الجزائر

«الأسود يليق بكِ»... انتصار نسائي بهفوات أنثى



«الأسود يليق بكِ»... انتصار نسائي بهفوات أنثى
ربما أكثرما لفت في رواية «الأسود يليق بك» للكاتبة الجزائرية المبدعة أحلام مستغانمي، ذاك الانتظار والشغف لصدور الرواية للذين وصلا لحد «الهوس» ربما على مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل ما نعيشه من أحداث سياسية جليلة تطغى على اهتمامات المواطن العربي، قد يرجع ذلك لقدرة الكاتبة على إرساء هوية أدبية مميزة يعنونها جمالية أسلوبها البليغ والمعبر في الوقت نفسه، ما خلق لها شعبية في أوساط القارئين عموما وليس المثقفين فحسب، او قد يكون ذاك الضغط الذي يعيشه العربي بعد ثورات الربيع جراء انغماسه في لعبة الديمقراطية والإصلاح، ما حدا به للاهتمام أدبيا بقصة عاطفية خفيفة وجميلة بقدر نضوجها وجديتها، او هو الوعي والإدراك لقيمة نص أدبي ربما، في الأحوال كلها فإن من الجدير قوله ان ذاك الهوس المبالغ فيه لا يعني بالضرورة أننا قارئون جيدون، إنما نحن مجتزئون لعبارات قد تمسنا وتعبر عن مواقف مررنا بها، نكررها ونرددها حتى قبل أن نقرأ الرواية.
هالة وطلال
نشأت قصة الحب بين بطلي الرواية هالة الوافي وطلال هاشم بطريقة درامية مشوقة ولكنها في مظهرها عادية جدا، حيث تعرف الرجل المليونير والذكي و«الشهريايري» كما وصفته الرواية إلى المرأة الكئيبة والشجاعة والشموخة والمغنية التي تبدو بحالة تجهم وشحوب رغم مجالها الفرح والاهم أنها لا تخلع اللون الأسود، عن طريق مقابلة تلفزيونية، لفتته أثناء امتطائه صدفة للريموت كنترول وما اعتاد أن يفعل ذلك.
ولأنه الرجل الفاره الذي يملك الدنيا بماله وسلطته أراد أن يقطف تلك الوردة لعقد تتكشف تواليا في الرواية، فقد لفتته بصورة سحرية غريبة عميقة.
فبدأ خطته باستدراج الجميلة وأي خيط أفضل من باقة زهور لجذب امرأة بدا أنها راقية وعميقة التفكير، وهنا يدخل إلى الرواية بطل ثالث إذا جاز التعبير وهو باقة أزهار التوليب البنفسجية مزينة بعبارة جاذبة شادة تقول « الأسود يليق بكِ».
من هنا بدأت الحكاية وتكررت العبارات الجميلة المرفقة بباقات التوليب إلى ان نجح الصائد باستدراج الضحية المشتهاة وجرى أول اتصال يليه الكثير ثم أول لقاء بطريقة ساحرة أسطورية كلفت هذا الرجل الكثير من المال والوقت.
ونمت القصة مفصلة هذا الصراع الناضج بين امرأة ورجل هو يتباهى بماله وهي بشموخها.
استخدام بقية الشخصيات في الرواية جاء بمكانه على الرغم من ثانويتها، فهناك نجلاء ابن خالة البطلة ومرافقتها ومستشارها العاطفي أيضا، ثم والدة هالة السورية التي هجرت الجزائر بعد فقدان زوجها وابنها وعادت لحلب حيث ذكريات فقد والدها أيضا، كل هذه الأسوار جعلتها أكثر تشددا اتجاه ابنتها وتصرفاتها؛ فهي تحاصرها بالأسئلة والاستفسارات أينما ذهبت وترهقها بابتكار مبررات غيابها.
والد هالة المقتول كان فنانا قتله «الإرهابيون» كما أسمتهم الكاتبة، وبقي ذكره حاضرا في الرواية، ثم قتل علاء شقيق هالة واحد أسباب «سوادها»، فقد انضم للإسلاميين ثم رغب بالانشقاق فقتلوه أيضا، لعلاء صديق اسمه أندير شاب جزائري بائس حاول الفرار إلى أوروبا لكنه غرق بالبحر، وهو شقيق هدى حبيبة علاء المذيعة التلفزيونية التي هجرها ليلتحق بالمقاتلين بالجبل، في حين أكملت هي نحو التلفزيون بنجاح، ثم ظهر في المراحل المتقدمة من الرواية عز الدين الديبلوماسي الجزائري المعجب والمفعم بوطنيته وعمله الإنساني.
