إنّ للعولمة بعدها السياسي الذي أبرز بوضوح ارتباط سياسة الكونية في نشأتها وتكوينها بالمجتمع الرأسمالي الحديث وبتطور الحياة الاقتصادية بجميع عناصرها وقطاعاتها، هذا التطور الذي ارتبط بالانفجار العلمي والتقني وبالثورة الصناعية التي غزت كل مجالات الحياة، فإنّ المظهر الاقتصادي الذي طبع الحياة ككل بطابعه ارتبط بالرأسمالية باعتبارها فلسفة اقتصاد وتنظيما اقتصاديا وممارسة اقتصادية، فمن حيث هي فلسفة الاقتصاد الرأسمالي تقوم على إبعاد الدولة والتوجيه الأخلاقي أو الديني أو غيره عن التدخل في الحياة الاقتصادية، وإخضاعها للقوانين الطبيعية الفيزيوقراطية في الحياة البشرية، قانون الحرية الاقتصادية، حرية العمل والإنتاج وتنويع المنتج وحرية الاستثمار والمنافسة وحرية التبادل وحرية السوق وغيرها، وقانون الملكية الفردية للإنتاج ووسائل الإنتاج، وقانون العرض والطلب هو الذي يقوم بتحديد أسعار السلع في السوق وأجور العمال، أما الرأسمالية من حيث هي تنظيم اقتصادي يقوم على المبادئ السابقة تتحدد بعدد من الآليات والميكانيزمات تنطلق من البدء في الشغل وتضبطه خلال جميع مراحله إلى أن يتحول الشغل إلى إنتاج ثم تسوق الفائض منه، وتحرص باستمرار على تطوير المنتجات من حيث الكم والنوع، هذه الآليات تتعلق بتحديد أنواع العمل وتقسيمه في المجتمع، وتحديد أنواع الاستثمار حسب مطالب وحاجات المجتمع، وتحديد رؤوس الأموال واستثمارها في الداخل وفي الخارج، وتنظيم قطاعات الخدمات المختلفة وهو قطاع له من الأهمية ما يجعل القطاعات في خدمته، وتتطور هذه الآليات بتطور الحياة في المجتمعات الرأسمالية، أما الرأسمالية من حيث هي ممارسة تشمل جميع الإجراءات والتدابير التي تقوم الجماعة الرأسمالية في المجتمع الرأسمالي بتنفيذها، ولا يمكن للنظام الرأسمالي أن يصل إلى ما وصل إليه من تقدم وازدهار في الحياة الاقتصادية في غياب التنفيذ الصارم والدقيق لهذه التدابير واحترام الآليات في ضوء مبادئ وأسس فلسفة الاقتصاد الحر.
* إنّ تركيبة الرأسمالية وصرامة مبادئها وقوانينها وآلياتها أدّت إلى تنامي الإنتاج وتطوره من خلال فتع الأسواق وتحرير التجارة من سائر القيود وإقبال دول العالم على منتجات بعضها البعض، وإنشاء التكتلات الاقتصادية والمؤسسات المالية العالمية وتدعيم نشاطات الشركات العالمية مع توسيع دائرة المبادلات التجارية من خلال تحريرها بإلغاء القيود الجمركية واستعمال نظم أكثر فعّالية وتطور من ذي قبل في استثمار رؤوس الأموال وفي استثمار الموارد البشرية، وساعد على انتشار الليبرالية وثقافتها وجميع أسسها الفكرية وجوانبها ومظاهرها المالية والاقتصادية عامة الدعاية والترويج لها ليس فقط من طرف وسائل الإعلام الخاصة والعمومية في مجتمعات المركز والأطراف معا بل روج لها الكثير من المفكرين أمثال فوكوياما، وهذا إيان كلارك يقول في إمكانية التوحيد والجمع بين مصالح العولمة ومصالح الدولة الوطنية من دون تفكك أو انصهار الدولة القومية في الكوكبة: “إذا كان الأمر الأكثر قربا من الواقع على وجه التأكيد هو أن نتوقع تكيفا جديدا بين قوة الدولة وقوى العولمة بدلا من نصر تام لإحدى هاتين القوتين. وإذا صح هذا التحليل فإن أثر نهاية الحرب الباردة سيتركز غالبا في تشييد أشكال جديدة من قوّة الدولة وسيتم تحقيق التوازن الجديد بين العولمة والتفكك عبر هذا الوسيط لا بتجاوز الدولة".[1]
