الجزائر

"البلاد" في زيارة خاصة لبيت سيدة المسرح الجزائري نورية قصدرلي : كنت خياطة.. وهذه حكايتي مع "رويشد" وكلثوم و"بوبقرة"




- زوجي رفض فني ومصطفى بديع شجعني على التمثيل رغم أميتي
- بوتفليقة يحبني ويدعم الفن وبومدين وبن بلة كانا يهتمان بي دوما
- كانوا يخصمون من أجورنا لتسليح الجبهة وتمويل معهد برج الكيفان
زارتها/ حسناء شعير
هي واحدة ممن تبقوا من الزمن الجميل.. سيدة مسرح بلا منازع، فنانة من العيار الثقيل.. استقبلتنا في بيتها بشارع "كريم بلقاسم" في العاصمة، وفتحت قلبها لنا، ومنحتنا تأشيرة السفر بذاكرتها المنتعشة إلى نقطة البداية. ورغم بلوغها سن ال92 عاما، لم تغفل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها بالتواريخ والعناوين والأسماء.. تحفظ في مخيالها أسرارا كثيرة عن أقرانها قصدرلي، رويشد، كلثوم، حسن الحسني، وآخرون ممن عانقوا الركح وأقسموا على حبه إلى الأبد.. قالت ليس عيبا أن أكون أمية ولكني أحببت الفن بمنطق العلماء.. هي الفنانة نورية قصدرلي التي كان لنا معها هذا الحوار.
- أردنا طرح سؤال فوجدناها أسبق منا فقالت: من أين تحبين أن نبدأ الحكاية ؟ فقلنا من البداية..
اسمي الحقيقي خديجة وأنا من مواليد مدينة تيارت عام 1921، كنت وحيدة أبوي وعندما بلغت سن ال14 عاما انتقلت للعيش رفقة أختي من أبي المتزوجة في مستغانم، وبعد بضع سنوات تعرفت على سي مصطفى قصدرلي.. هناك وتزوجني وأنا بنت ال19 عاما ثم انتقلنا إلى العاصمة.. كنت خياطة، وكان سي قصدرلي ممثلا وقتها يقوم بجولات فنية رفقة بوعلام رايس ومصطفى بديع وعبد الرحمن عزيز الذي كنا نلقبه آنذاك ب "مطرب الشباب"، كانوا يقومون بجولات فنية عبر القطر الجزائري بإمكانيات تكاد تكون منعدمة فيضطرون إلى بيع أشيائهم الخاصة من أجل التنقل، "ملابس.. وساعات".. كنت أخبئ مبلغا بسيطا من المال طلبوا مني إعارتهم إياه وافقت لكني اشترطت أن أرافقهم في جولتهم الفنية للنزهة والفرجة ولأنهم كانوا مضطرين قبلوا.. ونحن في طريقنا إلى سطيف وقسنطينة عبر القطار؛ اكتشفوا غياب الممثلة التي كانت ستمثل معهم وهنا بدأت حكايتي مع الفن..
- ما الذي حدث بعدها؟
أمسكت بيدي ونظرت إلي، وقالت "..بدأو يفكرون في حل للخروج من هذا المأزق وفجأة وجدت عبد الرحمن عزيز ينظر إلي ويقول خديجة هنا هي من ستقوم بهذا الدور، قلت له "أنا جيت حواسة الفن خاطيني".. رد علي "لا عليك أنا سأحفظك الدور". والحق يقال يا ابنتي أنا كنت أمية لم أتعلم يوما وليس عيبا أن أقول هذا، ولكني كنت صاحبة إرادة، وبالفعل حفظني عبد الرحمن عزيز الدور، وقبل أن أدخل لأدائه شاهدت القاعة ممتلئة بالجمهور فتراجعت وقلت "لا أستطيع مواجهة كل هذا الناس".. قالوا لي لا تخافي نحن معك ووجدت عبد الرحمن عزيز يدفع بي داخل القاعة وأديت الدور وما إن أنهيت حتى وجدت كل من بالقاعة يقف ويصفق.
