الأمير عبد القادر
من خلال مخطوط نادر
عبد المنعم القاسمي الحسني
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبيينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
مداخلة خاصة بالملتقى الدولي الخاص بالأمير عبد القادر بالحامة الجزائر العاصمة مايو 2005.
إعداد الأستاذ عبد المنعم القاسمي الحسني, أستاذ بجامعة ورقلة, مكلف بالإعلام والاتصال بنفس الجامعة.
يتضمن نص المداخلة ما يلي:...
تمهيد،
التعريف بصاحب المخطوط,
التعريف بالمخطوط,
أهميته,
النص,
أهم النقاط التي جاءت فيه,
خاتمة.
تمهيد:
إن الكتابة عن الأمير عبد القادر وتاريخه أمر مدهش وصعب في نفس الآن, أن نقول كلمة تستوفيه حقه أمر مستحيل, وإلى الآن وبالرغم من ظهور مئات الدراسات والكتابات التاريخية التي تناولت جوانب متعددة من حياته المليئة بالبطولات والمواقف الإنسانية الخالدة, لم نجد من قال الكلمة الفصل في تاريخ هذا الرجل العظيم عظمة هذا البلد, الصامد صمود هذا البلد الوفي وفاء هذا البلد.
تاريخ الأمير عبد القادر تاريخ عظيم مشرف وهي حقيقة لا يستطيع إنكارها إلا جاحد مكابر, عطرت سيرته تاريخ هذا البلد المليء بالبطولات والأمجاد, ولا يحتاج منا إلى تشريف أو تكريم.
الناظر والمتفحص في تاريخ الأمير عبد القادر, يخرج بحقيقة واحدة هي إيمانه بالإنسان وما يمكن أن يقدمه للإنسانية، تاريخ غني ثري يحتاج إلى سنوات جهد طويل للكشف عن كل حقائقه وخباياه, فها نحن إلى يوم الناس هذا لا نزال نكتشف كل يوم حقيقة أخرى وفكرة أخرى كنا نجهلها.
إنني بمداخلتي البسيطة هذه أحاول أن ألفت الانتباه إلى مسألة تكتسي أهمية كبرى في تاريخنا المعاصر, وذلك من خلال تاريخ الأمير عبد القادر نفسه, وهي أن كتابة تاريخنا المعاصر تعتمد في مجملها على المصادر والبحوث والدراسات الأجنبية, وقلما ونادرا ما نجد مصدرا عربيا تناول بالحديث الفترة التي نتكلم عنها( [1]), فتاريخ عبد القادر أخذنا معظمه من مصادر أجنبية, وهي حقيقة يجب أن نقبلها ونعمل على عدم الإبقاء عليها, فقد ولى الزمن الذي كنا نعتمد فيه على الغير في كتابة تاريخنا, ورجعت السيادة إلى أصحابها الحقيقيين, ولهذا قد لا أكون مبالغا إذا قلت إننا اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالبحث الجاد والعلمي والمسئول عن تاريخنا بأنفسنا نحن, وبأقلامنا نحن, إذ مهما كانت قدرة هذا الأجنبي فلن يستطيع فهم الحقائق كما يفهمها أصحاب الشأن الحقيقيين.
يقول الأستاذ أسد رستم في كتابه مصطلح التاريخ: " إذا ضاعت الأصول ضاع التاريخ معها, هذه قاعدة عامة لا موضع للجدال فيها, وذلك أن التاريخ لا يقوم إلا على الآثار التي خلفتها عقول السلف أو بأيديهم, فإذا سطت محن الدهر أو عوادي الزمن على بعض هذه الآثار وأزالت معالمها فقدها التاريخ, وكانت كأنها لم توجد, وبفقدها يجهل تاريخ عصرها ورجالها, أما إذا بقيت وحفظت فقد حفظ التاريخ فيها"( [2]).
ومن هنا أيضا تتجلى لنا أهمية هذه المداخلة والتي تحمل عنوان: الأمير عبد القادر من خلال مخطوط نادر.
وهو مخطوط ((ذخيرة الأواخر والأول في ما ينتظم من أخبار الدول)), للمؤرخ والفقيه الجزائري أبو حامد العربي المشرفي الغريسي دفين فاس, المتوفى سنة 1893م.
وقبل المضي في تحليل هذا النص الذي أخذناه من الباب المتعلق بتاريخ الجزائر, يحسن بنا أن نعرف بالمؤلف ثم بالكتاب.
التعريف بصاحب المخطوط:
أبو حامد العربي بن عبد القادر المشرفي، عالم, فقيه، مؤرخ، لغوي وأديب جزائري، عاش في القرن التاسع عشر، وهو ما يعني بالنسبة للعالم العربي عصر النهضة والصحوة، ويعني بالنسبة للجزائر فترة الاحتلال والاضطهاد، عاصر نهاية الوجود التركي وبداية الوجود الفرنسي وهو بذلك ينتمي إلى ذلك الجيل المخضرم الذي شهد الفترة الأخيرة من الوجود العثماني وبداية الاحتلال الفرنسي، ومن الطبقة المثقفة التي صدمت بوجود المحتل الأجنبي
ينتمي إلى أسرة المشارف المعروفة بالغرب الجزائري, وهي إحدى الأسر العلمية العريقة في الجزائر والتي أدت دورا كبيرا في الحركة العلمية والثقافية ببلادنا نهاية القرن الثامن عشر وطيلة القرن التاسع عشر، وقد برز منها عدد كبير من العلماء والفقهاء، وتولوا مناصب عالية في الدولة، خصوصا القضاء، قال صاحب "القول الأعم": "ولم تتعد الرئاسة فيما علمناه دار الشيخ المشرفي وأولاده، فإنهم الذين كانوا معتبرين عند الأتراك، وكانت لهم ولاية في خطة الشريعة ( القضاء ) أيام الأتراك وأيام ابن عمنا الأمير عبد القادر". ويقول المشرفي: "وكان بها ( غريس ) من علماء المشارف جم غفير ونفير كثير.... منهم بن عبد الله سقط، مصطفى بن الطاهر، والحاج عبد القادر الأحمر والسيد بن عبو بن مصطفى ".
وعبد القادر والده، ليس هو عبد القادر عالم الراشدية المعروف، إذ أن هذا الأخير قد توفي سنة 1192 ه = 1778 م، وهو تاريخ يبعد أن يكون تاريخ ميلاد أبي حامد، ثم أن عبد القادر المشرفي عالم الراشدية هو عبد القادر بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن أبي الجلال، وهذا نسب يختلف عن الذي ذكره أبو حامد المشرفي.
ولد بقرية الكرط الواقعة بسهل غريس، ولا نعرف بالضبط تاريخ ميلاده لأن المصادر لا تسعفنا بذلك، إلا أننا نستطيع أن نضع احتمال مولده في بداية القرن التاسع عشر، لأنه قد بلغ مرحلة الرجولة أو الشباب على الأقل عند دخول الاستعمار الفرنسي سنة 1830.
شرع في طلب العلم منذ الصغر على عادة أهل بلده ، فدرس العلوم المعروفة في عصره, فتعلم أولا في مسقط رأسه بمعسكر، وأخذ عن بن عبد الله سقط، الشيخ أحمد بن التهامي والد مصطفى بن التهامي خليفة الأمير عبد القادر، الطيب بن عبد الرحمن, وعن السنوسي بن عبد القادر...وغيرهم من علماء معسكر الراشدية.
انتقل بعدها إلى مستغانم حيث درس على يد كل من: السيد محمد بن صابر، محمد بن عامر البرجي، محمد بن عاشر، عبد القادر بن القندوز، خليل الفرندي( [3]).
ولا تزال حياة المشرفي يسودها نوع من الغموض بالرغم من محاولتنا تكوين صورة واضحة عنه، ولا نملك معلومات كثيرة عنها للأسف الشديد، فلم نجد مصدرا يمدنا بتفاصيل دقيقة عن حياته إلا ما تناثر في مؤلفاته أو كنانيشه، أو بعض المؤلفات التي ردت عليه.
ومع هذا فسنحاول تقديم عرض سريع موجز عن محطات حياته:
شارك في المقاومة في بدايتها مع والده الذي يظهر أنه كان من قادتها الكبار قبل مبايعة الأمير عبد القادر، وقام بإنشاء رباط حول وهران، وجاء في ((طرس الأخبار)): "وضممنا إلينا الإخوان الذين خرجوا من وهران بعد احتلالها وزودناهم بما قدرنا وكسوناهم بما وجدنا، بعد أن تركوا متاعهم ونهب المحاربون بضائعهم"، وفي موضع آخر يقول:" وشاهدنا في تجهيز موتاهم فوران المسك من قبور روضاتهم، وصحبتهم في القتال تزيد لذة الرجال", عند الحديث عن المعارك التي خاضها المواطنون في بداية المقاومة.