ومن الباحثين من ربط حاجة العالم إلى العولمة بسوسيولوجيا الحياة في العالم المعاصر، وهذا فرانك جي. لتشنر يعبر على ذلك بقوله: “تقوم التغطية الكوكبية في السوسيولوجيا على مسلسل متصل من الجهود المثابرة من جانب عدد من الباحثين على امتداد العقود القليلة الماضية تلك الجهود الهادفة إلى التعامل مع العالم كنظام اجتماعي بحد ذاته. من الواضح أن تلك الجهود استلهمت من الإدراك البسيط لحقيقة أن المجتمعات كانت سائرة في طريق التحول إلى مجتمعات شديدة التعويل على تبادل التبعية. وعلاوة على ذلك أصبح واضحا أن جملة العمليات التي كان السوسيولوجيون مهتمين بها بالذات كانت منطوية أساسا على نوع من البعد الكوكبي".[2]
1- ضغط العولمة في الزمان وفي المكان: * ساعد على ظاهرتي الانتشار والانصهار بين العولمة والدولة القومية تطور تقنية الإعلام الآلي وتقنية شبكة الأنترنت وارتباط هذه التقنيات بالتطور الهائل الذي عرفته وسائل الإعلام والاتصال، كما ساعد على تطور الإنتاج وكثرة الفائض فيه وتنامي المبادلات التجارية وازدهارها واختزال المسافات في التسويق بتطور وسائل النقل البري والبحري والجوي واستخدام، آليات أكثر تطورا في تحويل الأموال عبر البنوك العالمية، وارتبط الازدهار الاقتصادي في الإنتاج من حيث الكم والكيف معا، وفي وسائل الإنتاج وفي علاقات الإنتاج وفي قواعد وآليات تنظيمه وتسويقه وغيرها، مما يرتبط بالحياة الاقتصادية بالتوجّه الاقتصادي الليبرالي الغربي وبالنموذج الأمريكي بكل ما يحمله هذا النمو من قيم ودلالات وما يتضمّنه من طموحات ومصالح، وأبرز طموح هو تعميم استعماله في كل بلدان العالم من منظور أن العولمة الاقتصادية وبموجب الأوضاع المالية والمصرفية والظروف الاقتصادية القائمة صارت أمرا واقعا وضرورة لا بد منها، وأصبحت مكسبا حضاريا للإنسانية جمعاء، هذا ما عرفه واقع القوى الكبرى في العالم ودافعت عليه في المحافل الإقليمية والدولية، بيد أن الممارسات الاقتصادية بالفعل كانت في جوهرها لصالح ولحساب القوى العظمى، وعلى حساب الشعوب النامية، ذلك لشمولية العولمة واحتوائها على اقتصاد العالم، وتحويل العالم بما فيه العالم الثالث والعالم العربي إلى سوق مفتوحة تتحكم فيه قواعد وإجراءات الرأسمالية العالمية التي لا تعترف إلا بالأقوياء ولا تقرأ البتة حسابا للضعفاء والفقراء، يتفق على هذا العديد من المفكرين الغربيين والعرب، “ويؤكدون على وجود سلبيات للعولمة تشمل: عدم تحكم الدولة الوطنية بأسعار الصرف وأسعار الفوائد وأسعار الأوراق المالية في البورصات، والتزايد السكاني في بلدان الجنوب دون تزاد الإنتاج وتعميم نمط الاستهلاك الأمريكي".[3]
