الجزائر

الثورة . . في مسرح الثورة . . .



بعد أيام قليلة ، يهل علينا العيد ، عيد الاستقلال والشباب ، عيد نستذكر فيه الأشاوس والصناديد ، وصنيعهم الملحمي إزاء مستدمر جبار عنيد، عاث في الأرض فسادا ، فأهلك الحرث والنسل ، وخلف مليونا ونصف المليون شهيد . . في الذكرى ، يؤرقنا تذكر المشهد البئيس الذي طبع حياة الآباء والأجداد ، لأكثر من قرن من الزمن ، ورسم معالمه بالنار والحديد ، دعاة الإخاء والحرية والمساواة .. وفي الذكرى أيضا ، نستحضر صنيع أيقونة الفن الجزائري ، فرقة جبهة التحرير الوطني الفنية ، التي انضوى تحت لوائها لفيف من الفنانين المؤمنين بعدالة القضية الوطنية ، وواجب الدعاية والترويج لها ، بوسيلة الفن ، في مختلف المحافل الثقافية بالساكنة . والمسرح ، من باب أبوته الشرعية للفنون جميعها ، ودوره الرسالي ، سعى بما أتيح له من هوامش ومساحات ، انتزعها وانتهزها ليعبر ، جادا وهازلا ، عن جديته في تصوير الواقع الأليم الذي صمم يومياته الهزيلة المستدمر الأثيم بسياساته وآلياته ، قاصدا استئصال الجزائر من جذورها الهوياتية الأصيلة ، واستلاب أراضي الجزائريين وأعراضهم ..إن المسرح ، هذا الفن الذي تأخر الجزائريون في اكتشافه ، بفعل الظروف التاريخية المختلفة، إلى غاية مطلع القرن الماضي ، سعى رجالاته أمثال : علالو ، بشطازي وقسنطيني من البدايات الأولى ، إلى تضمين مسرحياتهم موضوعات اجتماعية ، في قوالب كوميدية ، تستجيب لاهتمامات وتطلعات المعيش اليومي البسيط للجزائريين ، فكانت شخوص مسرحياتهم على شاكلة النماذج الراسخة في المخيال الشعبي المحلي والعربي من أمثال : جحا ، وأشعب في سعيها عبر الحيلة والتطفل لإثبات الذات ، وكسب القوت يومي .. ومع تنامي الوعي بالقضية الوطنية فيما بين الحربين العالميتين ، وجهود أعلام الإصلاح والتربية في الجزائر ، وانتشار الكتاتيب والزوايا والمدارس الحرة عبر الوطن ، أخذ المسرح بعدا دعويا ودعائيا ، وتواتر مع الوعي الراهن للجزائريين ، ونضالهم المستميت لأجل الحق في الحياة الكريمة في رحاب جزائر جزائرية .. وضمن هذا السياق ، تندرج على سبيل المثال مسرحيات : حنبعل لتوفيق المدني ، ومسرحية الناشئة المهاجرة لمحمد صالح رمضان ، ومسرحية العقاب لرضا حوحو، ومسرحية التراب لأبي العيد دودو ، وغيرها من المسرحيات ، التي تشتمل مضامينها – رغم رمزيتها – على فكر تنويري تثويري، يستهدف إيقاظ الشعور الوطني وضرورة الحد من الاستعباد الذي طال الجزائريين أمدا طويلا .. وبالرغم الخناق والتضييق الذي فرضته السلطات الاستعمارية على الكتاب والفنانين والمثقفين ، واصل المسرح تفاعله مع معاناة الجزائريين ، وتجسد ذلك في مسرحيات ظهرت قبيل و أثناء الثورة التحريرية مثل : يوغرطة ، الطغاة ، الباب الأخير .. وقد تم إحصاء أكثر من 160 مسرحية اقتبست و ألفت فيما بين 1945 و 1956 بالعربية الفصحى والدارجة ، وأغلبها ذات طابع ساخر هادف .. لقد واكب المسرح الجزائري الثورة التحريرية منذ اندلاعها ، وأسهم فعليا في الدعاية لها ، من خلال تمجيدها ، و تسجيل أحداث بعينها ، تعبر عن بطولات المجاهديين والفدائيين ، وتضحيات الأطباء والممرضين والنساء ، الذين استجابوا لنداء أول نوفمبر وانتهجوا دروب الجهاد والاستشهاد في سبيل انعتاق الجزائر من قيد المستدمر الغاشم .
إن ثورة المسرح الجزائري ورجالاته ، المثبتة في كتاباتهم و أعمالهم ، الفصيح منها والدارج، تمثل ظاهرة فنية فتية تستوجب التفات الباحثين والأكاديميين إليها ومدارستها ، وتستدعي اهتمام وتقدير المجتمع برمته لها ، لأنها بحق ثورة على التجهيل والمسخ ، وعلى الكبت وغسيل المخ و التألم في صمت .. ثورة تغذت من فكر وشعر ونثر الإصلاحيين والتقدميين من أبناء هذا الوطن .. ثورة أهلت العقول والنفوس و الأبدان وأعدتها إعدادا روحيا للثورة الفصل : غرة نوفمبر التي سيظل المسرح يحتفي بها كلما أزفت ، لأنها حررته، وأعتقت البلاد من طبائع الاستبداد ،التي تتنافى و فطرتنا المتأبية على الاستعباد ...


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)