هاجر إلى المغرب بعد انتهاء مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، ويبدو أنه كان قد تجاوز فترة الشباب عند مغادرته أرض الوطن.
عرف باهتمامه بالتاريخ وحبه لرواية الأحداث التاريخية، ويظهر لنا ذلك من خلال سرده للأحداث والوقائع التي مرت بها البلاد، وكتاباته العديدة في مجال التاريخ، والتي تمثل معظم مؤلفاته التي وقفنا على عناوينها، حتى أنه لقب ب"جهينة الأخبار"، ثم أنه قد كان على اتصال بابن خالته محمد الزروالي ، الذي كان مهتما بجمع الأخبار عن الجزائر أثناء فترة الاحتلال.
في مدينة فاس اشتعل بالتعليم، تعليم الصبيان القرآن الكريم، أو معلم من الطبقة الثانية كما يقول هو عن نفسه " وكل هذا إني معدود من حزب الغرباء وإن كنت عندهم من جملة الأدباء وفي الطبقة الثانية من المدرسين". وقد استنتج الدكتور سعد الله من ذلك: " أن مستواه العلمي لم يكن عاليا، إنما كان من الطبقة المتوسطة من المتعلمين"، لكنا نجده يدافع عن نفسه بأن هذا الأمر نتيجة عدم اعتراف بسعة المغاربة علمه، وأنهم كانوا يعتبرونه أجنبيا عنهم، وقد كان دائم الشكوى من معاملة المغاربة له لذا لم يولوه أرفع المناصب العلمية، وهو كلام قد يكون على جانب كبير من الصحة.
زار الجزائر مرتين بعد هجرته وذلك في أثناء طريقه إلى الحج، وكانت الزيارة الأولى سنة 1265 ه = 1849م والثانية سنة 1294 ه = 1877 م، وهو ما ذهب إليه جميع من أرَّخ لحياته مثل" بيريس" و" ابن سودة "، وهو ما يؤكده قوله: "...فقد زرت ضريحه المبارك ( الإمام الثعالبي ) في رمضان عام خمسة وستين في سفري لحجة الضرورة، وزرته زورة أخرى أربع وتسعين ومائتين وألف"( [4]). توفي المشرفي سنة 1313 ه الموافق لسنة 1895م( [5])، بمدينة فاس وبها دفن( [6]).
مؤلفاته:
كتب المشرفي في مجالات متنوعة من أدب وفقه ولغة وتاريخ وتصوف وسيرة وما إليها من العلوم والفنون، وهو ما يعكس اهتماماته المتنوعة وإطلاعه الواسع على مختلف علوم عصره. وترك العديد من المؤلفات، بلغت واحدا وعشرين مصنفا على الأقل.
تحتل مؤلفاته أهمية كبيرة في التاريخ الثقافي للمنطقة، ويمكننا تقسيمها على حسب الموضوعات:
أ التاريخ: على اعتبار أنه اشتهر بالتاريخ أكثر من غيره من العلوم: تاريخ الدولة العلوية، ذخيرة الأواخر والأول، رحلة إلى شمال المغرب، الرحلة الجزائرية، الرحلة العريضة لأداء الفريضة، رحلة القبائل الجبلية، طرس الأخبار بما جرى آخر الأربعين من القرن الثالث عشر للمسلمين مع الكفار في عتو الحاج عبد القادر وأهل دائرته الفجار: وقد ذكره المشرفي ضمن قائمة مؤلفاته التي أوردها في نهاية مخطوطه، وتناول فيه أحوال الجزائر في عهد الأمير عبد القادر، وما جرى من الأحداث والمواقف، ويبدو فيه أنه كان ضد الأمير، ويتبنى وجهة نظر مخالفة لطريقة الأمير، ذكر فيه تولية الأمير، والأعمال التي قام بها.
(ب ) اللغة والأدب: تقاييد على شرح المكودي، ديوان المشرفي، شرح القصيدة الشمقمقية، مشموم عرار النجد والغيطان المعد لاستنشاق الوالي وأنفاس المولى السلطان.
(ج) الردود والكنانيش وغيرها: الآيات الحوادث، أثمد الأبصار فيمن بعهد الله يوفون، أقوال المطاعين في الطعن والطواعين، تقييد في ذم البلديين أهل فاس، الحسام المشرفي لقطع لسان الشاب العجرفي، الدر المكنون في الرد على العلامة جنون، عجيب الذاهب والجائي في فضيحة الغالي اللجائي.
التعريف بالمخطوط:
((ذخيرة الأواخر والأول فيما ينتظم من أخبار الدول)) ألفه الشيخ أبو حامد العربي المشرفي، في التاريخ العام من أيام سيدنا آدم عليه السلام إلى يوم التاريخ 1299 ه= 1881م، يتألف من مقدمة، ستة أبواب وخاتمة، وضعه تلبية لطلب أحد أقاربه وطلبته، أجاب فيه عن السؤال المركزي والمحوري الذي كان يشغل بال الجالية الجزائرية المهاجرة في المغرب والتي لم تكن تعرف شيئا عن أوضاع الجزائر أواخر العهد التركي وبداية الاحتلال الفرنسي، وهي الفترة التي كان المشرفي معاصرا لها، والسؤال هو: ما هي الأوضاع السائدة في تلك الفترة، وماذا كانت معاملة الأتراك للجزائريين وأعمالهم بالجزائر؟ كما سأله أن يضع تاريخا للدولة العلوية التي كان يعيش في كنفها هذه الجالية المهاجرة، على أساس أن المشرفي قد عايش تلك الفترة وله بها علم ومعرفة، وأنه أيضا كان معتنيا بعلم التاريخ وذو دراية به.
جاء رد الشيخ المشرفي كتابا في 660 صفحة من القطع المتوسط، بخط نسخي رفيع، تضمن تاريخ البشرية كلها منذ عهد سيدنا آدم عليه السلام إلى أيامه.
يقول في المقدمة: "فقد ورد عليَّ مكتوب من لا تسعني مخالفته، وتتأكد علي بالقرابة إجابته، أن أضع تقييدا قاصرا على سيرة ملوك الأتراك بالأيالة الجزائرية، وذكر ما شاهدناه أو سمعناه من فعالهم الممدوحة، أو التي على الضد مقدوحة، مما لا يجد المؤرخ عن سبيله مندوحة، وعلى مدة ملكهم، ووفاه جري فلكهم، وأسباب خراب الدولة، بحيث لم تبق لهم في الرعايا جولة.
كما طلب مني ما نعلمه من سيرة ملوك الدولة العلوية ونسبتهم الشريفة النبوية وتاريخ وفاة ملوكهم، ومن انضم في ملك سلوكهم، من غير إهمال للحكايات المتعلقة بقوادهم وقضاتهم، وفي ضمن ذلك ذوو الجاه المستشفعين عند ولاتهم على سبيل الاختصار المقل، وعدم البسط والتطويل الممل، فلبيَّته لما دعاه، وأجبته لمسعاه، وإن كنت لست أهلا لذلك، ولا ممن يسلك أوعر تلك المسالك..."، وفد تضمن الكتاب ستة أبواب هي:
1 الباب الأول: في بدء الخلق وتكوين آدم.
2 الباب الثاني: في أطوار الإنسان من أول خلقته إلى موته.
3 الباب الثالث: في دولة آدم ومدة حياته، وكم بينه وبين كل رسول.
4 الباب الرابع: في الدول التي قبل الإسلام إلى دولة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم.
5 الباب الخامس: في دول الإسلام من دولة نبينا صلى الله عليه و سلم والخلفاء الأعلام إلى الدولة العثمانية، والوجود التركي بالجزائر، ومن لحق عليه المؤلف من ملوك الأتراك في حدود الأربعين من القرن الثالث عشر الهجري (19 الميلادي) وبداية الاحتلال الفرنسي للجزائر.
6 الباب السادس: في الدولة العلوية بالمغرب الأقصى.
أهميته:
ويعتبر كتاب ذخيرة الأواخر من أهم المصادر التي تحدثت عن جزائر ما بعد الاحتلال، ومن المراجع العربية الجزائرية الأساسية للتعرف على الحياة العلمية والثقافية في تلك الفترة، فقد ترجم فيه لعدد كبير من العلماء ( أكثر من عشرين ترجمة )، وعرف بجماعة من العلماء لا نجد فيما بين أيدينا من المصادر ذكرا لهم مثل: أحمد بن البشير المختاري، محمد بن أبي سيف البحيري، الطاهر بن حسن المختاري... وهو مما يضفي على الكتاب أهمية خاصة، إذ حافظ على جزء هام من تاريخنا الثقافي والعلمي، كما تحدث فيه عن أهم القضايا الثقافية التي كانت محل نقاش وجدل: الهجرة، العدل، الرحلات، المسائل الفقهية...