* إنّ الدولة الوطنية في أمس الحاجة لممارسة دورها في تحريك التنمية في مختلف جوانب الحياة لكنها تفتقر إلى السلطة لممارسة صلاحياتها السياسية والاقتصادية، مثلما هو واقع في بلدان العالم العربي، “إن تحقيق النمو الاقتصادي في الوطن العربي كما يتطلب في كل الأحوال تطوير الهياكل الأساسية للاقتصاد وتحقيق حد أدنى من الخدمات الضرورية للسكان، لم يكن من الممكن في ظروف البلاد النامية أن توفرها إلاّ الحكومات التي تحملت أعباء استثمارية كبيرة من أجل ذلك. ومن ناحية أخرى فإن غياب وجود طبقة من المنظمين القادرين على تحمل المخاطر اللازمة لإقامة أنشطة إنتاجية جديدة ذات حجوم كبيرة قد اضطر الحكومات- حتى في المجتمعات التي تتبنى نموذج التنمية الرأسمالية- إلى تحمل بعض هذه المخاطر خاصة في مجال الصناعة. كما تطلبت التنمية في كل الأحوال توسعا في التعليم والتدريب لتوفير القوى العاملة المناسبة، ودعما لجهود نقل الثقافة وتطويرها، وتوفير قدر من الحماية للأسواق الداخلية ودعم وتشجيع الصادرات وغير ذلك".[4]
وهي مهام وصلاحيات عسيرة على الدولة في ظل العولمة، حتى وإن جاء التوجه العام للشركات والمؤسسات في عصر العولمة من الناحية النظرية يقوم على الانتصار ضد تسلط الدولة واستبدادها وعلى التفوق العلمي والتكنولوجي القائم على الإبداع والابتكار، وعلى الريادة في تنظيم الإدارة وعلى المنهجية والطهارة الأخلاقية والسير في المبادئ السامية التي تخدم الإنسانية جمعاء، فتوجه العولمة في الحقيقة وفي الواقع يقوم على “سحق الهوية والشخصية الوطنية المحلية.. استباحة الخاص الوطني وتحويله إلى كيان رخو ضعيف غير متماسك..".[5]
ومن البلدان التي تضرر اقتصادها في ظل العولمة من جراء الخصخصة وانفتاح السوق فيها على التجارة العالمية مصر، حيث “تضمن برنامج الخصخصة بيع 314 شركة قطاع عام ومنذ عام 1992 توقف الدعم الحكومي عن هذه الشركات وقد باعت الحكومة أسهم 77 شركة وعرضت أكثر من 33 شركة أخرى للبيع.. وتراجع معدل نمو الاستثمار في القطاع العام من المفترض أن يحدث أثارا سلبية من خلال المرور بتأثيرات المضاعف المعجل ومما ينبغي الإشارة إليه أن جزء هاما من حصيلة بيع شركات القطاع العام لا تضخ في الوعاء الاستثماري القومي حيث جزء لسداد مديونية شركات القطاع العام لدى الجهاز المصرفي وجزء آخر لصالح العمال سواء في شكل أسهم بالتملك أو لصالح الصناديق العمالية التي تصرف مكافآت نهاية الخدمة ونصيب العمال قد عادل ثلث الحصيلة تقريبا والجزء الثالث والمتبقي يذهب للخزينة العامة للدولة".[6]
لذا نادى مفكرو مصر “بضرورة التوفيق بين متطلبات العولمة وحيوية تعزيز الكيان الوطني. حيث أن دور الدولة طوال التاريخ هو دعم الصالح العام ورعاية الفئات والشرائح غير القادرة وضمان أكبر قدر ممكن من العدالة في توزيع الناتج القومي ومسؤولية الخدمات الحيوية كالتعليم والإعلام والصحة".[7]
لكنّها تبقى مجرد مطالب لا تعرف التحقق في جو العولمة، وازداد الفساد والاختلال الاقتصادي والاجتماعي تفاقما كلّما ازداد إقبال الدولة على اقتصاد السوق وعلى تقبل تغلغل الرأسمالية التي لا تحفظ سوى مصالح الكبار.