- متى كان هذا؟
(بسرعة استحضرت التاريخ).. كان هذا عام 1945، عندما تعرضت سطيف لمجازر على يد الاستعمار الفرنسي.. حيث كنا نقدم مسرحيات عن الثورة ومعاناة الشعب الجزائري.
- ماذا عن موقف زوجك الفنان الراحل مصطفى قصدرلي من التمثيل؟
لم يكن موافقا في البداية، كان ضد فكرة تمثيلي تماما وطلب مني التوقف ولكنه لما تأكد من حبي للفن اشترط علي أن أقوم بكل واجباتي اتجاه بيتي وابني عبد الرحمن الذي توفي وابنتي الوحيدة "فوزية" (كانت تجلس معنا وتقاطع أمها بين الحين والآخر لتراجع معها الأحداث والوقائع).. وتواصل نورية: كنت أتركها عند الجارة وأحيانا ترافقني إلى العمل ولم أقصر في أمر يتعلق بأسرتي.. كان يقول سي قصدرلي "نحب العشا والغدا طايبين وحوايجي مغسولين".. ولأني أحببت مهنتي كنت أبيت الليل أحفظ الأدوار واستيقظ على الساعة الرابعة صباحا أقضي حاجات عائلتي وأذهب إلى السوق ب"البيجامة".
- ماذا كان موقف والديك من امتهانك الفن؟
كما قلت لك أنا انفصلت عنهما في سن مبكرة، وتزوجت لكن أكثر شخص شجعني وأخذ بيدي هو مصطفى بديع لأنه ساهم في عودتي إلى التمثيل بعد أن توقفت مدة أمام إصرار زوجي على تركه.. زوجي الذي وقفنا بعدها سويا فوق خشبة "أوبرا الجزائر" وعودتي كانت عندما بدأ محي الدين باشطرزي يبحث عن ممثلات تقوم واحدة منهن بدور امرأة بدوية تتكلم باللهجة الوهرانية، حيث أن مصطفى بديع هو من رشحني لهذا الدور.. وعندما دخلت على محي الدين باشطرزي ونظر إلي قال "طلبت منك بدوية مش ماريكانية يا سي عزيز" 'تضحك 'فقلت له أنا بدوية وقمت بالدور أمام الفنانات كلثوم ولطيفة والحبيب رضا "ربي يرحمهم جميعهم".
- من منحك اسم "نورية" بدلا عن اسمك الحقيقي خديجة ولماذا هذا الاسم بالذات؟
مصطفى بديع وبوعلام رايس هما من أطلقا علي اسم نورية وإلى يومنا هذا لا أعرف لماذا اختارا لي هذا الاسم بالذات ولكن ما أعرفه هو أنهما كانا يحبانني وأعتقد أن الاسم ناسبني كثيرا واشتهرت به.
- احكي لي كيف كانت علاقتك بالفنانة الراحلة كلثوم؟
كلثوم "حبيبتي" كانت فنانة كبيرة سبقتني في التمثيل كانت رفقة محي الدين باشطرزي والحبيب رضا، تعرفت عليها عندما التحقت بفرقة محي الدين باشطرزي وبعدها انضمت إلينا لطيفة فوهيبة زكال ثم هجيرة بالي، ولكن كلثوم كانت المفضلة لدى محي الدين باشطرزي وكان يحق لها أن تختار الدور الذي يناسبها. أما أنا فلم يكن بوسعي أن أفعل هذا وغالبا ما كنت أقوم بأدوار تغيب عنها صاحباتها "كانت هناك فنانات تقدمن شهادات مرضية حتى لا يجسدن أدوارا لا تعجبهن وكنت أنا من تعوض بهن".
- هل تذكرين أول مبلغ تقاضيته من الفن؟
(بقليل من العصير الموضوع أمامنا بلت حلقها وواصلت).. تساءلت بتعجب "دراهم؟!".. في البداية كنت أمثل بدون مقابل "في سبيل الله" كيف أتقاضى وباقي الفنانين كانوا يبيعون أغراضهم كما أخبرتك.. كنا عندما ننتهي من التمثيل نبيت في "محطة القطار" حتى الأكل لم نكن نجد ما نأكله كان وقتها يباع "البلوط" حتى هذا لم يتسن لنا شراؤه.. فرنسا كانت تفرض على الجزائريين إتاوات كما تعرفين أي ضرائب وأمور أخرى.. وتمنعنا من المبيت في الفنادق بتهمة أن "العرب مقملين" لكن هناك من كان يطعمنا في سبيل الله أحيانا رفقة آخر اسمه عمي جلول يسكن بقسنطينة.