اهتم المشرفي بالأحداث التاريخية التي عايش بعضها وسمع عن بعضها الآخر: ثورة درقاوة، ثورة التيجاني، دخول الاحتلال الفرنسي، مبايعة محي الدين، مقاومة الأمير عبد القادر، مما يضفي على كلامه أهمية خاصة باعتباره شاهد عيان على هذه الأحداث الجسام...الخ.
نقل عن والده وعن علماء الواسطة، نقل عن سابقيه، بناء الجزائر العاصمة، دخول الأتراك... الخ، وسجل لنا انطباعاته وآرائه حول الأوضاع السائدة آنذاك. بكل تحرر وعفوية مطلقة تحسب له، وتترك لنا المجال واسعا للتحليل والتركيب من جديد.
تضمن الكتاب معلومات مهمة تتعلق بمختلف أوجه الحياة مثل: العادات والتقاليد، اللباس، العمران تشييد المدن وبنائها، التجارة، المرافق العامة كالحمامات والفنادق، الزراعة أهم المحاصيل الزراعية...الخ، مما يجد فيها الباحث بغيته، ويسهل عليه مهمته العلمية.
يعبر الكتاب بصدق عن موقف مؤلفه من الأحداث والمواقف التي مرت بها البلاد فهو عند حديثه عن ثورة درقاوة لم يخف إعجابه الكبير بها، وعند حديثه عن ثورة أولاد سيدي الشيخ لم يخف معارضته الشديدة لها، وعند حديثه عن اهتمام الأتراك بالعلماء لم ينكر هذه الحقيقة بالرغم من موقفه المعادي لهم.
اعتمد المؤلف على بعض المؤلفات الجزائرية السابقة عنه مثل: نحلة اللبيب لابن عمار،كتب أبي راس المعسكري، حميدة العمالي، مسلم بن عبد القادر... وغيرهم من العلماء الجزائريين، ونقل من بعضها نصوصا كاملة كما حدث بالنسبة لرحلة ابن عمار.
عبَّر المشرفي عن عصره من حيث طريقة كتابته (إدراج الأمثال والحكم والأبيات الشعرية والقصص)، ومستوى لغته التي جمعت الأسلوب السهل والعبارات الواضحة مع الألفاظ العامية والتعابير الدارجة، واستعماله لكثير من الألفاظ العامية التي عرفت في تلك الفترة، دل على انجرافه مع التيار السائد في تلك الفترة وعدم تمكنه من الخلاص منه، وهي ألفاظ وعبارات كانت باستطاعته الاستغناء عن ادراجها باللغة الأجنبية أو اللهجة العامية، ومع هذا فقد ترك الحرية لقلمه يساير عصره. وهو ما نجده أيضا في كتابات معاصريه كالآغا المزاري، أحمد بن المبارك القسنطيني، العنتري، مسلم بن عبد القادر....
تفاعل المشرفي مع قضايا عصره وإحساسه القوي بما يعانيه قومه من التخلف والانحطاط والتفرق، ودعوته إلى التنظيم والاتحاد والأخذ بالأسباب، يجعله في مقدمة المؤرخين والكتاب الذي أحسوا بمسؤولياتهم تجاه وطنهم وشعبهم، ومن الذين دعوا إلى التحضر والاستعداد والتمسك بالأسباب الرقي لبلوغ القدرة على مواجهة العدو، ولم ينس يوما انتمائه إلى وطنه الأم، كما يعبر عليه في ثنايا كتابه.
المشرفي وثورة الأمير:
كتب المشرفي عن ثورة الأمير كثيرا, وخصها بتأليفين هما:
طرس الأخبار بما جرى آخر الأربعين من القرن الثالث عشر للمسلمين مع الكفار في عتو الحاج عبد القادر وأهل دائرته الفجار: ذكره المشرفي ضمن قائمة مؤلفاته التي أوردها في نهاية المخطوطة، وتناول فيه أحوال الجزائر في عهد الأمير عبد القادر، وما جرى من الأحداث والمواقف، ويبدو فيه أنه كان ضد الأمير، ويتبنى وجهة نظر مخالفة لطريقة الأمير، ذكر فيه تولية الأمير، والأعمال التي قام بها, والمعارك التي دارت بين الجزائريين وجيش الاحتلال الفرنسي قبل تولية الأمير...
توجد منه عدة نسخ واحدة بالمكتبة الوطنية بالحامة مصورة على الميكروفيلم، نسخة أخرى بالمكتبة الملكية بالرباط تقع في 60 ورقة، تحت رقم 1467. ونسخة أخرى بالمكتبة نفسها، مبتورة الوسط، تحت رقم 6533 ( [7]).
عجيب الذاهب والجائي في فضيحة الغالي اللجائي: رد فيه على الغالي بن محمد العمراني الحسني اللجائي، حيث كان يتنطع على الأمير عبد القادر" والمشرفي كان ينتصر له"( [8]) حسب ما ذكر بن سودة. ولم نقف على هذا التأليف لنعرف محتواه بالضبط, لكن الظاهر أنه في الدفاع عن ثورة الأمير, وهو موقف اتخذه المشرفي على ما يبدو بعد هجرته إلى المغرب, إذ أننا نجده قبل ذلك اتخذ موقفا مغايرا, وذلك أثناء وجوده في الجزائر, تحت نير الاحتلال الفرنسي.
وفي هذا المخطوط تحدث عن ثورته باختصار على أساس أنه قد سبق له أن تناول الموضوع في كتب أخرى, وأشار إلى ما كتبه.
ومن هنا نستطيع القول أن موقف المشرفي من ثورة الأمير مر بمرحلتين:
أ المعارضة والدعوة إلى الإصلاح:
وباطلاعنا على طرس الأخبار نجد أن جل انتقاداته للأمير عبد القادر مبنية على عدم الاختيار الحسن للأعوان والحكام الذين ينوبون عنه.
أما في شخصه أو سيرته فلم نجد ما يشير إلى أن الرجل لم يكن يحبذ حكمه, أو يدعو إلى مناهضته, وإن كانت لفظة عتو في حد ذاتها قد تعطي انطباعا عن موقف معارض عنيف, والمعروف عن المشرفي أنه كان رحمه الله سليط اللسان.
بدا عليه التسرع في الأحكام, ووصف الأوضاع التي كان يعانيها الشعب تحت حكم الاحتلال, التفاصيل الدقيقة عن المعارك التي جرت. أسلوب الحجاج واللجاج.
ب التأييد والدفاع:
وهو ما نجده في كتابيه عجيب الذاهب والجائي وذخيرة الأواخر في النص الذي بين أيدينا، وقد بدا الكاتب هادئا ثابتا بلغ من العمر مبلغا سمح له برؤية الأشياء بكل موضوعية ونزاهة ويبدو أنه قد تخلى عن مواقفه السابقة, ويبدو أن العامل الذي حمله على تغيير موقفه من الأمير عبد القادر, هو وضوح الصورة لديه, وأن الحقيقة التي كان عليه أن يدركها هي أن الأمير فعلا كان مجاهدا مدافعا عن دينه وشرفه وشرف بلاده, ولم يكن طالب جاه أو سلطة أو مال.
النص:
خصص الكاتب أكثر من خمس صفحات في باب دولة الأتراك, تناول فيها مقاومة الأمير عبد القادر, ورسم لنا صورة كتابية عنه وقد كان معاصرا له, وشاهدا على وقائع كثيرة حدثت في بداية الاحتلال, إذ كان من الذين شاركوا في المقاومة الشعبية بقيادة الشيخ محي الدين قبل تولي الأمير, وذلك في منطقة وهران, كما يذكر ذلك بنفسه في كتابه الآخر عن المقاومة الجزائرية: (( طرس الأخبار)).
كما يستشف من كلامه أنه لم يشارك في ثورة الأمير عبد القادر, لكنه يعرف عنها الكثير بحكم إقامته بفاس التي كانت ملجأ لكثير من الجزائريين الذين فروا من نير الاحتلال الفرنسي, وهم من المصادر الأساسية التي أخذها عنها معلوماته.
كتب النص في حياة الأمير عبد القادر, وبعد انتهاء المقاومة, ونفيه إلى الشام, 1881م. وينقسم إلى جزئين:
جزء جاء عرضا أثناء الحديث عن المقاومة الشعبية, والتاريخ لها.