بلاغة ونضج في الحوار
استطاعت الكاتبة أن تبقي بداخلنا رغبة بمتابعة المزيد والمزيد من حكايتها، فذاك الحوار الغني الجميل البليغ المتعالي بين البطلين، كان له اشد التأثير على القارئ وقد خرج به من مجرد قصة حب عادية إلى ملحمة فكرية عاطفية فيها صراع محبب جدا، فهذا الرجل الذي لم يكمل دراسته الجامعية يتمتع بذوق رفيع؛ يسمع لستراوش ويمارس طقوس النبلاء في تنقلاته، ويعرف كيف يلاغي امرأة يمتحنها بكل ما أوتي من سطوة وجبروت، فها هو يحجز حفلة كاملة ليسمعها وحده رغم عدم اقتناعه بصوتها، ثم يتنقل بها من بيروت إلى فرنسا إلى النمسا ويعيشها كأميرة، وقد عرف بكل خطواتها بل يلاحقها كأنفاسها يتحدى تجاهلها له في أول موعد بالمطار، ثم تثيره عزة نفسها فيحاول أن يطوقها بالمزيد من الأعباء المادية إلى أن يغويها إلى سريره ثم يصارحها بتعرضه للخيانة على الرغم من استمرار زواجه فيتعرى أمامها وتبدأ ذروة القصة بالهبوط ثم تعلو مجددا.
أما هالة الوافي فهي المعلمة التي تتحدر من جبال الأوراس المحافظة، حيث تتمتع النساء هناك بأخلاق الرجال ويولدن جبالا شامخة، لم تكن تغني لولا مشاركتها في تأبين والدها المطرب الذي طالما منعها من الغناء، ولكنها بغنائها تحررت من كل القيود ورافقت طلال إلى مشتهاه وقد أحبته وتعلقت به رغم اكتشاف عقده من النساء.
وينشأ بين العاشقين حوار بليغ، فيه من الحبكة اللغوية ما تحتاج لإعادته مرة واثنتين ليصلك المقصود، وعلى لسان أبطالها توصل الكاتبة ما تريده حول تلك المنافسة الأبدية بين رجل عاشق وامرأة وقعت في شباكه، انه حوار القلب والعقل الموجب والسالب المتمنع والمشتهي الفائض والمقتضب، وتدرك العلاقة اشتعالها عندما تقاسمه السرير في تلك الليلة بشقته الباريسية، هو لم يطلب غير ضمها، وهي اعترفت انه الأول ثم لململت الكاتبة ذروتها فتهاوت القصة إلى حيث بداية النهاية فيفترق العاشقان ثم يلتقيان.
ويستشعر القارئ النهاية منذ تلك اللحظة التي اعترف فيها بضعفه هناك في فيينا، أما هي فتجلت باعترافها «أريد أن أكون أما لابنك»، كان ذلك آخر الحب بينهما، فلما شك في تصرفاتها عند الحديث من الديبلوماسي الجزائري الذي التقته أكثر من مرة بدأ يهتز ثم يغضب فأراد أن يتيه بسطوة ماله فيذلها ربما أو يذكرها، فأبت ذلك بعزتها وعنفوانها وكان الفراق.
تاريخيا واجتماعيا
لم تغفل الكاتبة البعد السياسي والاجتماعي لأحداث روياتها فها هي تعود وتذكر بما شهتده الجزائر من أحداث في التسعينات حيث انقلب الجيش على نتائج الانتخابات البرلمانية التي فاز بها الإسلاميون ممثلين لجبهة الإنقاذ ما حدا بهم إلى الثورة ونشأ نزاع أتى على البلاد بالويلات، الكاتبة تصف المقاتلين الإسلاميين ب«الإرهابيين» فهم أعداء البشر والحجر والفن، قتلوا والدها لأنه مطرب وقتلو أخاها وعاثوا فسادا في الأرض، خرجوا ليتحصنوا في الجبال ويواجهوا الجيش الجزائري في حين شملهم عفو رئاسي بعد انتهاء الأحداث فعاد قادتهم من كبار التجار مثل «عماد» الذي وشي بأخيها علاء للإرهابيين وأقنعهم بأن الثاني خائن على الرغم مما قدمه من خدمات إنسانية لجرحاهم في الجبل.
المشهد نفسه يتكرر في سورية حيث قتل جدها على يد النظام السوري بمذابح حماه في 1982 وربما قصدت الكاتبة أن توازن بين الحادثتين من باب عدائها للعنف والقتل وتجريم القاتل أيا كان خطه السياسي أو دينه، علما أن الصورة حاليا تتشابه فعلا سياسيا وتاريخيا.