- فريدة صابونجي وشافية بوذراع صديقتاك.. حديثينا عنهما ؟
شافية "نحبها".. هي آخر من التحق بنا واختارت السينما والتلفزيون لأنها لم تقو على المسرح.. أذكر عندما قابلتها أول مرة وقالت لي أنا أحب التمثيل وجئت من قسنطينة لكن مصطفى كاتب رفض مقابلتي، ووقتها كانت علاقتي بكاتب جيدة وتوسطت لها عنده وأقنعته ثم وافق ولكنها لم تحضر لأداء دورها وأنا عوضتها إلى أن كلمها مصطفى بديع لأداء دور في فيلم "الحريق"، ومن هناك انطلقت مسيرتها الفنية واشتهرت. أما فريدة لم تكن معي في بداياتي لكنها التحقت بنا قبل شافية وكانت تحب التلفزيون وبالفعل التحقت به لأنه كان يدفع أحسن ورفضت أن تقوم بالجولات الفنية، أنا كنت أتقاضى 600 دينار جزائري.. مبلغ زهيد تخصم منه أشياء كثيرة.. كنت أحب المسرح ولكن التلفزيون كان يدفع أحسن وما أغضبني هو أن هناك فنانات جئن بعدي كن يتقاضين أكثر مني"لكتاف والمعريفة"، وأنا التي قمت بالجولات أتقاضى أقل ولكن لم يكتب لي أن التحق بالتلفزيون خاصة بعد أن سوي راتبي نوعا ما في المسرح الذي أحبه أكثر من التلفزيون.. هنا أذكر الفنانات كلثوم وعويشة ووهيبة زكال ولطيفة اللائي رفضن أيضا الالتحاق بالتلفزيون حبا في المسرح.. لكن فيما بعد التحقت بالإذاعة والتلفزيون "باش نعاون روحي".. أذكر أنه عندما طلب منا كاتب خصم شيء من أجورنا لتأسيس معهد برج الكيفان، واقفنا لدعم الشباب.. خصم من راتبي 500 دينار "وكانت دراهم في هذاك الوقت".
- حدثينا عن أقرانك في التمثيل رويشد وبوبقرة؟
حسن الحسني "بوبقرة" مثلت معه في خمسينيات القرن الماضي وكانت لي معه جولة في فرنسا.. كان تلقائيا.. يحفظ بطريقة غير صحيحة لا يغيرها "تضحك".. أقول له "يا حسن عاود أحفظ مليح".. فيرد "اتسجلت في ذاكرتي خلاص".. كان فنانا كبيرا.. أما أحمد عياد المدعو أو رويشد فبدأ مسيرته الفنية مغنيا وبعدها التحق بالتمثيل وهو أيضا فنان كبير.. (وهنا تدخلت ابنتها فوزية بحماس تتحدث عن الفرق بين مسرح الأمس والمسرح اليوم وكيف كان الفنانون يقومون بالجولات الفنية دون عناء).
- سيدة نورية.. كيف تقييمين مستوى المسرح الجزائري اليوم؟
شدت على أصابعي وقالت "هذا وقت وذاك وقت آخر".. نحن كنا نقدم روايات شكسبير وموليار و"ما ينفع غير الصح" والآن النصوص المسرحية تكتب "على حساب ما يفهموا" وعلى حساب الوقت وأصبحوا يسمونه بالمسرح الملتزم الذي كان يقدمه ولد عبد الرحمن كاكي سابقا.. نحن كنا نمثل ويخصم من أجورنا لشراء السلاح من أجل الجبهة.. لمدة أربع سنوات ونحن على هذا الحال.. كان معنا بلاوي الهواري وأحمد وهبي بالزغاريد والأناشيد، بالإضافة إلى إقامة مزاد علني لجمع المال.. كان يومنا مشحونا بالعمل.. (تسكت ثم تعاود استحضار ذكرياتها).. أريد أن ألخص لك قليلا.. أنا بدأت الإذاعة مع مصطفى بديع والروايات وقدمت للسينما خمس أفلام و170 فيلما تلفزيونيا وتعاملت مع أغلب المخرجين.. مع بن عمر بختي وموسى حداد والحاج رحيم وآخرون كانوا كلهم يحبونني وأنا أيضا.. كانوا يرشحون اسمي أولا لأداء أي دور.
