الجزائر

البحث العلمي، أو البحث عن الوثائق الإدارية



التفكير في المشروع الوطني للبحث أمر غاية في الجدية والشاعرية، ولا يمكن أبدا أن نتصور بلدا محترما يفتقر إلى مؤسسات من هذا النوع، ولا داعي لأن نكرر ما قيل بشأن الميزانية المخصصة للبحث العلمي في بعض البلدان الصغيرة ومنها دولة إسرائيل ودولة الإمارات ودويلات ''مجهرية''، دون الحديث عن الأمم التي تفكر في غزو الكواكب، وغزو الخيال البشري بجعله تابعا لها، لمنطقها وتصوراتها، وقد بدأ ذلك يتجسد منذ سنين، لغويا وسرديا وتصويريا.
وإذا كان يجب الثناء على مشروع وزارة التعليم العالي من حيث أهميته وقيمته الافتراضية، فإن تجسيده ميدانيا يستدعي التحلي بأخلاق البحث العلمي بمعناها المتعارف عليه دوليا، وبكثير من الواقعية والصدق، دون أي استثمار آخر مهما كان نوعه، ذلك أن البحث لا ينتمي إلى أي حزب من الأحزاب، ولا إلى أية طائفة من الطوائف، كما أنه لا يرتبط بالظرف، بقدر ارتباطه بالمستقبل.
الظاهر أن هذا المشروع ''الضخم'' ولد فضفاضا ومائعا وغامضا ومتلعثما وبيروقراطيا إلى حده الأقصى (ربما لا يدرك هذا أصحاب القرار)، وقد يتحوّل قريبا إلى مسودات لا تحمل من العلم سوى الاسم بالنظر إلى ملابسات كثيرة يعرفها الباحثون عبر التراب الوطني، وعلينا معالجة هذا التململ ''السري'' الذي سيأتي على مفهوم البحث ومصداقيته، إن نحن تحدثنا عن بحث حقيقي في سياقات اجتماعية ونفسية متشظية.
لا بد أن المسؤولين على مستوى الوزارة الوصية يدركون تمام الإدراك أن أغلب الجامعات الجزائرية لا تتوافر على مكاتب خاصة بالبحث، ولا على مساحة صغيرة يمكن أن نضع فيها كرسيا وحاسوبا، ومن ثم يغدو الحديث عن تجهيزات فرق البحث ضربا من العبث ما دامت الجامعة عبارة عن قاعات للتدريس ومكاتب للإداريين، ليس إلا. وحتى هذه القاعات وهذه المكاتب لا تكفي لضمان السير الحسن للمنظومة الجامعية، دون الحديث عن حيز المخابر الذي يظل مجرد فكرة على الأوراق وفي القرارات التي لا تتجاوز حدود الكلمات الملقاة في المنابر الرسمية لغايات..
إننا نتساءل عن الأماكن المخصصة للعتاد وأجهزة البحث والباحثين، وعلينا أن نبحث في هياكل الجامعة الجزائرية إن كان هناك اهتمام بهذه المسألة، مع استثناءات قليلة جدا، وليست ذات قيمة حتى تكون تمثيلية، أو عاكسة للوضع المتردي الذي يميز جامعاتنا.
ثم إن الميزانية المخصصة لفريق البحث من أجل اقتناء التجهيزات (نفقات التسيير لمدة سنة) لا تتجاوز ثلث الراتب الشهري الذي يحصل عليه لاعب متوسط المستوى، في حين أن منحة هذا اللاعب تتجاوز مائة مرة ما يقدم لباحث جزائري -إن قدم له شيء بعد غبن ومشقة- يتم التشهير به في الإعلام الوطني كلما قدمت له الوزارة دينارا إضافيا، أو ربع دينار لدرء الانتقادات وأمارات الفشل المقدس.
ينضاف إلى ذلك تحوّل بعض الهيئات الوصية إلى أجهزة بيروقراطية تقتل فيك التفكير في البحث، لأنك ستدرك، من أول وهلة، أن التفكير في البحث هو دخول في وحل لا حد له، وبخسارة مضمونة.
