الموقع التاريخي لمدينة المغير :
الموقع الإستراتيجي للمغير اعتبر نعمة لها من الناحية الجغرافية لما يحمله من مزايا لكنه في نفس الوقت اعتبر نقمة لها تاريخيا ، فقد كانت ولا زالت البلدة مجهولة و لم تسلط عليها أضواء الباحثين و المعلومات عنها شحيحة جدا رغم دورها البارز في العلم و التجارة خصوصا في القرن السادس عشر الذي عرف حركة ثقافية و علمية فريدة ، حتى ابنائها عبر الزمن لم يكلفو أنفسهم الكتابة عنها و نفض الغبار عن تاريخها و تراثها رغم أنها كانت ثاني أكبر مدن وادي ريغ بعد تقرت من حيث العمران و الكثافة البشرية و عدد النخيل و هذا ما ذكره الرحالة الليبي محمد بن عبد الجليل حين زار المنطقة ، هذا التجاهل لم يكن مقصودا بل كان تحصيل حاصل فالمغير تتوسط كما قلنا ثلاث مدن تاريخية و كانت في كل مرة تتبع سياسيا إلى واحدة منهم ، هذا ما جعل الباحثين في تلك المدن لا يركزون عليها لأنهم يرونها مختلفة عنهم و لا تتبع السياق التاريخي لأي مدينة من تلك المدن و هي كذلك فعلا و هذا راجع إلى الإشكالات التاريخية التي تلاحقها حول هوية سكانها المتضاربة ، وهذا ما يلاحظه أي باحث يحاول النبش في تاريخ المنطقة حيث أنه هناك العشرات من الروايات حول تأسيسيها و نسب سكانها الأوائل ، وفي ضل غياب توثيق واضح انتشرت تلك الرويات و غذت ذلك الفراغ ، بالإضافة إلى طبيعة ساكنيها حيث كانو يمارسون على أنفسهم سياسة العزلة أي أن أحتكاكهم بالعالم الخارجي كان محدودا و حركة التنقلات قليلة ، كل هذا كان جراء تغلب الفكر الصوفي القائم على الإكتفاء الذاتي في كل شيء و التشبث بالعادات و التقاليد الدينية و الاجتماعية ، لكن هناك شواهد باقية إلى يومنا هذا يمكن أن تكون المفتاح لوضع أسس علمية تبين تاريخ المدينة العريق .
من هنا نطرح سؤالا هل قامت حضارة على هذه الأرض ؟ لو تتبعنا الكتب نقول أنه ليس هناك أي أثر لحضارة أو أدلة على قيام مستعمرة بشرية كبيرة بمنطقة المغير فقد تحدث لنا بعض المتتبعين أن عمر المنطقة منذ أن سكنتها أول مجموعة بشرية كبيرة نسبيا هو خمسة قرون ، لكن هذا لا ينفي وجود مستعمرات منذ بدايات الهجرات الكبرى للإنسان على محيط الشط أو بمحاذاة الوديان لأن المنطقة تعتبر مليئة بمقومات الحياة البشرية و اعتبرت منطقة عبور يتوقف عندها الرحالة و القوافل و الحجاج القادمين من الغرب منها منطقة تمدونت التي طمرت جراء العوامل الطبيعية و استحوذ شط مروان على اغلب معالمها وذلك استنادا إلى الأبحاث التي قام بها الضابط الفرنسي جونفوت أثناء تنقيبه عن المياه في هذه المنطقة ، حيث اكتشف آثار تاريخية هامة في لورير بالقرب من قبة سيدي المخفي على الضفة الغربية لشط ملغيغ ، و يأتي في المرتبة الثانية من الأهمية بعد موقع كدية سيدي يحيى، حيث اكتشف فيه نفس الأدوات التي اكتشفت في هذا الأخير، كالحجارة المصقولة بيد الإنسان، و الصوان الذي وجد مشتتا على الأرض ، و في ضواحي قرى أولاد موسى وبئر مروان وجدت أيضا سهام، مسامير، وكمية معتبرة من الصوان المحدد، وبيض النعام، و الصدفات . و بالقرب من بلدة سيدي خليل ، اكتشفت في قرى القلعة والحمد وبوهرارة ولشلوش و عين دكارة، أدوات تعود لفترة ما قبل التاريخ، تمثلت في سهام، ومحك (مكشط)، و شفرات مديات برؤوس محددة وبقايا بيض النعام و حجارة مصقولة غطّت جميع هذه القرى .