* صارت العولمة حتمية اقتصادية وتكنولوجية تكرس الحرية والمنافسة وتصنع الضغط في الزمان وفي المكان الضغط الذي يتزايد على الزمان والمكان بتأثير الطاقة ومن منطلق مصلحة الأقوياء، لأن مقولات الزمان والمكان والطاقة لم تعد بالدلالات السابقة، فاختصار الزمان واختزال المكان وتبدل دور الطاقة وحركتها وتنوعها جعل من هذه المقولات تأخذ حيّزها في الفكر الذي يتبناه توجه العولمة باعتبارها زمان ومكان طاقة وظروف لا يمكن الحياد عنها في أيّة حالة من الأحوال، لأنّ أهم ما تتميز به هذه الظروف الاتصال الزماني والمكاني الاقتصادي الشديد والضاغط وحاجة هذا الأخير إلى الطاقة المتجددة باستمرار، فأصبح العالم في زمانه ومكانه وطاقاته مشدودا نحو جهة واحدة ومركز واحد في مقابل الأطراف من حيث التوجيه والتدبير، وآثر المركز فرض هيمنته على الأطراف وتكريسها بكل الوسائل المتاحة وسعيه الحثيث وراء مصالحه التي لا تتوقف ولا تحدّها قيود، الأمر الذي أفضى إلى تعارض المصالح في الهيمنة والأمركة فانتهى الأمر إلى خلافات ونزاعات وحروب لم تجر على الشعوب سوى الدمار والضياع، وأصبح مستقبل الإنسانية في خطر خاصة شعوبها المقهورة، تلك هي العولمة في أبعادها الاقتصادية وفي مظهرها القائم على تعميم النموذج الليبرالي الاقتصادي كما يعيه ويفهمه الغرب والأمريكان وكما هو سائد في المجتمعات الغربية، نظام اقتصاد السوق في إطار يقوم على الحرية والخصخصة وتنفيذ سياسات اتفاقية التجارة العالمية والاندماج في الشركات الاقتصادية العالمية العابرة للقارات، وهو نظام يتعارض مع الأنظمة الاقتصادية الأخرى في فلسفته وآلياته ولا يعطي أدنى اعتبار لخصوصيات ومميزات الشعوب والبلدان الثقافية والتاريخية والجغرافية وغيرها، فيصدر لها الفساد والتناقض بين النظر والعمل، بين شعاراته ومبادئه وبين الملموس المجني في الواقع، “تلك التناقضات الناتجة عن تدخل عوامل التغلغل الرأسمالي مع عوامل التقبل الداخلي لهذا التغلغل ومن ثم تكون المحصلة النهائية باختصار هي: ظهور رأسمالية رثة بمفهوم فرنك أو رأسمالية مشوهة تعمل في إطار تدمير نمط الصناعة الوطنية واستنزاف فائض العمل وفائض الإنتاج وتصديرهما إلى الخارج ليساهما في التراكم الرأسمالي في العواصم ويُحرم أبناء هذه المجتمعات من مصادر التقدم بل يجعلها في حالة تبعية كاملة للمركز والرأسمالية الغربية ويحافظ على التوازن بين النمط الرأسمالي الخاص وبين النمط الرأسمالي الرث".[8]
هذه الوضعية تفرضها العولمة في أيّة جهة تتبنى الرأسمالية الغربية في تنظيم حياتها الاقتصادية والديمقراطية في توجهها السياسي.