والثاني لخص فيه ما ذكره في كتابه عجيب الذاهب والجائي, كما يذكر هو نفسه, وأضاف إليه هجرة الأمير إلى الشام, إذ أن الكتاب الأول قد توقف عند هجرة الأمير إلى بروسة. وقد تعرض المشرفي في هذا النص لمختلف مراحل مقاومة الأمير:
1 مرحلة الانتصارات: "وسل عن تردده في الميدان "بيجو" وأحبار الرهبان، وسل عن تردده في الصفوف أودية "سيك" وشعاب"خروف"، وسل نصارى مستغانم، وكم أخذ لهم من أسارى في الغنائم، وسل ثنية "مُزايا" ..."
2 المرابطة على الحدود: "ودائرة أميرنا الحاج عبد القادر انتقلت إلى نواحي وجدة بخيلها ورجلها، ولم تترك غزوا على عدوها، وكانت تغنم من الروم الغنائم بحيث لا تخلو غزوة من قتلى وأسرى...".
أهم النقاط الواردة في النص:
ولعل من أهم النقاط التي تناولها المؤرخ, وأضاف لنا فيها الجديد:
1 البيعة:
"فتعلقت أهل العقد والحل بأذيال شيخ الوسيلة سيدي "محي الدين بن المصطفى بن المختار القادري المختاري الحسني"( [9])، واختاروه للإمامة لخوفه من ربه وصلاحه ودينه فلم يجبهم لما طلبوا بعد أن راودوه كثيرا وهو يمتنع حتى هددوه، فأخرج لهم ولده عبد القادر وهو يومئذ صغير وبايعه بخط يده، فتبعه العلماء وأعيان الرعية من الحشم وغيرهم...". وقد حضر البيعة آل المشرفي وقد يكون أبو حامد معهم, سواء في البيعة الخاصة أو البيعة العامة.
2 إشارة إلى بعض معاركه:
تحدث المشرفي عن بعض انتصارات الأمير عبد القادر, وأشار إلى بعض معاركه الحربية التي قادها ضد جيوش الاحتلال وذلك قبل خروجه إلى الأراضي المغربية, ويكون بذلك قد قسم المقاومة إلى مرحلتين:
أ قبل إقامة الدائرة:
"وسل عن تردده في الميدان "بيجو"( [10]) وأحبار الرهبان، وسل عن تردده في الصفوف أودية "سيك" وشعاب"خروف"، وسل نصارى مستغانم، وكم أخذ لهم من أسارى في الغنائم، وسل ثنية "مُزايا" وما نال في قتالها من المزايا، وسل بسيط "متيجة" وكم ظهرت لهم فيه من نتيجة، معارك سهل متيجة، وسل"وادي الزيتون" وكم سفك من دم في روضة الهتون، وسل جبال"زواوة" الشوامخ والأطواد الرواسخ، عن دخوله على العدو فيها دخول النواسخ، وسل جبال أحواز "الجزائر" و"شرشال"..."
ولا بأس من التذكير ببعض المعارك الهامة التي ورد ذكرها هنا:
في شهر نوفمبر 1839, وفي أواخر ديسمبر 1839 كان الأمير قد سيطر على كل المناطق المجاورة للجزائر العاصمة.
27 مارس 1840 هجومات جيش الأمير على المراكز الفرنسية المقامة بشرشال.
وقعة موزايا: 17 ماي 1840: خرج الماريشال فالي, على رأس جيش عدده 12 ألف مقاتل, باتجاه مدينة المدية لاحتلالها, وفي مضيق موزايا, هاجمهم الأمير عبد القادر, وأسفر القتال عن هزيمة الجيش الفرنسي وقتل المئات من الجنود.
وقد حاصرت قوات الأمير بقيادة مصطفى بن التهامي المدينة, واستطاعت الوصول إلى سور المركز الفرنسي, وأسرت العديد من الجنود الفرنسيين, وأثارت هذه الأحداث ردود فعل كبيرة في الأوساط الاستعمارية.
ب بعد إقامة الدائرة: وتحدث فيها عن المعارك التي كان يقوم بها الأمير من حين إلى آخر, كما سيأتي معنا في موضعه.
3 موقف أهل تلمسان من الأمير:
لعل من أهم النقاط التي تعرض لها المؤلف هي موقف كراغلة تلمسان من الأمير عبد القادر, وموقف قبائل بني عامر من خليفته البوحميدي، وجعله من الأسباب الرئيسة في انهيار المقاومة, وذلك في قوله:"لكن أبى الله أن يمضي له أمر الخلافة في أمة نبيه صلى الله عليه و سلم بسبب رجل أمّره على قبائل "بني عامر" وجعله نائبا عليهم وخليفة في مدينة تلمسان، وأحوازها فخيَّم بها، وأجرى أحكامه في جبال "بني سنوس" وجبال" تراره" والسواحل التي بعدها، ومدَّ يده في قبائل بني عامر بحكم التفويض، فرموه بعشق امرئ القيس، وجار في حكمه وعسفهم وخفض رتبة أكابرهم وصناديدهم، فركّب ونزّل وولىّ وعزل ورفعوا به الشكوى إليه فلم يزل شكواهم، فصبت قلوبهم إلى الخروج عنه مقدمة بأن اجتمع أكابرهم ورؤساؤهم على تأمير رجل بوشيخي يقال له "محمد بن عبد الله" فأمَّروه عليهم بواسطة أكابر الدوائر وصاروا يتحاكمون عنده، وكان بليد الطبع لا يحسن الحكم إلى أن قضى الله باضمحلال "البوحميدي" ومن والاه رجع الحكم للإفرنج وسلم الحد لمحدوده".
وهنا نستطيع القول أنه يسجل موقف القبائل التي تسبب البوحميدي في إخراجها من دائرة الأمير عبد القادر وهي قبائل بني عامر, وقد اضطرت إلى الذهاب إلى فاس, وإلا فالمعروف عنه البوحميدي أنه من خلفاء الأمير عبد القادر الأشداء والذين وقفوا معه إلى آخر أيام المقاومة حتى وفاته بسجن السلطان عبد الرحمن مسموما. وهو الأمر الذي يؤكده الأمير محمد باشا من أنه كان "سببا في نزوح بني عامر إلى المغرب، بما بثه فيهم من الرعب وبتحريضهم على إعلان العصيان على الخليفة مصطفى بن التهامي"( [11]).
وهو ما يذهب إليه أيضا المؤرخ عبد الرحمن الجيلالي في تاريخ الجزائر العام( [12]).
4 دائرة الأمير عبد القادر:
تحدث المشرفي عن الدور البارز الذي لعبته دائرة الأمير في مقاومة المحتل الأجنبي.، فقال: "و((دائرة)) أميرنا الحاج عبد القادر انتقلت إلى نواحي وجدة بخيلها ورجلها، ولم تترك غزوا على عدوها، وكانت تغنم من الروم الغنائم بحيث لا تخلو غزوة من قتلى وأسرى".
فبعد سقوط الزمالة وهي عاصمة الأمير المتنقلة, يوم 16 ماي 1843, وبقي معه عدد قليل من القبائل ومن المقاتلين, أعاد تكوين عاصمته المتنقلة وصارت تسمى "الدائرة", ولكن سكانها لم يتجاوزوا الألف نسمة, بينما كان سكان الزمالة ييجاوزون 60 ألف نسمة, وتمتد خيامها من نبع طاقين إلى سفح جبل عمور( [13]).
ولما اشتدت محاصرة الجيش الفرنسي لتحركات الأمير انتقل بدائرته إلى الحدود المغربية, أين أقام حول نهر ملوية وراء جبل بني يزناس. وظلت من هناك تقوم بعمليات هجوم على الجيش الفرنسي, ويحاول من خلالها تخفيف الضغط عن خلفائه داخل الوطن.
وهي دليل آخر على إيمان الأمير عبد القادر بتمسكه بشعبه وإيمانه أنه سيعيد ترتيب الجيش من جديد, وأنه بإمكانه أن يعطي نفسا جديدا للمقاومة المسلحة, وأن النصر سيأتي بإذن الله.
5 معركة سيدي إبراهيم:
"تعرض يوما لغزوة الحاج عبد القادر بطريق من بطارقة الفرنسيس يقال له "القريني"( [14]) وهو من أبطالهم وفرسانهم مشهور عندهم بالشجاعة، ولقي الحاج عبد القادر في بلاد الأعشاش فالتقى الجمعان، فلم تمض ساعة من النهار حتى لم يبق من جيش البطريق إلا عشرة رجال أو أقل من جنده دخلوا قبة ولي وتحصنوا بها في أرض خالية من العمران ومن حام حولهم من المسلمين يرمونه من باب القبة، ولما جنَّ عليهم الليل خرجوا فأخذوا وقتلوا وبقيت أجسادهم مطعمة للرخم وللنسور وما مات جيش القريني حتى مات بطريقه. يقال أن الحاج عبد القادر بارزه فكانت رمية الحاج عبد القادر في مقتله، ولم تصب رمية البطريق مقتل الحاج عبد القادر بل أصابت عضوا من أعضاء جسده فجرحته والله أعلم".