الوثائق المصادق عليها في البلدية والمؤسسات المختلفة لا تختلف عن الوثائق التي يطلبها رجال الجمارك من المهربين والمستثمرين الكبار، أو تلك التي تفرضها البنوك في التعاملات التجارية أو القروض الخيالية التي لا تعود إلى مصدرها.. وفي عدة نسخ، كأن حامل شهادة الدكتوراه زوّرها وزوّر شهادة العمل وقرارات الترقية، ما يعني بشكل ما، أن الثقة المفترضة بين الباحث والهيئات المشرفة ستزعزع منذ البداية، كون هذه الإجراءات التعسفية مخجلة ومذلة، ولا يمكن أن تكون إلا معرقلة ومحبطة، لكنها قائمة، وبدل أن يهتم الباحث بالبحث، سينشغل بالبحث عن الباحثين ووثائقهم وتوقيعها هنا وهناك (رئيس الجامعة، رئيس المخبر، رئيس المركز الوطني، رئيس المشروع، الشريك الاجتماعي، رئيس البلدية)، لم يبق سوى رئيس الجمهورية ورئيس صندوق النقد الدولي ورئيس جامعة الدول العربية.
تنضاف إلى ذلك المتغيرات الكثيرة والوثائق الجديدة والعقود والتنقلات التي لا تنتهي، ودون أي ضمان... وهذا غيض من فيض، غيض صغير من فيض مرعب يجعلك تتبرأ من كل ما له علاقة بالبحث في الجمهورية الجزائرية المستقلة.
أما ما يثير الضحك والبكاء في آن واحد، فهو دفتر شروط البرنامج الوطني للبحث، وهو كراس يملأه رئيس فرقة البحث أو الأعضاء... يوميا، بوضع التواريخ وأيام العطل والتوقيعات وما تم إنجازه.. في الخانات المحددة، وهو الضمانة التي تثبت أن الباحثين يشتغلون بانتظام... كما في المدارس الابتدائية وفي الثكنات العسكرية، وهذه مذلة أخرى وإهانة لا مثيل لها، وأغلب الظن أن من فكر فيها لا صلة له بالبحث العلمي، أو أنه يفكر بعقلية الحزب الواحد (بمفهومه المتخلف)، أو أنه كان ممرنا قديما التحق بالجامعة بقدرة قادر، أو أنه، في أحسن الأحوال، شخص يريد أن يقول لك أشياء كثيرة، كأن يشتمك مثلا، أو أن يشتمك مثلا، أو أن يشتمك أيضا. ولا يوجد أي تفسير أو تأويل لهذا الدفتر المخجل الذي يعدّ إساءة معلنة.
إنني مع فكرة محاسبة الباحثين، الذين لا يبحثون رغم استفادتهم من أموال الدولة، لكن هذه الممارسات البيروقراطية المقيتة، وهذه العراقيل البدائية وهذه الأخلاقيات لا تساعد إلا على تطوير الكسل المنهجي بكل أنواعه.
لا داعي للمقارنة، ولا إلى التذكير بكرامة الأستاذ، ولا إلى هذا العبث المعلن لملء الفراغ في غياب استراتيجية واضحة المعالم. ثمة وأد للجهد و للعبقرية، وهناك إسراف في تقوية الفجوات والأخطاء. ما زلنا بمنأى عن عقلية البحث. هذا السياق التاريخي قد يصلح لانشغالات أخرى، لأمور أخرى، لقدر آخر، لتطوير البحث عن المصالح. أما أبناء هذا الجيل فعليهم أن ينتظروا أطول، لا مكانة لهم ولا مكان. قدرهم أن ينشطوا في جهات أخرى لا تضع لهم دفترا تعيسا خاصا بالبرنامج الوطني للبحث. الدفتر الذي نملأه بالأكاذيب نكاية في الهيئات الوصية لتصبح العلاقة بين الباحث و بعض المسؤولين كعلاقة توم و جيري، علاقة مطاردة أو كذب، لا غير.




سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)