تنتقل الكاتبة أيضا إلى بغداد وقد أثخنتها جراح الاحتلال الأميركي في فترة كتابة الرواية، تعرض الكاتبة عبر «عز الدين» ما تعانيه بغداد من حرب ودمار وآهات، وتكون الخاتمة بخلع السواد والغناء من اجل بغداد، في ذلك الحفل الخيري المقام في ميونيخ.
اجتماعيا لم يكن الحب صافيا في الرواية؛ فهناك منغصات اجتماعية تعاني منها الجزائر، وهذا ما ورد ذكره على لسان حبيبها الأول مصطفى الذي اخبرها أن 10 في المائة من الجزائريين يعانون من أمراض نفسية، وقد مر بهما شخص يحدث نفسه ويشتمها، ثم أن ذكرها الدائم للمجتمع المحافظ الذي يتباهى بامتلاكه للشرف هي سمة اجتماعية لم تندثر رغم إقبالها على الغناء، وأوضحت لنا قصة أندير حجم البطالة الذي عانى منه الشباب في مرحلة الحرب وما بعدها وهذا ما ألقى بهم إلى أيدي «الحراقة» الذين يحرقون جوازات سفر المهاجرين بعد الزج بهم في عرض البحر حتى لا تتعرف عليهم الشرطة.
في غربة أمها وعودتها إلى أحضان الوطن سورية أيضا صورة اجتماعية مهمة تمثلت في الحنين إلى الوطن واللجوء إليه أخيرا في خضم الأزمات، كما أن البذخ والرفاهية الذين عاشهما طلال وذاك التلذذ باستخدام أمواله باستهتار يمثلان تصويرا لشريحة لم تعد قليلة في مجتمعاتنا العربية، رغبتها هي في مجاراة هذا المليونير وإبهاره شكليا وماديا أيضا عرض لصورة يعاني منها البعض رغم إرهاقها ماديا وقلة تحصيلها في مجال العمل،واقتناعها بتواضع ما تقدمه، ولكن هذه الأنثى حين تحب تعطي بلا ثمن وبلا مقابل وبسخاء عريض.
انتصار امرأة
عاشت هالة مرحلة انفصام أنثى عن روحها نبضها حبها فتقلبت وتوجعت وانتظرت دون فائدة، إلى أن عاد الديبلوماسي من جديد ليقدم لها حلما على طبق من ذهب، انه الأوبريت العالمي الذي يشبع طموحها ووطنيتها وغرورها الأنثوي، أرادت أن تتحرر من غنائها له.. من كونها ملكه، وخلعت الأسود وكأن الأسود له فحسب.
أن اللحظة التي أشعلت غضب طلال بدفع من الغيرة وتأنيبا لنفسه على كشف أوراقه أمام هالة كانت نقطة عودة هالة إلى معدنها الأصلي المحافظ، كان قد تجهز للنيل من عذريتها التي «حمتها قبيلة من الرجال»، ولكنها رغم هفواتها وانسياقها الجنوني نحوه ثم مجاراته إلى نومها في سريره واعترافها الصريح بحبه، آثرت العزة والعنفوان، فرمقته برفعة رأس ونظرة تعال حين عرض عليها أمواله مغلفة بعبارات غضب كبير، أن أخلاقها الرجالية لم تسمح لها بالتمادي وهي تعرف انه ليس لها، فخرجت من ذاك الفندق الفخم في فيينا غير آبهة بجهلها بمعالم المدينة وقلة ما تملكه من مال.
إن جل ما يوثق انتصار المرأة في الرواية ليس ذاك الفرح والإبداع الذي أظهرته في ميونيخ وفتح لها أبواب نجاح جديدة فحسب، وإنما خلعها للأسود الذي لفته إليها وحببها باهتمامه، أنها الآن حرة وجاهزة لقلب الصفحة.
أما هو فيواصل تعاليه على نفسه، ولا يعترف بخسارته لها متخيلا أنها الخاسرة وهذا من طباع الرجل العصية على التغيير في بلادنا.
لا شك أن الكاتبة قصدت للأنثى أن تنتصر وهي المعروفة بانتمائها لأنوثثها شعرا ونثرا، ولكن الأنثى هذه المرة تحلت بأخلاق الرجال رغم هفواتها، وان كانت هذه الهفوات نسبية أي هي عادية جدا ولا تصنف كذلك في المجتمعات الفنية الأكثر تحررا.


سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
الاسم و اللقب :
البريد الالكتروني : *
المدينة : *
البلد : *
المهنة :
الرسالة : *
(الحقول المتبوعة بـ * إجبارية)