في إشارة إلى معركة "سيدي إبراهيم" قرب الغزوات، والتي انهزم فيها العدو، بتاريخ 25 أكتوبر 1845، وكان على رأس الجيش الفرنسي الكولونيل "دومونتنياك", وقد قضى الأمير فيها على كبار ضباطه منهم: كوربي وهو ربما الذي تناقلته الألسن العربية فأصبح القريني وكونيار وكوسط( [15]), ولم ينج من القتل سوى ثمانين جنديا، التجأ كلهم إلى ضريح الولي الصالح سيدي إبراهيم، وأحاطت بهم جنود الأمير من كل جهة وضيقت عليهم الحصار وقتلت منهم نحو السبعين جنديا وأسرت العشرة الباقية، ولأول مرة منذ أشهر الأمير سلاحه مسته رصاصة، وذلك في شحمة أذنه( [16]).
6 معركة عين تيموشنت:
"وغدوة صباح هذه الوقعة زاد الحاج عبد القادر بمن معه من الفرسان مجدا في السير إلى أن دخل أرض "بني عامر"، فصادف جيشا للروم خرج في طلبه أو ذاهبا إلى تلمسان فوقف السيد المذكور ليتهيأ لمحاربته، فقلب الجيش راية المكاحل وأسلم نفسه للانقياد، جرَّده الحاج عبد القادر من السلاح وساقه بدوابه ومئونته أسيرا إلى أن أتى به للموضع الذي هو مخيم به قتل من قتل وأبقى من أبقى".
الحديث هنا عن قافلة عين تموشنت, بقيادة الملازم أول "ماران", يوم 28 أيلول, التي استسلمت للأمير: وهي القافلة التي أرسلها كافينياك بحراسة 204 من عناصر بإمرة الملازم أول ماران, لتعزيز حامية عين تموشنت, فأسرع الأمير إلى سيدي موسى حيث فاجأها في 28 أيلول, واستسلمت دون مقاومة, وأرسل الأمير جميع عناصرها وهم ثلاث ضباط, و10 رتباء, و20 عريف, و171 جندي إلى دائرته وضمهم إلى أسرى واقعة سيدي إبراهيم( [17]), ويبدو أنهم قتلوا مع من قتل في قضية مقتل أسرى سيدي إبراهيم الذي أمر بقتلهم مصطفى بن التهامي, كما هو معروف تاريخيا.
ويؤكد المشرفي حقيقة سيطرة الأمير على الجيش الفرنسي في هذه الفترة فيقول: "واشتدت وطئته على الفرنسيس"، وذلك بعد تطبيق طريقة الكر والفر التي اعتمدها الأمير ضد قوات الاحتلال, إذ كان يهاجم سراياها ثم ينسحب من أمامها ليتمركز في موقع آخر, يشرف على تحركاتها, وهو ما يتجلى في مراسلة كافينياك بتاريخ 30 أيلول 1844 إلى لامورسيار الحاكم العام بالوكالة, إذ قال: "لقد أصبح عبد القادر سيد البلاد التي تمتد بين الحدود الشمالية وأعلي نهر التافنة, إنه لنجاح هائل لعبد القادر, وأنا أشعر أنني عاجز عن وضع عوائق في طريق زحفه"( [18]).
7 الصراع بين المغاربة والفرنسيين:
ثم يرجع المشرفي إلى الوراء ليتحدث عن الخلاف الواقع بين المغاربة والفرنسيين, والذي أدى في الأخير إلى قيام الحرب بين الطرفين, ونتج عنها اتفاقياتي الصلح المعروفتين: طنجة, للا مغنية.
"إلى أن خرج ابن أمير المؤمنين مولانا محمد بن مولانا عبد الرحمن بن هشام العلوي لمحاربة الفرنسيس في قضية وجدة، وفاجأه المارشال "بيجوا" وهو بساحة المدينة نازلا على ضفتي الوادي عند طلوع الشمس فحصل الروع لمحله الشريف فمنها من ركب لملاقاة العدو، ومنها من صار يجمع حوائجه وافتتن خوفا من الهزيمة وجيش الروم بساحة المحلة.... وانهزمت الركبان مجردة عن أمتعتها وفساطيطها وأخبيتها وخيامها، وتبعت خيل الفرنسيس من أعراب الدجن وغيرهم خيل الهزيمة. وآخر المنهزمين أمير المحلة لأنه لم يظن من قومه أنهم يولون عدوهم الأدبار".
يعود فيتحدث عن الخلاف المغربي الفرنسي, وبالضبط عن معركة وادي سلي 19 جوان 1844 م، التي وقعت بين الجيوش المغربية بقيادة ولي العهد مولاي محمد والجيوش الفرنسية بقيادة "بيجو"، وقد كانت هذه المعركة حاسمة في تقرير مصير الأحداث التاريخية في المنطقة، إذ جعلت حدا للتضامن الذي كان سائدا بين الجزائريين والمغاربة, وقد نتج عنها احتلال بيجو منطقة وادي أيسلي, وتمكن من طرد قوات الأمير محمد في أقل من 10 ساعات.
وبعد هزيمة جيش ولي العهد, أرسل بيجو إلى السلطان المغربي يطلب الهدنة: "...وبهذا كله إن أردت الهدنة بيني وبينك تقبل كذا وكذا, ومن جملة الشروط التي لابد منها إخراج الحاج عبد القادر بن محي الدين من أرضك فإنه مستند عليك. فقبل مولاي عبد الرحمن الشروط وارتفع النزاع بينهما".
وفعلا تمت الهدنة بين الطرفين، فبعد هزيمة ولي العهد المغربي, طلب السلطان المغربي من حكومة سولت الفرنسية توقيع معاهدة صلح لوضع حد لخلافاتهما, وألف المسئولون في كل من باريس وفاس وفدين للتباحث, وبعد مفاوضات عدة في مدينة كاديكس وافق أعضاء الفريقين, على ثمانية شروط ووقعا معاهدة بتاريخ 10 سبتمبر 1844 سميت معاهدة طنجة, أهم شرط هو اعتبار الأمير عبد القادر خارجا عن القانون أينما وجد, وبذلك يجب على السلطتين الفرنسية والمراكشية ملاحقته والقبض عليه, ومن سجنه في إحدى المدن الساحلية المغربية على المحيط الأطلسي( [19]).
8 الصراع بين السلطان عبد الرحمن والأمير:
"وكان يراصد السلطان عبد الرحمن الحاج عبد القادر بسُبة يعتمد عليها ويخرجه من بلاده لأجلها حتى أوقع بفئة "أرغنغان"( [20]) من "ريف قلعية" وقتل منهم عددا عديدا في ما أخذوه له من الماشية التي كاتبهم مولاي عبد الرحمن على ردها له، فلم يمتثلوا أمره ثالث مرة فأصبحوا يقولون السلطان هذا يريد منا بيعته ونصرته".
وفئة "ارغنغان" من ريف قلعية, وقد جاء عن هذه الواقعة في تحفة الزائر ما يلي: "... ولما اتصل الخبر بالأمير وهو بمخيمه ببلاد مكناسة رجع إلى الدائرة ووجد قبيلة "قلعية" أغاروا على كراع الدائرة، فأخذوا منها عددا وفيرا فأسرها في نفسه، وبعد أيام نزل على قبيلة قلعية وبعث إليهم برد ما اختطفوه من الدائرة فأبوا ذلك، وأصروا على بغيهم، فحينئذ سار إليهم في جموعه فأثخن فيهم بالقتل والأسر وأذاقهم شديد النكال ورجع إلى دائرته، وكان أكثر الأسارى من أعيانهم فتعهدوا برد جميع ما أخذته قبيلتهم من الدائرة، وبعد الوفاء بذلك أطلق سراحهم، واشتهرت الواقعة."
وبعد ذلك قامت الحرب بين الجيش المحمدي وجيش السلطان:"...فجهز له السلطان للأمير محلتين عليهما ابناه فقاتلاه وأخرجاه من بلاد السلطان، ونزل بأهله في جبل "بني يزناس" بعد افتراق جمعه".
والمعروف تاريخيا أن السلطان عبد الرحمن قد جهز بناء على طلب الفرنسيين ثلاثين ألف مقاتل بقيادة ولديه محمد وسليمان, وقائد منطقتي الريف ووجدة, وقرر مساعدة الفرنسيين في إلقاء القبض على الأمير, الذي أرسل خليفته البوحميدي إلى السلطان للسماح لهم بالانسحاب إلى الصحراء إلا أن السلطان قتل رسول الأمير.
