مبادرة طيبة تلك التي اتخذها الأستاذ عبد المالك بوزاري، مدير مخبر الابستملوجيا وتاريخ الرياضيات بالمدرسة العليا للأساتذة-القبة. تمثلت هذه المبادرة في تنظيم ورشات خلال هذا الأسبوع حول آلة الأسطرلاب.
الأسطرلاب
اهتم العلماء بهذه الآلة الفلكية لأنها آلة متعددة الوظائف: منها أنها تحدد ارتفاع الشمس والنجوم، وتعيّن التواقيت الشمسية ويعتمد عليها البحارة في الملاحة. كما عرف المسلمون كيف يطوّرونها لتساعدهم على تحديد اتجاه القبلة ومواقيت الصلاة.
عُرف الأسطرلاب منذ العهود الغابرة، والاسم ذاته مشتق من الإغريقية “أسترولابوس” وحافظت جميع اللغات على هذا الاسم. وقد سجلت هذه الآلة تقدما كبيرا في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية بدءا من القرن الثامن الميلادي حيث أدخلت عليها آنذاك الكثير من التعديلات، وعمّ استعمالها في المشرق، من الهند وبلاد فارس، إلى المغرب العربي والأندلس. وفي هذا السياق، استخدمه وطوّره علماء الحضارة العربية الإسلامية مثل البيروني (أوزبكستان) وعبد الرحمن الصوفي (إيران) والخوارزمي والفزاري (بغداد) وابن خلف المرادي والزركالي (الأندلس).
يصف البعض الأسطرلاب بأنه “ملك الأدوات الرياضية”… بل يعتبرونه من أجمل الأدوات التي من حق الفكر البشري الافتخار بها لما أداه من مهام عملية عبر العصور، وأيضا للجهد الذي بذلته مختلف الحضارات من أجل تطوير وظائفه إلى اليوم. ومن المعلوم أنه دخل أوروبا قبل نحو 10 قرون.
واليوم اقتنع عديد خبراء تدريس العلوم أنه بالإمكان استعمال الأسطرلاب وصناعته لتعليم بعض مفاهيم الرياضيات والفيزياء والجغرافيا للتلاميذ. وفي نفس الوقت، يتيح الأسطرلاب الفرصة للحديث عن تاريخ العلوم.
الأستاذ الهولندي يان هوخندايك
أشرف على هذه الورشة ثلاثة خبراء هولنديين يتزعمهم مؤرخ العلوم العربية الإسلامية يان هوخندايك Jan Hogendijk. ومن المعلوم أن هذا الباحث قد زار الجزائر لأول مرة عام 1986 للمشاركة في الملتقى الأول لتاريخ الرياضيات العربية بالمدرسة العليا للأساتذة-القبة. ويذكر الزملاء أنه ألقى آنذاك محاضرة حول شخصية أندلسية تاريخية هو المؤتمن بن هود (القرن 11 ميلادي) الذي كان ملكا لسرقسطة وفي آن واحد كان يؤلف في الرياضيات!
واشتهر المؤتمن بكتابه الضخم “الاستكمال” الذي برهن فيه، فيما برهن، على نظرية يعرفها من درس الهندسة باسم “نظرية تشيفا Ceva”، وجيوفاني تشيفا رياضي وفيزيائي إيطالي عاش بين القرنين 17 و18 ميلادي. والجدير بالذكر أن الباحث هوخندايك هو الذي كان وراء اكتشاف مخطوط هذا الكتاب في إسبانيا في مطلع الثمانينيات، واقترح أن تسمى النظرية باسم المؤتمن لأنه سبق تشيفا بعدة قرون! وأهمية اكتشاف مخطوط المؤتمن تتجلى في كون الكتاب كان موضوع عدة رسائل دكتوراه في تاريخ الرياضيات، وكذا محور بحث في عديد المقالات والمحاضرات في الكثير من الدول.
الورشات والتنظيم
شارك في هذه الورشات ذات الطابع الفلكي عدد كبير من المهتمين، منهم أساتذة في جميع مراحل التعليم أتوا من عدة مدن جامعية، وكذا مفتشون وتلاميذ من ثانوية الرياضيات (بالقبة) وطلبة. وشارك أيضا في التظاهرة منتسبون لمركز البحث في الفلك والفيزياء الفلكية والجيوفيزياء (CRAAG). وكان الخبراء الهولنديون يتابعون ويشرفون عن كثب على أعمال الورشات طيلة الأيام الدراسية.
ومن الناحية التنظيمية، ينبغي الإشارة إلى أن المكان الطبيعي لاحتضان هذه التظاهرة كان المدرسة العليا للأساتذة-القبة بحكم أن المخبر المنظم لها تأويه هذه المؤسسة، غير أن الإدارة المركزية تذرعت بأسباب لا نراها مقبولة دفعت القائمين على التظاهرة إلى تنظيمها خارج المدرسة.
ولذا سعى الزميل عبد المالك بوزاري إلى البحث عن التعاون مع المؤسسات الوطنية الأخرى. وقد وجد أُذُنا صاغية لدى وزارة التربية الوطنية التي رحب مسؤولوها بتنظيم التظاهرة في ثانوية الرياضيات مع التكفل ببعض المصاريف نظرا لكون النشاط سيستفيد منه التلاميذ والأساتذة. وهنا لا بد من الإشادة بدور طاقم الثانوية، وعلى رأسهم مدير المؤسسة الأستاذ بكيري، في توفير كل ما يتطلبه نجاح التظاهرة.
كما لقي المنظمون الترحيب نفسه لدى مركز الفلك والفيزياء الفلكية والجيوفيزياء إذ تكفل المركز بجلّ المصاريف، من إطعام للمشاركين وإقامة للأجانب. وهذا التعاون هو الذي جعل الأيام الدراسية تلقى نجاحا مستحقا.
وكان من المبرمج للورشة أن تتكرر في جامعة تلمسان خلال النصف الثاني من هذا الأسبوع، وتم الاتفاق معها وفق هذا الموعد. وما لم يكن متوقعا هو أن تبدي الجامعة متأخرةً تحفظا بخصوص التكفل بإقامة الوفد القائم على الأيام الدراسية. ومن ثم ألغيت التظاهرة في تلمسان وتبناها مركز علم الفلك ببوزريعة حيث واصل الخبراء الهولنديون نشاطهم هناك.
نتمنى أن تتكرر مثل هذه التظاهرات في عديد المؤسسات التعليمية بالتعاون بين الجهات المعنية لتعميم الفائدة التربوية في مجال تدريس الرياضيات والفيزياء والجغرافيا وغيرها من المواد العلمية.
-
تعليقكـم
سيظهر تعليقك على هذه الصفحة بعد موافقة المشرف.
هذا النمودج ليس مخصص لبعث رسالة شخصية لأين كان بل فضاء للنقاش و تبادل الآراء في إحترام
تاريخ الإضافة : 04/12/2018
مضاف من طرف : tlemcen2011
صاحب المقال : أبو بكر خالد سعد الله أستاذ جامعي قسم الرياضيات / المدرسة العليا للأساتذة- القبة
المصدر : الرأي