منذ أسابيع قليلة ماضية، قام تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي بتصنيف الدولة الجزائرية في طليعة الدول التي تتحكم فيها أنماط الفساد متعدد الذيول الذي يوجه ضربات قاضية متتالية للتنمية الوطنية، وفقاً لهذا التقرير، فإن هذا الفساد البنيوي المستشري في مفاصل مختلف المجالات يشمل المعاملات البنكية، والبيروقراطية الإدارية، وعدم احترام الملكية الفكرية على نحو خاص، وغياب الفاعلية في المؤسّسات التابعة للقطاع العام وللقطاع الخاص معاً، أما ترتيب الجزائر عالميا في سلمّ المنظومة التعليمية بكل أنواعها، فإن تقرير المنتدى العالمي يعتبرها في ذيل القائمة.في صدارة العراقيل الأساسية التي تعرقل ازدهار السياحة الأجنبية وعقلنة الاستثمار الأجنبي في الجزائر غيابُ فن وثقافة السياحة، والأساليب العصرية لإدارة المصاريف البنكية إدارة متطورة على أسس الكفاءة العالية ووفقاً للمعايير الدولية، فيما يخص سرعة وسلاسة فتح الحسابات، وتحويل المبالغ المالية من طرف السياح، والمستثمرين الأجانب، والعمال الجزائريين المقيمين في المهاجر الأجنبية وبشكل خاص في المهاجر الأوروبية الغربية، حيث يعمل مئات الآلاف من أفراد الجالية الجزائرية.وبخصوص هذه النقطة المهمّة فعلا، فإنه ينبغي التوضيح أن عملية تحويل العملة الصعبة من الدول الأجنبية إلى بلادنا تخضع لبيروقراطية فولاذية ومرعبة فعلا من جهة المسؤولين عندنا طبعا. مثلا، في الوقت الذي يستغرق وصول المبالغ التي تحول عن طريق البنوك، (وليس عن طريق "ويسترن يونيون" المكلِّف جدا والمستغِلّ والجشع)، من فرنسا أو ألمانيا إلى أي دولة أوروبية أو غربية، أو إلى الصين أو اليابان أو سنغافورة يوما واحدا أو أقل، فإن التحويل إلى الجزائر يستغرق مدة تتراوح نظريا بين أسبوع إلى13 يوماً، ولكن في الواقع العملي، فإن الأمر هو غير ذلك، حيث يتم التلاعب في البنوك الجزائرية بطرق غريبة مما يؤجل تسلم المستفيد من التحويل وقتا أطول، يصل أحيانا إلى أكثر من ثلاثة أشهر، وأكثر من ذلك فإن البنوك الجزائرية، بما في ذلك البنك الخارجي الجزائري، لا تسلّم في بعض الأحيان المبلغ المحوّل لصاحبه كاملا، حيث تلجأ إلى تسليمه له بالأقساط، ويُفسَّر هذا السلوك المماطل والمنافي للأخلاق تفسيرات عدّة، منها قيام بعض المسؤولين في هذه البنوك بتوظيف مبالغ بالعملة الصعبة في السوق السوداء لمدة من الزمان لجني فائدة غير لصالحهم، ولا أحد يحاسبهم على ذلك.وفي الواقع، فإن المصاريف البنكية التابعة للدولة الجزائرية، أو البنوك الأجنبية المرخّص لها بالعمل في الجزائر التي تصاب فورا بعدوى التخلف في مهجرها الجديد هنا عندنا، تتميز بأنها بدائية من حيث التعامل مع الزمان، ومتخلفة جدا من حيث تسهيل التواصل مع الزبائن، كما أنها مصفحة بالعراقيل البيروقراطية الرهيبة فعلا، إضافة إلى ما تقدم من عناصر التخلف في عقر البنوك الجزائرية أو العملة في الجزائر، فإن هذه المصارف لا تملك مساحة حرية الحركة في إطار قانون يحمي الاقتصاد الوطني وأخلاقيات إدارة المال، ويستجيب في آن واحد لحقوق الناس المتعاملين معها، سواء في داخل الوطن أو من الخارج.