وبدأت المعارك بين الطرفين يوم 10 ديسمبر 1847، وذلك بالقرب من قلعة سلوان القريبة من بلدة مليلة في الريف المغربي, وهو مكان إقامة الأمير بمخيمه, وكان فرسان الأمير لا يتجاوز عددهم الألفين, وخسر الأمير 150 من جنده, وانسحب إلى نهر الملوية, الذي حاصرته القوات الفرنسية والمغربية, مما أدى إلى استسلام الأمير, بعد نفاذ كل الوسائل والسبل.
9 (استسلام) الأمير:
سجل لنا أحداث (الاستسلام), والمشاورة التي وقعت بين الأمير وكبار القادة ومن بينهم مصطفى بن التهامي, وقد كان الأمير يريد الخروج إلى الصحراء كما مر معنا ولكن غلبه وزيره المصطفى, مما يدل على استعداد الأمير لقبول الآراء والتشاور في القضايا المصيرية, ونحن نعلم أنه قبل ذلك قد تم (استسلام) أخويه محمد السعيد, فصاحب فكرة التوجه إلى الفرنسيين هو مصطفى بن التهامي.
"وأراد الخروج لأرض الصحراء يخيم بها، فغلبه "الحاج مصطفى"( [21]) خليفته ووزيره الأعظم وقال له: "الرأي عندي أن نكتب للفرنسيس يحملنا للإسكندرية، فإن وفى بما نشترطه عليه فذاك، وإن استشعرنا خيانته نبذنا أمره ونظرنا لأنفسنا الموضع الذي يصلح بنا"، فكاتبوه وانتظروا بما يرجع المرسلون فرجعوا بمكتوب جلناراتهم ورؤوسائهم مختومة بخواتمهم وأشهدوا على أنفسهم أن يجيبوهم لما طلبوه منهم، وعاملوا رسل الحاج عبد القادر معاملة التعظيم والتقريب وأعطوهم عهدا وميثاقا بوفاء ما طلب منهم، فوثق الحاج عبد القادر برسلهم وأسلم نفسه بأهله والطائفة التي معه، (واستسلم) لقضاء الله فواجهوه عند ملاقاته بهم بالترحيب والتعظيم، وظن في ركوبه البحر بمن معه أنهم يخرجوه للإسكندرية ويوفوا بالعهد والميثاق الذي واثقوه به، فإذا بهم كاتبوا "رايهم"( [22]) أنهم ظفروا بالحاج عبد القادر وجاءوا به وبأهله وبطائفته أسيرا وأخرجوه لباريس بعد أن طافوا به على مدائن "طلون".
10 منفاه بالشام:
"فها هو بمن معه في حرم القدس، وفي جوار الأنبياء، مطهرا من الرجس وحسد الأنس، مكرَّما عند الناس، معظما بين الأجناس، يذكر ويتذكر، ويتعرف ولا يتنكر، يأمر ويأتمر، ويحج ويعتمر، يشكر ربه ويستغفر ذنبه، نصب نفسه للعبادة، وجعل التقوى ذخيرته وزاده، يصلي الرغائب والغيب يكشف عن العجائب، والله على أمره غالب، ويجمع بين الحاضر والغائب".
النتائج:
يبدو على الكاتب الإعجاب الشديد بشخص الأمير, وقد شبه جهاده بجهاد الصحابة الكرام: "بعد أن جرَّد سيفه على الأعداء وناضلهم مناضلة الصحابة الأشداء، فمشاهد قتالهم أمام وهران عديدة، جاءهم فيها بجنود عريضة طويلة مديدة، وخيله كم لها من غارة على السواحل والثغور فكانت تصهل عليهم في النجد والغور، وكم فرَّق من جموع وأخلى لهم من أماكن وربوع".
قارن بينه وبين الثورات الأخرى, وذلك في ما نستشفه من خلال حديثه عن بقية الثورات التي قامت بالبلاد: كثورة بوعمامة مثلا, التي لم يكن راضيا عنها, واعتبرها مجازفة ومغامرة, فهو يقول عنهم:" وأولاد سيدي الشيخ( [23]) لهم عصبية وحمية، وكمات وأنصار سمية، ولكن ليس لهم عقول تعقلهم عن الرذائل وترشدهم إلى أسنى المقاصد والوسائل، بل قادهم الجهل إلى المهالك، وتدبيرهم تدبير المفالس والصعالك، فالدولة لا تقابلها إلاَّ الدولة، وربما كانت صولة إحداها لا تقابل الصولة، وإن أرادوا التشبه بالصحابة فمطر الديمة لا يشبه السحابة، وأين رأيت المشبه يقوى قوة المشبه به ؟ ".
لم تكن الكتابة بذلك العمق أو الدقة التي نجدها عند الكتاب الغربيين لكن أهم ما ميزها هو الصدق والعفوية في الطرح والتعبير, فهو عند حديثه عن المعارك التي قادها يتحدث بإطلاق وإسهاب, دون ذكر التفاصيل أو الدقائق التي يحتاج إليها المؤرخ, فكتابته كتابة هاوي للتاريخ, أراد أن يدافع عن موقف الأمير تجاه خصومه سواء من الفرنسيين أو من المغاربة أو من الذين خانوه, وأظهر في الأخير أن نية الأمير كانت صادقة إنما الأعمال بالنيات, وهو ما يجازى عليه الإنسان يوم القيام, فنحن مطالبون بالعمل والله يتولى النتائج.
وقد أرجع المشرفي سبب الهزيمة إلى عوامل ثلاثة: أ البوحميدي, ب محاصرة السلطان عبد الرحمن: ج تخلي العرب عنه.
ولعل من الحقائق التي نستفيدها من هذه الكلمة عن الأمير عبد القادر هو وصف المشرفي للشيخ محي الدين والد الأمير, وهو يذكرنا لنا حقائق لم نجدها في غيره من المصادر, مثل: بلوغ محي الدين درجة أمير المؤمنين في الحديث, وأن الأتراك كانوا يتلمحون فيه المهدوية, مما يدل على شيوع هذه العقيدة لدى الأتراك, حتى لدى الجزائريين أنفسهم, وهو ما يفسر لنا اتخاذ هذه الدعوى لدى بعض من قاد الجهاد في الجزائر, في بداية الاحتلال.
وأن سبب منعه من الحج هو خوف السلطات التركية من التفاف القبائل والأعراش حول الشيخ, مما سيؤثر حتما على مكانتهم, أو مما يثير ثورة أخرى مثل التي قادها الشريف بن الأحرش أو الشيخ التيجاني في بداية القرن التاسع عشر ضد الأتراك وهي الثورات التي قمعتها السلطات التركية بشدة وقسوة.
خاتمة:
هذه أهم النقاط التي جاءت في هذا النص النادر لمؤرخ جزائري عاصر تلك الفترة, وعايش أحداث ثورة الأمير, سجل لنا اعتزازه بثورة هذا القائد البطل, وتمجيده لها, وما كان ينتظرها من تحرير واستقلال. ثم شعوره باليأس والمرارة بعد فشلها, وأنه يجب الإعداد الجيد والتحضير السليم للقيام بثورة أخرى تعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي أما هذه الحركات والانتفاضات من غير استعداد ولا تحضير فقد يؤدي إلى نتائج عكسية, لا تحمد عقباها والموقف نفسه نجده عند صاحب القول الأوسط في تاريخ المغرب الأوسط .
ويتضح لنا من خلال هذا النص اعتزاز المثقف الجزائري بثورته, واحترامه التام لما قام به الأمير من أعمال ومواقف. أرجو أن يكون قد وضح بعض النقاط الهامة في تاريخ ثورة الأمير وأنه فتح تساؤلات أخرى, عن مواقف كل من القبائل التي ساندت الثورة, وخلفاء الأمير, موقف بيجو من السلطات المغربية...وما إليها من النقاط التي إن واصلنا البحث والتنقيب, سنصل إلى فك رموزها وألغازها بحول الله.
النص:
"....فتعلقت أهل العقد والحل بأذيال شيخ الوسيلة سيدي "محي الدين بن المصطفى بن المختار القادري المختاري الحسني"( [24])، واختاروه للإمامة لخوفه من ربه وصلاحه ودينه فلم يجبهم لما طلبوا بعد أن راودوه كثيرا وهو يمتنع حتى هددوه، فأخرج لهم ولده عبد القادر وهو يومئذ صغير وبايعه بخط يده، فتبعه العلماء وأعيان الرعية من الحشم وغيرهم، فجلس للإمارة وأعطاها حقها، فتح الأصداف وجمع الأصناف وركب الأكتاف ومنح الأعراف ونجع الأكتاف ومرى الأخلاف، فلم يدرك من تولى الإمارة شأوه ولا قاربه أو حاذى حذوه، قام بالأمر واستبد به وهجر اللذات وأحوال الصبا والتفنن في الشهوات، وجاهد وأحسن السيرة وأمسك نفسه، فكانت لديه أسيرة.