* لقد لجأت العولمة إلى استخدام كافة الوسائل والأساليب المشروعة وغيرها لضمان سيطرة المركز الكاملة على الاقتصاد العالمي في جميع عناصره وقطاعاته وعلاقاته، ومن عناصره الجانب المالي، أنشأت لغرض الاستحواذ على رؤوس الأموال والفوائد للاستيلاء على الاستثمار العالمي مؤسسات مالية عالمية تديرها وتتحكم في تسيير الأموال بها، كالبنك العالمي وصندوق النقد الدولي، هذا الأخير لعب الدور الذي لعبه الاستعمار الكلاسيكي في البلدان التي اقترضت منه، بحيث افتقدت سيادتها الداخلية والخارجية من وراء ما جلبته الاتفاقية مع صندوق النقد العالمي من تسريح العمال وانخفاض القدرة الشرائية وتوقيف دعم الدولة للاقتصاد ولسوق الاستهلاك الواسع وانتشار الفقر والبطالة وانهيار القطاع العام، وكانت النتيجة مشكلات اقتصادية واضطرابات اجتماعية وحروب أهلية، فكان ذلك الوضع المزري في جو العولمة والأمركة أشد تأثيرا وأخطر وقعا على العديد من الشعوب في العالم، أما البنك الدولي فقد تخلى “عن واحد من أهم مسلمات الليبرالية، وهو ما يسمى “مفعول التساقط" ومقتضاه أن تزايد ثراء الأغنياء سيصفي تلقائيا وتدريجيا ظاهرة الفقر، لأن الغنى المتزايد يعني تزايد الاستثمار وخلق أعداد كبيرة من فرص العمل، بحيث تنحصر البطالة وما يترتب عليها من فقر في الكسالى والمعوقين وهذا ما يمكن أن يعالج بفعل الخير أي ما يتبرع به الأغنياء. وكان التخلي من جانب البنك الدولي سببه استمرار الفقر في العالم، وتزايد أعداد الفقراء بانتظام".[9]
* تنطق أوضاع الشعوب المتخلفة الاقتصادية والاجتماعية بما لا تنطق به العولمة والأمركة وبما لا ينطق به المروجون لهما، حيث الاستثمار والاحتكار، “وقد نمت الاستثمارات الاحتكارية، الخارجة من دول الشمال سنويا 17 و18 بالمائة، أما وتيرة الإنتاج في هذه البلدان المتقدمة فقد هبط إلى 1 و2 بالمائة، وقد وضع الرأسمال المبتور عن ترتبه القومية، تحت رقابته خمسي “1/5" حجم الإنتاج الصناعي في البرازيل والبيرو وكولومبيا والمكسيك. وأُغرقت السوق العالمية بالمنتجات الرخيصة المصنعة في بلدان عالم الجنوب، ومن الطبقة العاملة التي تعمل بأجر أقل من 10 و15 مرة عما هو عليه في البلدان المتقدمة".[10]
وتنطلق الليبرالية وينطلق مفكروها من كون ظاهرة التخلف في العالم نتجت واستفحلت عن عدم احترام الشعوب والأنظمة السياسية والاقتصادية في دولها للقوانين الطبيعية التي ينبغي أن تخضع لها الحياة الاقتصادية برمتها، وتقارن قوى المركز دوما بين الأوضاع الاقتصادية والظروف الاجتماعية في البلدان التي عرفت الرأسمالية مبكرا مع تلك التي عرفتها مؤخرا، والواقع أنّ انتصار العولمة اقتصاديا مرتبط بالتفوق الأوربي الأمريكي الحديث والمعاصر في المجال العلمي والتكنولوجي، تفوق هائل في وسائل ومناهج العمل والتأثير في الطبيعة، ومرتبط بسياسة الإمبريالية والهيمنة والتسلط والاحتلال والاستعمار وغيرها من الأساليب غير المشروعة التي تستهدف تحقيق مصالح الدول الكبرى في العالم، فهي تزداد قوّة وثراء ويزداد مع ذلك ضعف الضعفاء وفقر الفقراء وكثرة المحرومين، وأصبح اقتصاد العالم