الجزائر

التعاطف معم سلوك منقرض



صبرتْ زوجتي أياما متتالية وهي تتفاعل مع كمّ هائل من عبارات الشجب والاستنكار والتعاطف والبكاء على الرئيس الراحل.. لقد شكّلت مساحات التلاقي والتزاور في عيد الأضحى المبارك فرصة لتتضخّم الأحاديث والقصص وتتضاعف وتيرة التبشير بالويل والثبور وعظائم الأمور بعد إعدام هرم الأمة وحاميها وصانع انتصاراتها ومهندس أمجادها.. ثم نفذ صبر زوجتي فصاحت في وجهي غاضبة: حزن جميع الناس إلا أنت، وكأنّ الأمر لا يعنيك من قريب أو بعيد.إنها حادثة إعدام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين قبل بضع سنوات.. لقد كان قرار الإعدام أمريكيا، أما التنفيذ الميداني فكان عراقيا على يد مجموعة شيعية تقول إنها ذاقت ألوان المصائب إبّان حكم صدام حسين، ومن ذلك إعدام والد زعيم تلك الجماعة المثيرة للجدل، أما التوقيت فاختار القوم له عيد الأضحى المبارك، وهو ما زاد من مرارة الخبر وشدّة وقعه على المتعاطفين مع صدّام والمناوئين للأمريكيين المحتلّين ومعهم الإيرانيين المستفيدين من تناقضات وثغرات الوضع الجديد.
قضيتُ أيام العيد في قريتي، والحديث والتواصل المتواصل من طبائع أهل القرى؛ فهم يتحدثون مع بعضهم طوال الوقت، فكيف والحدث جسيم وهو إعدام (البطل) صدام حسين، الذي لعب عددا من أدوار البطولة منذ تولّيه حكم العراق عام 1979.. لقد كان (بطلا)عندما أشعل حربا عبثية ضدّ جارته إيران، وبعدها توجّه إلى الكويت فاحتلها، وعندما اجتمعت عليه جيوش الشرق والغرب لإجباره على مغادرة الكويت كان مثال (الصمود)، وحتى يمثّل دور البطولة بامتياز؛ هدّد إسرائيل وأطلق عليها فعلا عددا من الصواريخ، وفي سنوات الحصار الطويل، وبينما كان الشعب العراقي يكابد الويلات؛ كان الرجل يمثّل دور (السدّ المنيع) أمام المخططات الغربية الرامية إلى احتلال المنطقة.. أما قبيل الغزو الأمريكي للعراق، ثم القبض على الرجل ومحاكمته؛ فحدّث عن (بطل الأمة) ولا حرج؛ لقد كان صدام هو (المهدي المنتظر) الذي سيخلّص العرب من شرّ الأمريكيين، ويملأ الأرض عدلا ويفيض تحت راية سلطانه السمنُ والعسلُ.
قدّرتُ موقف زوجتي ورحت أحدثها بهدوء عن بعض ما أعرفه عن صدام حسين ونظامه الاستبدادي.. حدثتها عن النزاع مع إيران ومقدّرات العراق التي دمّرها الرجل من خلال مغامرات غير محسوبة وحروب بالنيابة عن الآخرين.. وحدثتها عن خطيئة احتلال الكويت وكيف كانت مفتاح شرّ على الأمّة وسببا مباشرا لدخول القوات الأجنبية إلى المنطقة لتظل هناك حتى الآن.. وحدثتها عن أشكال القهر والهوان التي ذاقها الأكراد في شمال العراق.. وختمت بنمط من أنماط القهر (ماركة مسجلة لصدام حسين) سمعته من زميل عراقي.
ذلك النمط (المميّز) كان أثناء الحرب العراقية الإيرانية التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الجنود العراقيين، وكان من الطبيعي أن تحدث حالات فرار من الحرب، ويمكن الحديث، بتحفّظ، عن شرعيّة تعقّب أولئك الفارّين ثم محاكمتهم عسكريا لأن الانضباط هو أساس الجيوش القوية قديما وحديثا.. لكن ما الذي كان يحدث عندما يتم القبض على أحد الفارّين من جبهات القتال؟.. كان يُقتاد إلى حيّه أو قريته ويتم إجبار أهله على الخروج لمتابعة مشهد الإعدام كاملا.. لكن، هل ينتهي الأمر عند هذا الحد؟..
لا.. فما زال في جعبة (العباقرة) الكثير.. إن عيون الأهل تذرف دموعا غزيرة وقلوبهم تكاد تتمزق من لوعة ونمط الفراق، ومع ذلك يتقدم الضابط (المغوار) ويطلب من أهل الجندي القتيل دفع قيمة الرصاصات التي أطُلقت عليه.. لماذا أيها (الألمعي)؟.. لأن الابن (الخائن) لا يستحقّ تلك الرصاصات والدولة لا تتحمّل ثمنها.. ويدفع الأهل مبلغا من المال مقابل النار التي أزهقت روح فلذة كبدهم لأن الرفض قد يجرّ إلى مصائب أخرى.. وختمت كلامي: ليس في طاقتي التعاطف مع رموز الاستبداد مهما كانت روعة (أدوار البطولة) التي مثّلوها في آخر حياتهم، صدقا أو كذبا.
الحديث حول صدام حسين يعود إلى واجهة الذكريات هذه الأيام بعد الجدل الكبير الذي ثار حول معمّر القذافي والطريقة التي رحل بها، خاصّة أن بعض الأقلام ذهبت بعيدا في تعداد فضائل العقيد وأفضاله على شعبه والأمّة، وقد كتب أحدهم عن ذلك القائد الذي (حكم ليبيا بأنفة عمر المختار الذي واجه بجهاده الإيطاليين حتى لقي ربه شهيدا)، وأسهب صاحب ذلك القلم في الكلام عن تعذيب القذافي وقتله وسكوت العالم عن هذه الجريمة المنكرة.
كنت أعتقد أن الثورة الإعلامية التي نعيشها قد أسقطت جميع الأقنعة الزائفة ورفعت الغشاوة عن الأبصار، وبالتالي فإن التعاطف مع القذافي سيكون شبه منعدم خاصة بعدما ظهرت صورته واضحة من خلال سبابه وشتائمه وعشوائيته في إدارة المعركة الإعلامية مع المعارضة، (فضلا) عن تاريخه الدموي الطويل مع شعبه ومغامراته وتصرّفاته الجنونية التي كلّفت ليبيا الكثير.. نعم في وسعنا أن نستنكر القتل الوحشي والتعذيب فقط، لكن دون تعاطف مع المستبدّ فهو سلوك شائن صار في عداد المنقرضين.
الوضع في سوريا لا يختلف كثيرا؛ فما زال البعض يربط مصير الوطن بالرئيس، حتى إن قناة فضائية سورية كتبت تحت صورة بشّار الأسد: (اللّي ما يرضى بشار نور عينيه، ما نرضى به تراب تحت رجليه).. هكذا والله.. فأيّ تطرّف في (الحبّ) أو (الذل). يمكن أن نتفهّم هذا (المنطق) في دول ملكية حيث الغناء لحياة الملك ووليّ عهده ولو كان في المهد، ونقدّر مشاعر بعض الشعوب التي عاشت عشرات السنين، بل مئات، تحت حكم الملوك.. لكن غيرهم غير معذورين، ولا بد لهم من ثورة وجدانية شعورية تعلن طلاقا بائنا مع أزمنة التعاطف مع المستبدّين، مهما كان حجم المواهب والإنجازات التي يدّعونها لأنفسهم.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)