لكن أبى الله أن يمضي له أمر الخلافة في أمة نبيه صلى الله عليه و سلم بسبب رجل أمّره على قبائل "بني عامر" وجعله نائبا عليهم وخليفة في مدينة تلمسان، وأحوازها فخيَّم بها، وأجرى أحكامه في جبال "بني سنوس" وجبال" تراره" والسواحل التي بعدها، ومدَّ يده في قبائل بني عامر بحكم التفويض، فرموه بعشق امرئ القيس، وجار في حكمه وعسفهم وخفض رتبة أكابرهم وصناديدهم، فركّب ونزّل وولىّ وعزل ورفعوا به الشكوى إليه فلم يزل شكواهم، فصبت قلوبهم إلى الخروج عنه مقدمة بأن اجتمع أكابرهم ورؤساؤهم على تأمير رجل بوشيخي يقال له "محمد بن عبد الله" فأمَّروه عليهم بواسطة أكابر الدوائر وصاروا يتحاكمون عنده، وكان بليد الطبع لا يحسن الحكم إلى أن قضى الله باضمحلال "البوحميدي" ومن والاه رجع الحكم للإفرنج وسلم الحد لمحدوده.
وكانت عاقبة الشيخ "البوشيخي" هذا خسرا، خرج بأهله للصحراء التي هي بلاد آبائه وأجداده وثار في أحواز واركللا على الإفرنج فاستولوا عليه بواسطة بعض الأعراب وأسروه لباريس، ولما طال أسره عندهم في تلك العدوة قيل أنه ارتد لدين النصرانية وخرج من دين الإسلام خروج السهم من الرمية ودخل في دين المسيح العليل ورشوه بماء العمودية، واستشهد عليه بقول خليل: " وإن تنصر أسير فعلى الطوع "، وذلك آخر العهد به والله أعلم.
ولما كانت نية الحاج عبد القادر خالصة في دينه وملة نبيه صلى الله عليه و سلم لم يعاقبه الله في الدنيا، فكانت معيشته ومعيشة أهله على يد عدوه وصديقه، وأسكنه الله الأرض المقدسة فصار يمشي بأرض تردد فيها جبريله على كل نبي ورسول فيا لها من مشية بين قبور الأنبياء وأهل الصلاح والأولياء، بعد أن جرَّد سيفه على الأعداء وناضلهم مناضلة الصحابة الأشداء، فمشاهد قتالهم أمام وهران عديدة، جاءهم فيها بجنود عريضة طويلة مديدة، وخيله كم لها من غارة على السواحل والثغور فكانت تصهل عليهم في النجد والغور، وكم فرَّق من جموع وأخلى لهم من أماكن وربوع.
وسل عن تردده في الميدان "بيجو" وأحبار الرهبان، وسل عن تردده في الصفوف أودية سيك وشعاب"خروف"، وسل نصارى مستغانم، وكم أخذ لهم من أسارى في الغنائم، وسل ثنية"مُزايا" وما نال في قتالها من المزايا، وسل بسيط "متيجة" وكم ظهرت لهم فيه من نتيجة، وسل"وادي الزيتون" وكم سفك من دم في روضة الهتون، وسل جبال"زواوة" الشوامخ والأطواد الرواسخ، عن دخوله على العدو فيها دخول النواسخ، وسل جبال أحواز "الجزائر" و"شرشال"، وكم نال العدو في بلاد "جندل"معه أتراح وأوجال، وسل "مليانة" وجبال "بني أمناصر" وكم فلَّ فيها من جيوش للفراعنة والقياصر، وسل أحواز "المدية" و"البغار"، وكم نال العدو فيها من الصغار، وسل مدائن "الزاب"( [25]) وكل موضع تحزبت فيه الأحزاب، فجل الوقائع له لا عليه، والله فيها وليه وسائق النصر إليه.
فكانت مدة ولايته اثني عشر سنة( [26])، وإذا عددت وقائعه الجهادية وجدتها أكثر من أيام عمره، فضلا عن أيام ولايته وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. فبسبب سنة الجهاد التي أحياها في آخر الزمان أحيا الله ذكره وبتقديم والده المذكور وحاز حمد الله وشكره.
أبوه كان أمير المؤمنين في الحديث( [27])والسيرة النبوية، وكان يلقن الناس الأوراد القادرية( [28])، وكان الأتراك يتلمحون فيه المهدوية المنتظرة، فقد شدَّ الرحلة للحجاز يغنم حجة التطوع فتبعته الحواضر والبوادي، وبنت فساطيطها في محلته وجندت عليه الجنود في حلته ورحلته ففزعوا من ذلك وخافوا منه فردوه عن وفاء مراده، ولما انصرف الناس عنه جاءوا به من زاويته وعقلوه بوهران( [29]).
وفيه يقول أديب الزمان وعلاَّمة همذان العلاَّمة السيد "السنوسي بن عبد القادر"( [30]) الدحاوي ثم الغريسي الراشدي رحمه الله:
عوّل على الصبر لا يحزنك أشجان *** ولا يسوك ما فجتك وهران
أما هي الدار لاتومن غوائلها *** إلا ومن صدها وهن وهجران
ما أنت أول من دهت ولا آخرا *** ولا بأوسط من خانته أزمان
أنظر إلى ابن رسول الله ثم إلى *** هلم جرا وما لاقاه عثمان
تلك العوائد أجراها على قدر *** من دبر الأمر فيمن شاء ديان
مهلا عليك وإن ساءت ظنونهم *** سيهزم الجمع أو يشد ديوان
ويكظم الغيظ من خصم ومن حكم *** ويكشف الغيب أن صدقتَ وخانوا
وأنت و الله مازلت على سنٍ *** وتحمل الكُلَّ لا ريب و لا ران
وتقري الضيف تسعى في حوائجهم ....الخ.
وهي قصيدة طويلة مشتملة على مواعظ وحكم.
وقضية الأمير الحاج عبد القادر ووالده المذكور مذكورة في غير هذا، وقد ذكرنا سبب خروجه من أيالة الدولة العلوية حتى انتهينا به إلى "برصة" في غير هذا، ولا بأس من أن نعيدها على وجه الاختصار فنقول:
لمّا ملك الفرنسيس واسطة المغرب واستولى عليها، وكثر تردد الناس بفيفاء الصحاري تفرَّقت القوم أيادي سبأ، فمنهم من سلك لأرض المغرب الأقصى مهاجرا بأهله، فاستوطن مدينة وجدة وجبال بني يزناسن ومدينة تازة وحاضرة فاس، ومنهم من سلك خط الجريد وهاجر بدينه وأولاده لمدينة تونس، ومنهم وهو الجل الكثير والجم الغفير، رجع راضيا بالدخول تحت يد الفرنسيس لما شاهده من قلة القوت وآفة الجوع والموت.
ودائرة أميرنا الحاج عبد القادر انتقلت إلى نواحي وجدة بخيلها ورجلها، ولم تترك غزوا على عدوها، وكانت تغنم من الروم الغنائم بحيث لا تخلو غزوة من قتلى وأسرى، تعرض يوما لغزوة الحاج عبد القادر بطريق من بطارقة الفرنسيس يقال له "القريني" وهو من أبطالهم وفرسانهم مشهور عندهم بالشجاعة، ولقي الحاج عبد القادر في بلاد الأعشاش فالتقى الجمعان، فلم تمض ساعة من النهار حتى لم يبق من جيش البطريق إلا عشرة رجال أو أقل من جنده دخلوا قبة ولي وتحصنوا بها في أرض خالية من العمران ومن حام حولهم من المسلمين يرمونه من باب القبة، ولما جنَّ عليهم الليل خرجوا فأخذوا وقتلوا وبقيت أجسادهم مطعمة للرخم وللنسور وما مات جيش القريني حتى مات بطريقه. يقال أن الحاج عبد القادر بارزه فكانت رمية الحاج عبد القادر في مقتله، ولم تصب رمية البطريق مقتل الحاج عبد القادر بل أصابت عضوا من أعضاء جسده فجرحته والله أعلم.
