). كما نعرف أن الصين الشعبية التي كانت في ستينات القرن الماضي من بين البلدان المتخلفة، أصبحت في بداية هذا القرن قوة إقتصادية وتكنولوجية فاعــلة على المســرح الدولي وشريــكا فيمــا يعرف بالسلطة الثـلاثية (le pouvoir triadique) المتكون من شمال أمريكا (الولايات المتحدة وكندا) والاتحاد الأوربي وجنوب شرقي آسيا، وهي في طريقها قبل نهاية العشرية القادمة لأن تكون قوّة كونية (Global power)، وهو ما اعترف به وزير الدفاع الأمريكي روبيرت غيتس (R.Gates) في مجلة الشؤون الخارجية في نهاية السنة الماضية.
ليس هناك سرا أو عصــا سحرية، فالبــداية في كل تلك التجارب لخصها فرانسيس بيكون (F. Bacon) في منتصـف القرن 17 في كلمتـين؛ العلـم قـوّة (Knowledg is power)، وفسرها ميشيل فوكو (M. Focauld)، حسب الترتيب التالي: علم ـ قوة - ثروة (savoir ـ pouvoir- avoir) وكلها تتطلب مشروعا سماه العالم الألماني ماكس فيبر (M.Fweber) حلف التقدم بين النخب والدولة والمجتمع يحسب المدخلات (input) بمردودها من المخرجات (outpout) أي إنتاج الثروة المادية والمعنوية، ونضيف كذلك مشاركة كل الطبقات في الاستفادة من الناتج الوطني انطلاقا من معيار الكفاءة والاستحقاق والتكفل المؤسسي، وليس الإشهاري بالمحرومين لأي سبب موضوعي، باعتبارهم أولا من المواطنين، وثانيا لدوافع انسانية بحتة، بغض النظر عن أي انتماء آخر، واعتبار العمل قيمة عليا في المجتمع.
لبلوغ هذه الأهداف، لا بد من الإسراع بتصحيح بعض الأخطاء الشائعة وأولها الاعتقاد بأن استيراد منتجات العلم والتكنولوجيا في صورة سلع وخدمات يعني التطور والتنمية، فقد تأكد في مختلف تجارب البلاد النامية ومنطقتنا جزء منها، أن ذلك لا يعني أبدا امتلاك المعرفة التي أنتجتها أو تقبل العقليات والسلوكات الملازمة لها، بل إنها تؤدي إلى مزيد من التبعية والإتكال على الآخر.
أما ثانيها فيتمثّل في قلة العناية بالبحث الأساسي في العلوم الدقيقة وعلوم الإنسان والمجتمع، على اعتبار أن ذلك غير مجد، وأن البلدان المتقدمة تقوم بوضع الأنساق المعرفية بالنيابة عنّا، والحقيقة أن التقدم العلمي عملية مترابطة لا تنفصل فيها النظريات عن تطبيقاتها في مختلف مجالات المعرفة، ومن العجيب أن علم الإجتماع الديني متخلف جدا في الجزائر وفي كل البلاد الإسلامية، وأن البحث العلمي لأغراض مختلفة يحدث منذ مدة في العالم الأروبي الأمريكي، وليس لدينا أي مركز بحث للأوضاع والتطورات في بلاد قريبة جغرافيا منا ولنا معها علاقات اقتصادية وثقافية وانسانية، وعلى الأخص بلاد القوس اللاتيني (l'arc latin) إسبانيا - إيطاليا - فرنسا - البرتغال، بينما يهتم المختصون الفرنسيون بكل ما حدث ويحدث في الجزائر، ولكن القليل جدا من الجزائريين يدرسون الأوضاع السياسية والتفاعلات الداخلية وعلاقة ذلك البلد بمحيطه الأروبي والعالمي وبالجزائر، حيث يساهم جزائريون في تحليل وتفسير شؤون بلادهم في الجامعات ومراكز البحث والصحف والمجلات الفرنسية، ولذلك أسباب أشرنا إليها في مساهمات أخرى.
وأما ثالث تلك الأخطاء وأكثرها ضررا، فيتعلق من ناحية بالبطء في تطوير وتحيين مناهج ومضامين التعليم والتكوين وإبعاد العربية عن حركيّة التطور العام في المجتمع والتقدم الكبير في مختلف مجالات المعرفة، مما أدى إلى قلة التأليف والنشر بها في تلك المجالات والنقص الفادح في المراجع العلمية ذات القيمة الأكاديمية والتثقيفية، وقد أصبح ذلك النقص أحيانا عائقا حقيقيا للباحثين والمهتمين بمتابعة المنتوج الفكري والأدبي الغزير في العالم، وأحيانا أخرى ذريعة لبقاء الحال على ما هو عليه.
أما الرابع فهو تقصير يدعو إلى الأسف والخجل، ويتصل بحصيلة المنطقة كلها في ميدان الترجمة، حيث تجمع التقارير المنشورة على الصعيد الدولي ومن آخرها تقرير التنمية في البلاد العربية لسنة 2010 الذي أصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP) أننا في ذيل القائمة، حتى بالنسبة لبعض البلدان النامية، فضلا عن بلدان أخرى صغيرة في حجمها السكاني وإمكانياتها في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولن نتدارك هذا النقص والقصور الفادح بالاكتفاء بالتنويه بأهمية الترجمة وإصدار اللوائح والتوصيات في المؤتمرات والندوات، فنحن لا نبالغ إذا اعتبرنا الترجمة والتكوين الجيّد للمختصين فيها، الطليعة الكشافة للطريق إلى مجتمع المعرفة والطريق الممتاز للحوار والتبادل بين الثقافات.
4 خلاصة
إن معاينة وضعية التخلف لا تعني الاستسلام لواقع الحال والاكتفاء برثاء الذات وهجاء الآخر، فقد أدرك الكثير من نخبنا الفكرية والسياسية أن اكتساب المعرفة وتنمية الخبرة، هما قارب النجاة والذخيرة الحية الحقيقية لبناء قدراتنا الذاتية وضمان أمننا وازدهار بلادنا.
ينبغي أن تتواصل جهود الدولة وجمعيات المجتمع المدني لإصلاح نظام التربية والانتباه لما يسمى التحصيل الوهمي (Illusion of achievement) أي توزيع الشهادات بدون مقابل حقيقي من التأهيل العلمي والتقني، ودعم التكوين المستمر والحد من التسرب المدرسي والتخلص من آفة الأمية وتوديع آخر أمي في العقد القادم، والأمية لا تعني اليوم أمية الحرف فحسب، بل تعني أيضا مدى انتشار وسائل الاتصال والتثقيف الحديثة، وفي مقدمتها المعلوماتية والأنترنيت والقدرة على استخدامها.
ينبغي أن يكون تطوير قطاع التربية والتكوين والبحث العلمي في صدارة أولوياتنا الإستراتيجية، فهو المنبع والمصب لتوطين المعرفة ونشر منتوجها  بين عامة الناس.
إن الطريق للخروج من التخلف يبدأ بالوعي بأن قوة الدولة بقوة مجتمعها، ولا قوة ولا مكانة لبلادنا إلا إذا حظيت النخب المفكرة والمبدعة بالرعاية في مناخ من الحرية، في ظل حكم راشد يسـوده الأمن ودرجة من التجانس المجتمعي وتحترم الخصوصيات المحلية، فالتنوع الثقافي مصدر ثراء يعزّز الوحدة الوطنية وهي ثابت قوتنا الأول في الحاضر والمستقبل.



سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)