أجمع خاضعا لإرادة دول المركز ولمطالبها وحاجاتها، وصار خمس سكان العالم أثرياء بأيديهم المال والأعمال والسلطة، والأخماس الأربعة الأخرى تعاني كل صنوف الأذى والحرمان، الجوع والأمراض والحروب والاحتلال وغيرها من المشكلات المختلفة، الأمر الذي يدل على أنّ العولمة على المستوى الاقتصادي مظاهرها عديدة ومتنوعة مرتبطة بسائر المظاهر الأخرى في حياة الإنسان عامة، لأنّ الحياة الاقتصادية وتطورها وازدهارها وراء أي تطور في أي ميدان آخر، كما يدل على التداخل والتشابك بين مظاهر العولمة وتداعياتها، باعتبار نتائجها ترتبت عن هيمنة إرادة الدول العظمى على شعوب العالم اقتصاديا، وتمثلت في تعميم آليات اقتصاد السوق وآليات الديمقراطية وكل ما من شأنه يخدم النهج الاقتصادي الرأسمالي ومن ورائه مصالح الكبار، وباعتبار تداعياتها هي الأخرى نتائج خلّفتها العولمة وكانت نعمة على القوى المهيمنة، لكنّها جاءت نقمة على المستضعفين والمقهورين في الأرض، وشكلت العولمة على المستوى الاقتصادي شكلا من أشكال الهيمنة الاقتصادية الرهيبة التي جرت وراءها كل أشكال الهيمنة الأخرى وعمقت ظروف الفقر تداعياته، والفقر مدعاة إلى الكفر.
* إذا كانت العولمة هي توجه المركز وإستراتيجيته تحمل أبعادا ثقافية وسياسية واقتصادية وإعلامية وعسكرية واجتماعية وعقائدية، فتداعياتها تنعكس على المركز والأطراف معا، تنعكس على المركز بأن يزداد نفوذه وازدهاره أما الأطراف فيزداد ضعفها وتخلفها، هو ما تخطط له العولمة وتدافع عنه وتحميه بشتى الوسائل والسبل، وخطر العولمة ليس فقط على البشر فرادى وجماعات، دول وأمم، ثقافات وديانات، بل على الحجر والشجر والثمر والبيئة والطبيعة بصفة عامة، فقوانين اقتصاد السوق وشروط وآليات المنظمة العالمية للتجارة، وما يجري في العالم من تصنيع واستغلال المنتجات الصناعية في النقل وفي غيره من قطاعات الحياة، ومن تسلح وتسلح نووي وما ينجر عن ذلك من التجارب والنفايات وغيرها من مخلفات التكنولوجيا ونقل التكنولوجيا واستغلال التكنولوجيا، كل هذا لا يسمح بحماية البيئة والطبيعة والإنسان من مخاطر عديدة، خاصة إذا كانت منظمة التجارة العالمية تتحكم في قوانين حماية البيئة، وبالتالي لا تسمح لأي دولة بممارسة صلاحياتها في حماية المحيط من كافة المخاطر، ناهيك عما يجري في الطبيعة من استنزاف لمواردها وطاقاتها المختلفة، كالاستنزاف النفطي واستنزاف الثروة السمكية والمرجانية وغيرها من أنواع الطاقة، وتعرض الطبيعة للتلوث البيئي والقرصنة الحيوية وإزالة الغابات وتدميرها بالحرق أو بتحويلها إلى أحياء سكنية أو مناطق صناعية أو غيرها، بالإضافة إلى ظاهرة تدهور التربة وما ينجر عن ذلك من مشكلات ومخاطر بيئية، واستفحال ظاهرة التصحر خاصة في إفريقيا، وتعمل العديد من الجهات التي تشرف عليها العولمة من خلال العديد من المنظمات العالمية السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية على إضعاف المعاهدات البيئية الدولية، الأمر الذي جعل البيئة في خطر كبير يهدد الحياة فوقها، وأصبح مستقبل الأرض في ظل العولمة غامضا ومصيرها مجهولا.