- كيف تقضين أوقاتك الآن بعدما ابتعدت عن الفن؟
استمع لبرامج الإذاعة والتلفزيون يوميا.. صحيح أنني لا أبصر جيدا لكنني أسمع وأنا متابعة جيدة للدراما وعلى دراية بما يحدث في الساحة الفنية الجزائرية وأفرح بالتكريمات التي تمنح لي ولكني لا أستطيع السفر إلى ولايات بعيدة لتسلمها (وهنا تدخلت ابنتها فوزية للمرة الثانية لتحدثنا عن يوميات السيدة نورية فقالت.. أمي تستيقظ باكرا تصلي ثم تتناول فطورها وتوقظني أنا والأولاد قبل أن تعود إلى فراشها وتشغل جهاز الراديو لتستمع إلى برامج الإذاعة الوطنية وتزعجني في الصباح الباكر بصوت الراديو وأطلب منها إخفاض الصوت وأحيانا تزورها صديقاتها).. وعادت الفنانة نورية لتتحدث عن نفسها.. أحب الاستماع إلى الأخبار الدولية وأعرف أن فرنسا تعيش "الميزيرية" وفي سوريا "راهي كبيرة وراهي غايضتني زرتها أكثر من ثلاث مرات ويحبوننا كثيرا نحن الجزائريون"..
- عاصرت كل رؤساء الجزائر من استرجاع الاستقلال إلى يومنا هذا.. من منهم كان داعما للإبداع والفن برأيك؟
بوتفليقة طبعا يدعم الفن ويحبه، صحيح أن بومدين كان يحب الفنانين لكن بوتفليقة أكثر.. أنا أدعوا له في كل صلاة بالشفاء ربي يشافيه ويطول عمرو كرمني أكثر من مرة.. بومدين عرضني "أي عزمني ودعاني" وبن بلة كذلك لكن بوتفليقة يحبني ونحبو.. وتشير نورية إلى ابنتها وتقول لنا: هذه صديقتي عندها 64 سنة لم تفارقني يوما ولم يكتب لها أن تكون ممثلة رغم حبها للمسرح بسبب رفض والدها الذي لم يشأ أن تكون كذلك.
- لو لم تكوني فنانة ماذا كنت ستختارين؟
لا شيئ ولا أعرف أن أقدم غير الفن ولكني كنت في البداية خياطة كما قلت سابقا.. "كنت نخدم الملابس من الصوف.. نخدم العجب كيما يقولو كل صبع بصنعة بنات بكري كانوا يحبو يتعلموا كل شيئ.. غير أن تحضير الحلوى خاطيني" 'وضحكنا جميعا-
- من تعجبك من الفنانات الجزائريات وتذكرك بنفسك؟
دليلة حليلو ونوال زعتر أيضا تعجبني.. أنا كنت أقدم كل الأدوار كبيرا كان أم صغيرا وأتقمص كل الشخصيات.. وهنا تدخلت إحدى صديقاتها التي كانت تشاركنا "القعدة" وقالت "نورية كانت تعشق أدوارها وتلبسها إلى درجة التقمص أما اليوم فهذا لا يحدث.. المسرح هو نص وممثلون وخشبة وخاصة جمهور.. لكن اليوم الجمهور تشتت بسبب التكنولوجيا والانترنت والتلفزيون. وما يحدث في العالم من ثورات أثر على المسرح اليوم".
- ماذا منحتي للجزائر وماذا أعطتك؟
منحتها فنا.. مسرحا.. وأعطتني جمهورا يحبني.


نورية قصدرلي من مواليد عمي موسى و ليس تيارت
عمر فاروق - عاطل - غليزان - الجزائر

19/05/2017 - 335342

Commentaires

سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)