هناك ظاهرة أخرى شديدة السلبية ينبغي الاشارة إليها وتتمثل في كون المصارف العاملة في الجزائر، سواء كانت تابعة للدولة أو للقطاع الخاص الأجنبي، تفرض حصارا مرعبا على حركة الأموال بالعملة الصعبة من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل؛ فالسائح الجزائري الذي يزور بلدا من البلدان يُسمَح له بمبلغ مجهري هو عنوان الفقر والاهانة ويقدر ب 120 أورو الذي لا يكفي ليوم واحد، وإذا تعرّض هذا السائح المواطن، مثلا للمرض أو للسرقة في البلد الأجنبي فممنوعٌ على أهله، أو على أصدقائه، تحويل أي مبلغ إليه بالعملة الصعبة بطريقة شرعية وعلى جناح السرعة من أجل توفير الأمن المالي له وإنقاذه من التسوّل والضياع.إن نفس الشيء يقال للأسف عن الجزائريات والجزائريين المصابين بالأمراض الخطيرة التي لا يتوفر علاجها في الوطن، حيث نجد هذا النوع من المواطنين يستنجد ببعض الذين يملكون المال بالسوق السوداء، أما الفقراء وهم الأغلبية طبعا فيستسلمون للمرض الذي يفتك بهم. في إطار تشخيص عجز الجزائر عن العمل بالثقافة البنكية العصرية والمتطورة، فإنها لا تملك سياسات بنكية خارجية كأن تؤسّس بنوكا للاستثمار بكل أنواعه في الدول التي تُعتبر مراكز اقتصادية ومالية عالمية، أو في الدول حيث توجد جاليات جزائرية وعربية بالملايين أسوة ببعض دول من العالم الثالث مثل جنوب إفريقيا، ومصر ودول الخليج مثلا.بخصوص الاستثمار الأجنبي في الجزائر، فإنه يلاحظ أن المسؤولين عن الاقتصاد الوطني لا يملكون برنامجا واضحا، وشفافا، ومحدِّد المعالم، وجراء هذا النقص الفادح أصبح الاستثمار الأجنبي في الجزائر خاضعاً للمزاج في الغالب، ومحصوراً فقط في ميدان النفط والغاز، وعلى نحو أقل في مجال البناء وفتح الطرق.وفي الواقع، فإن الاستثمار في الجزائر محكومٌ بعلاقات أشخاصٍ متنفذين بالمستثمرين الأجانب أفرادا ودولا؛ أي بمدى خضوع هؤلاء الأفراد لشروط تقاسم الأرباح سريا وبطرق ملتوية بينهم وبين شخصياتٍ نافذةٍ ومتحكمةٍ في القرار. أما على مستوى الدول الأجنبية، فإن منح مشاريع الاستثمار لها مشروطٌ أساسا بالمصالح الخاصة لبعض المسؤولين عندنا، أو بسكوت هذه الدول الأجنبية مثل الصين، وروسيا، وأمريكا الرسمية، وفرنسا وعدد من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى على التجاوزات التعسفية الحاصلة في مجالات حرية التعبير، والتجمع والمظاهرات السلمية، وعلى عدم احترام التعددية الحزبية ومعايير الديمقراطية.تفيد الوقائع الملموسة أن الكثير من الشركات الأجنبية المستثمِرة في الجزائري غير مقيدة بقوانين فاعلة حقا تحمي حقوق الأيدي العاملة الجزائرية الرخيصة مثل تحديد سقف المرتبات، والترقية، والتقاعد، وعدم الطرد التعسفي.. فضلاً عن غياب ضبط معايير نوعية الانتاج وفقا للمعايير الدولية، وفي هذا الإطار فإن الكثير من الشركات الأجنبية المستثمِرة حاليا في الجزائر تتصرف باستقلالية وكأنها دولٌ صغرى داخل فضاء دولة الجزائر. وأكثر من ذلك، فإن معظم الصفقات المتوسطة والكبرى والمقدّرة بمئات ملايين الدولارات تخضع مسبقا لمقاييس غير شفافة، حيث أن إبرامها رسميا يكون مشروطا بالرشوة وضمان نسبة مالية تذهب بسرية تامة إلى حسابات بعض المسؤولين الجزائريين، ولقد حدث ولا يزال يحدث هذا النمط من الفساد أمام مرأى معظم الأحزاب التي تكتفي بالعتاب حينا، وبإعطاء الدروس الفضفاضة في أخلاق إدارة شؤون الدولة حيناً آخر.هوامش:* معظم الصفقات المتوسطة والكبرى والمقدّرة بمئات ملايين الدولارات تخضع مسبقا لمقاييس غير شفافة، حيث أن إبرامها رسميا يكون مشروطا بالرشوة وضمان نسبة مالية تذهب بسرية تامة إلى حسابات بعض المسؤولين الجزائريين.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 06/06/2015
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : عمر أزراج
المصدر : www.horizons-dz.com