* إنّ غزو العولمة الثقافي وما انجرّ عنه من آثار ومخلّفات على الوحدة الثقافية والوحدة الوطنية ووحدة الماضي والمصير داخل الدولة الوطنية كان تمهيدا وطريقا سلكته العولمة للوصول إلى هدف أكبر وأعظم ينشده المركز، هو تغلغل الفكر الليبرالي والنظرية الليبرالية السياسية والاقتصادية وثقافة العولمة عموما في الأطراف، والتمكين بقوّة للتنظيم الاقتصادي الحر فيها، العولمة كإيديولوجيها هي وجه الإمبراطورية العالمية وشكل من أشكال الإمبريالية العالمية “في إطار هذا المبدأ تبدو الخوصصة والمبادرة الحرة والمنافسة..إلخ. على حقيقتها كإيديولوجيها للإقصاء والتهميش وتسريح العمال أخذا بمبدأ: “كثير من الربح قليل من المأجورين".[11]
وينبغي أن تفتح كل دولة من دول الأطراف أسواقها وحدودها السياسية والاقتصادية والجغرافية للاقتصاد الرأسمالي، وتنتقل باقتصادها الوطني القائم على اقتصاد القطاع العام والملكية العامة إلى اقتصاد القطاع الخاص والملكية الخاصة، واللجوء إلى الخصخصة الاقتصادية، والاعتماد على رؤوس الأموال الخارجية المقدمة من المركز أو من غيره وبإيعاز منه، وعلى المؤسسات النقدية العالمية والشركات الاقتصادية المتعددة الجنسيات العابرة للقارات والتي أنشأها المركز لتسيطر على اقتصاد العالم وتتحكم فيه وتحفظ مصالحه، ويقوم رأس المال الأجنبي القوي بمنافسة رأس المال الوطني الضعيف فينتقل بذلك الاقتصاد الوطني ويتحول إلى جزء من الاقتصاد العالمي، مما يؤثر بقوّة على سيادة الدولة الوطنية وعلى سياستها تجاه حياتها الاقتصادية والاجتماعية، فتقوم بإلغاء دعم الأوّليات والأساسيات من المواد المستهلكة مما يزيد في نسبة الفقر والفاقة والجوع، وإخضاعها الحياة الاقتصادية والاجتماعية لقانون العرض والطلب في السوق يترك آثاره السيئة على قطاع الخدمات من غذاء وتعليم ونقل وإسكان وسائر الخدمات الأخرى، ووفق قوانين المنظمات الاقتصادية التجارية والمؤسسات المالية التي تعكس إرادة المركز وهيمنته، ولتسويق الفائض في الإنتاج من الدول الصناعية المنتجة فتصبح كل دول الأطراف أسواقها مفتوحة للمنافسة التجارية، فيؤدي ذلك إلى تعطيل الصناعة الوطنية وتتوقف أمام كمية ونوعية الإنتاج العالمي وأمام انتشار الأسواق الحرة وإنشاء المناطق الحرة ولا يبقى سوى من له القدرة على الدخول في التنافس الاقتصادي مع الكبار، وزاد في تعزيز هذه الوضعية احتكار العلم والتكنولوجيا والتفوق في ذلك من طرف الغرب الأوربي والغرب الأمريكي الذي كرّس تخلف وضعف أغلب بلدان العالم وجعلها تتعرض للنهب والسلب في ثوراتها البشرية العلمية والتقنية المهجّرة، وفي ثرواتها الطبيعية المُستغلة مثلما حدث ويحدث في بلدان إفريقيا وآسيا وسائر البلدان النامية وبلدان العالم العربي، وتُصبح هذه البلدان تحت احتلال العولمة، و«لم يعد الاحتلال العسكري السافر ضروريا، فقد برزت وسائل حديثة، مثل: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. يقرض البنك الدولي مقابل سياسة “تحرير الاقتصاد"، أي تهيئة الاقتصاد الوطني لاختراق المال الأجنبي، وتحكّمه فيه، مع تخفيضات حادة في خدمة