وغدوة صباح هذه الوقعة زاد الحاج عبد القادر بمن معه من الفرسان مجدا في السير إلى أن دخل أرض "بني عامر"، فصادف جيشا للروم خرج في طلبه أو ذاهبا إلى تلمسان فوقف السيد المذكور ليتهيأ لمحاربته، فقلب الجيش راية المكاحل وأسلم نفسه للانقياد، جرَّده الحاج عبد القادر من السلاح وساقه بدوابه ومؤونته أسيرا إلى أن أتى به للموضع الذي هو مخيم به قتل من قتل وأبقى من أبقى، واشتدت وطئته على الفرنسيس، إلى أن خرج ابن أمير المؤمنين مولانا محمد بن مولانا عبد الرحمن بن هشام العلوي لمحاربة الفرنسيس في قضية وجدة، وفاجأه المارشال "بيجوا" وهو بساحة المدينة نازلا على ضفتي الوادي عند طلوع الشمس فحصل الروع لمحله الشريف فمنها من ركب لملاقاة العدو، ومنها من صار يجمع حوائجه وافتتن خوفا من الهزيمة وجيش الروم بساحة المحلة، فأشرفت بطارقة الروم فوق الجرف الأخضر ونظروا في "المرآة" فوجدوا المحال منتشرة ولا ترتيب لجيوشها، وابن أمير المؤمنين في شرذمة من الخيل وعلى رأسه المظلة، فعلموا أنهم يأخذون المحلة بتمامها فانحدروا من استشرافهم على الجرف وأظهروا الهزيمة من أنفسهم وقهقهروا للرجوع إلى وراء، فظنت الناس كذلك فإذا بهم انحرفوا يمينا وتركوا المحلة عن يسارهم وجاءوا بعدها وحازوها وأحدقوا بها فغنموها في الحين، وانهزمت الركبان مجردة عن أمتعتها وفساطيطها وأخبيتها وخيامها، وتبعت خيل الفرنسيس من أعراب الدجن وغيرهم خيل الهزيمة. وآخر المنهزمين أمير المحلة لأنه لم يظن من قومه أنهم يولون عدوهم الأدبار وما ظن ذلك حتى كان شهما شجاعا فتبع من فر وهو يلعنه بقلبه ولسانه وخيل العدو طامعة في تحصيله، فإذا بالبوحميدي في خمسة فارسا أو ما يقرب منها بعثه الحاج عبد القادر يتجسس عن أخبار المحلة وما فعلت مع عدوها بمن معه على الخيل الطاردة، فقتلوا وغنموا سلاحا وخيلا، فصفَّر لهم في النفير من فوق الكدية وكلَّمهم فيه بالرجوع، فإن هذا الذي جاءكم في خيله إنما هو الحاج عبد القادر فكان ذلك هو سبب الرجوع عن تبعية الشريف، وأما الخيل الطاردة كانت نيتها أن لا ترجع إلا إذا وصلت عيون "سيدي ملوك" والله يدفع ما يشاء عمن يشاء، فحينئذ ضمَّ الفرنسيس محله الشريف بأجمعها وبعثها وبناها بساحة وهران على تلك الهيئة، ولا أدري هل بناها بساحة الجزائر مثل ذلك لتراها رعية الجزائر أو اقتصر على بنائها بوهران ومنها بعثها لباريس فبنيت هناك. ودخل مدينة وجدة وما غيّر مسلما ولا يهوديا سوى ما وجده في القصبة من الدقيق دفعه مؤونة جيوشه وما وجده من الرصاص ذوبه وألصقه في جدران القصبة، وما وجده من البارود حمله في ظروفه وجعله في الوادي، والناس تنظر إليه، وعاين سبعة أيام أو أقل من ذلك ربما تأتي محلة أخرى تقاتله، فلما أيس من ذلك كتب مكتوبا بصحبة رقاص عربي لمولاي عبد الرحمن كل من لقي الرقاص يريد أن يبطش به يريد المكتوب فيكف عنه، وكذا في مبيته حتى نسخت منه نسخ عديدة نص المكتوب:
" بعد السلام على المولى السلطان، وبعد فقد قدم الشريف ولدك لمحاربتنا فقدَّر الله عليه وانهزم، فجلست انتظره عله يرجع وتكون الغلبة له لما علمت أن الحرب بيننا وبينكم دول وسجال، تنالوا منا وننال منكم، فإذا به لم يلتفت إلى هذه الناحية التي نحن بها، وذكر له أن دخول وجدة لم يغير فيه مسلما ولا يهوديا كعادة الملوك، وذكر له أمر الخالص وأنه دفعه لجيوشه هي التي تستاهله، وأما البارود والخفيف فلا حاجة لي به، وبهد هذا كله إن أردت الهدنة بيني وبينك تقبل كذا وكذا "
ومن جملة الشروط التي لابد منها إخراج الحاج عبد القادر بن محي الدين من أرضك فإنه مستند عليك. فقبل مولاي عبد الرحمن الشروط وارتفع النزاع بينهما، وكان يراصد الحاج عبد القادر بسُبة يعتمد عليها ويخرجه من بلاده لأجلها حتى أوقع بفئة "أرغنغان" من "ريف قلعية" وقتل منهم عددا عديدا في ما أخذوه له من الماشية التي كاتبهم مولاي عبد الرحمن على ردها له، فلم يمتثلوا أمره ثالث مرة فأصبحوا يقولون السلطان هذا يريد منا بيعته ونصرته، فجهز له محلتين عليهما ابناه فقاتلاه وأخرجاه من بلاد السلطان، ونزل بأهله في جبل "بني يزناس" بعد افتراق جمعه، وأراد الخروج لأرض الصحراء يخيم بها، فغلبه "الحاج مصطفى"( [31]) خليفته ووزيره الأعظم وقال له:
" الرأي عندي أن نكتب للفرنسيس يحملنا للإسكندرية، فإن وفى بما نشترطه عليه فذاك، وإن استشعرنا خيانته نبذنا أمره ونظرنا لأنفسنا الموضع الذي يصلح بنا"، فكاتبوه وانتظروا بما يرجع المرسلون فرجعوا بمكتوب جلناراتهم ورؤوسائهم مختومة بخواتمهم وأشهدوا على أنفسهم أن يجيبوهم لما طلبوه منهم، وعاملوا رسل الحاج عبد القادر معاملة التعظيم والتقريب وأعطوهم عهدا وميثاقا بوفاء ما طلب منهم، فوثق الحاج عبد القادر برسلهم وأسلم نفسه بأهله والطائفة التي معه، واستسلم لقضاء الله فواجهوه عند ملاقاته بهم بالترحيب والتعظيم، وظن في ركوبه البحر بمن معه أنهم يخرجوه للإسكندرية ويوفوا بالعهد والميثاق الذي واثقوه به، فإذا بهم كاتبوا "رايهم"( [32]) أنهم ظفروا بالحاج عبد القادر وجاءوا به وبأهله وبطائفته أسيرا وأخرجوه لباريس بعد أن طافوا به على مدائن "طلون" ومن حولها وأقبلوا به على ملكهم حتى أوقفوه بين يديه فسأله عن كيفية استيلائهم عليه فأخبره الخبر المطابق للحق، فتحقق صدقه وتدليسهم حيث رأى مكتوبهم الذي أعطوا عليه العهد والميثاق أن يخرجوه للإسكندرية فأنكر فعلهم ذلك ولم يشكر خيانتهم للعهد، فقال لهم: الواجب عليكم أن توفوا بما عهدتم لئلا تسقطوا من أعين أجناس الروم وعار عليكم أن تفعلوا هذا الفعل وهو خيانة العهد، فأنكروا قولته هذه وقالوا له: قتل جيوشنا وأبناءنا وكبرائنا ويتم أولادنا، وتحيلنا على قبضه مدة عمرنا، فقبضه فلس من الكاغد وأردت تسريحه من أيدينا حتى يرجع لمقاتلتنا بما لا نقدر عليه، وصرحوا بقتله، فوقفت المخالفة بينهم وبين "رايهم"، وانقسمت الدولة الفرانصاوية إلى قسمين فكانت الغلبة للذين جاؤوا بالحاج عبد القادر وخرج "الراي " مغلوبا "للوندريز"( [33]).
واتفق رأيهم على أن يبقوه تحت أيديهم أسيرا إلى أن يموت، فأبى الله إلا أن ينصر عبده ويهزم الأحزاب وحده، ويأويه إلى "برصة" و"الشام" عنده. فها هو بمن معه في حرم القدس، وفي جوار الأنبياء، مطهرا من الرجس وحسد الأنس، مكرَّما عند الناس، معظما بين الأجناس، يذكر ويتذكر، ويتعرف ولا يتنكر، يأمر ويأتمر، ويحج ويعتمر، يشكر ربه ويستغفر ذنبه، نصب نفسه للعبادة، وجعل التقوى ذخيرته وزاده، يصلي الرغائب والغيب يكشف عن العجائب، والله على أمره غالب، ويجمع بين الحاضر والغائب".
انتهى نص المشرفي
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 08/11/2011
مضاف من طرف : aladhimi
صاحب المقال : عبد المنعم القاسمي الحسني
المصدر : منتدى الجلفة