كما ذكرت المنطقة و التي اشتهرت قديما بفضل الشطوط و السبخات التي تحتويها في الأساطير اليونانية القديمة و الرحالة الأوائل كهيرودوتس و سكيلاكس و بومبونيوس ميلا تحت إسم تريتون أو بحيرة تريتون (تريتون وهو المعبود البحري الذي عبده سكان السواحل والجزر اليونانية قبل بوسيدون. ) و ذكرو أن هناك مدنا أقيمت على ضفاف هذه البحيرة الكبيرة و على جزرها التي جفت فيما بعد و تحولت إلى بحيرات و سبخات (بحيرة تريتون عبارة عن بحر، داخلي صحراواي. وصفه أبو التاريخ الرحالة الإغريقي هيرودوتس أن له ثلاثة منافذ إلى البحار المجاورة. وهي مغمورة تحت كثبان العرق الشرقي الكبير و المنخفضات المجاورة له . إحدى المنافذ يتجه نحو البحر المتوسط شمالا عبر مجرى وادي الشلف و الثاني يتجه إلى المحيط الأطلسي غربا عبر ممر تازة في المملكة المغربية والثالث يتجه إلى سرت الصغرى خليج قابس الجمهورية التونسية عبر شط فجاج، جفت بعض أجزاءها وبقي بعض الأجزاء الأخرى على شكل أحواض منها الهضاب العليا و حوض غدامس وحوض إيليزي ووادي ريغ و قد أشار هيرودوتس في كتابه الرابع في فقرته 176 عن الأصول الأسطورية للحوادث والشخصيات والشعوب والقبائل والجغرافيا التي توجد على ضفافها مدن مفقودة قامت ثم زالت وهي اليوم تحت كثبان رمال العرق الشرقي الكبير الذي يعرف محليا ب "الواعر")، تلك المدن حسب الأساطير كانت تحتوي على موانئ ضخمة و نقاط تجارية كبيرة أهمها مدينة النحاس بخليج قابس و هي نقطة تلاقي مياه البحر بمياه بحيرة تريتون الكبرى ، هناك رواية أخرى تقول أن منطقة الشطوط هي جزيرة أطلانتس الأسطورية ، (أطلانتس إسم لجزيرة عرفت بهذا الإسم قبل الطوفان عندما كان شمال أفريقيا عبارة عن جزر تحيط بها المياه بسلسلة جبال ألأطلس بين الجزائر وتونس ) وقد تحدث عنها المؤرخ هيريدوتس وأفلاطون 435 ق م وديودورس الصقلي ، و ذكرها أيضا الرحالة العرب كالإدريسي و التيجاني و غيرهم تحت اسم بحيرة فرعون و كانت هناك أساطير عربية و يهودية أيضا تذكر أن المنطقة هي أرض سيدنا لوط و هناك من قال أنها أرض سيدنا ابراهيم ، و ذكر أيضا في كتاب التوارة تسمية بحر سوف تدعي بعض الطوائف اليهودية أن المقصود به منطقة الشط و يعتبرونه لحد اليوم من بين الأماكن المقدسة المنتشرة في العالم التي لها علاقة باليهودية و لهم في ذلك العديد من القصص
كانت المغير في مرحلة ما تستقطب العديد من العلماء و الزهاد للتعليم و التدريس بها لما لقوه من إقبال و إجلال للعلم و العلماء ، إلا أن أثرهم اندثر و مجهودهم ضاع لعدم تدوينه فقد شهدت المنطقة حركة ثقافية و علمية اعتمدت أساسا على التلقين الشفهي الذي كان شائعا لقلة وسائل التدوين و ندرة العارفين بالكتابة ، تعتبر المغير جزء لا يتجزأ من الحضارة التي قامت بوادي ريغ قبل الجلابيين و أثناء حكمهم ، وكل ما حدث بتقرت و قصورها و قراها كان ينعكس على المغير ، قلما ذكرت المغير بالاسم عند الكتاب الأوائل المهتمين بهذا الشأن كإبن خلدون أو ياقوت الحموي إلا رمزا وهذا دليل على أنها لم تكن ذات مكانة تجعلها تذكر . ولم تذكر أيضا عند المؤرخين و الكتاب المعاصرين الذين أسهبوا في الكتابة عن المنطقة مثل كتاب الصروف في تاريخ الصحراء و سوف لمؤلفه الشيخ إبراهيم محمد الساسي العوامر. الذي ذكر فيه عديد التفاصيل حول المنطقة و لم يأتي على ذكر المغير إلا رمزا ، أما الشيخ محمد الطاهر بن دومة في مخطوطته أخبار و أيام وادي ريغ ذكر فيه كل المناطق تقريبا من اولاد جلال الى أواخر ورقلة و لم يفصل كثيرا حين يذكر المغير ، وجدنا كلمة المغير مذكورة في كتاب معجم البلدان لكاتبه ياقوت الحموي حين تحدث عن المنطقة كلمة واحدة فقط منطقة المغير الوثنية يعني أهلها عبدة الأوثان كما ذكر أيضا أن أهل المنطقة كانو يعبدون التيس وذلك أثناء قدوم أولى طلائع الفتح الإسلامي الذين لاحظو ذلك ، ما لاحظناه في هذه الكتب و المخطوطات أن هناك جملة كانت تتردد كثيرا و هي أطراف سوف الشمالية و أطراف قصور تقرت الشمالية ربما كانت تعني المغير و ما جاورها و تجدها مرتبطة أي هذه الأطراف دائما بالمجهول و كأن كتاب هذه الملاحظات لم تكن لهم دراية مطلقا بما يحدث بتلك المناطق فهي معروفة بجمادها و ليس بعنصرها البشري .
تاريخ الإضافة : 09/05/2023
مضاف من طرف : chettiali57
صاحب المقال : شطي علي
المصدر : - ري الغليل في أخبار بني عبد الجليل ، ص 32 / سنة 1852، لكاتبه محمد بن سلطان عبد الجليل بن غيث + - دكتور معاذ عمراني ، مقال بمجلة المعارف و العلوم و الدراسات التاريخية العدد 16 من ص 313 + - أ د . إبراهيم العيد بشي قسم تاريخ جامعة الجزائر ، مقال بعنوان ثلاثة مدنيات مفقودة في صحراء الجزائر ، مجلة الدراسات الإفريقية 2015 العدد 2/ص 49الى69