المجتمع. يكرس هذا تقسيم المجتمع إلى أقلية ثرية وأكثرية تعاني الحرمان والفقر المدقع. تهيء الديون والفوضى الاقتصادية التي أنجزها العسكريون الساحة أمام شروط وقواعد صندوق النقد الدولي، إلا إذا حاولت قوى سياسية وطنية ذات شعبية التدخل، وفي هذه الحالة يعود العسكريون لاستعادة الاستقرار. البرازيل حالة كاشفة، تتمتع البرازيل بثروات طبيعية تمكنها من أن تكون أغنى بلاد العالم. كذلك تمتعت بتنمية صناعية عالية المستوى. ولكن بفضل انقلاب عام 1964، ومن ثم المعجزة الاقتصادية التي يشيد الكل بها، أصبح أكثر البرازيليين يعيشون مثل الإثيوبيين، وأقل كثيرا من سكان أوروبا الشرقية. دع عنك التعذيب والقتل والأساليب الأخرى لضبط عدد السكان."[12]
* ما سبق نماذج حيّة من الدول التي مسّتها سياسة العولمة الأمريكية، أي سياسة الأمركة التي يفرضها المركز بكل الأساليب مشروعة وغير مشروعة، ولا ينجر عنها سوى الاضطراب السياسي والفساد الاقتصادي والاجتماعي، الذي كثيرا ما ينتهي بالفوضى والحرب والاقتتال، ومعروف ما ينتج عن هذه الأوضاع ومآل الشعب والدولة الانهيار، هذا الانهيار من عوامله الاقتصادية والاجتماعية تنمية الفوارق وتعميم الفقر، “إن القاعدة الاقتصادية التي تحكم اقتصاد العولمة هي إنتاج أكثر ما يمكن من السلع والمصنوعات بأقل ما يمكن من العمال.. والنتيجة التي يستخلصها الباحثون والمختصون في هذا المجال هي التالية: إذا كان النمو الاقتصادي في الماضي يخلق مناصب شغل، فإن النمو الاقتصادي في إطار العولمة والليبرالية المتوحشة يؤدي ويتوقف على تخفيض عدد مناصب الشغل. إنّ بعض القطاعات في مجال الإلكترونيات والإعلاميات والاتصال، وهي من القطاعات الأكثر رواجا في العالم، لا تحتاج إلا إلى عدد قليل من العمال. إن التقدم التكنولوجي يؤدي في إطار العولمة إلى ارتفاع البطالة مما سيؤدي حتما إلى أزمات سياسية".[13]
* في جو المنافسة الاقتصادية الشرسة في المناطق والأسواق العالمية الحرة وما ينتج عن ذلك من كثرة وتنوع في إنتاج السلع يتجه الاهتمام في الحياة إلى الاستهلاك الذي تتسع دائرته في المركز وتضيق في الأطراف لضعف الإنتاج الوطني في الكم والنوع أو لغيابه تماما، ولاستحواذ الإنتاج العالمي على السوق وندرته في الأسواق المحلية، للقصور المالي للدولة خاصة إذا كانت لا تملك موارد طبيعية وثروة نفطية، وللضعف الشديد في القدرة الشرائية لدى المستهلك، ولغياب التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الوطني والقومي وهو مهمة المركز لا الأطراف، فيغرق المجتمع في الفقر وتغرق الدولة في الديون إن كان لها ذلك، فتنجر الدولة في هذا الوضع إلى التبعية الاقتصادية والسياسية للمركز التي لا مفرّ منها، وهي أمنية المركز وغايته القصوى، وما ينبغي “على الأطراف إلا ركوب القطار الذي يحدد المركز اتجاهه وسرعته ونوع حمولته وقائده ووقوده ومحطاته والتي يتوقف فيها أو التي يتجاوزها".[14]
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 29/09/2012
مضاف من طرف : presse-algerie
صاحب المقال : جيلالي بوبكر الفلسفة
المصدر : www.djazairnews.info