الأرض ليست مربعة

بقلم: رمزي الغزوي
فرق كبير بين معنى الشفافية الدارج والفيزيائي الدقيق. ففي الثاني لا تعني إلا أن الجسم ينفذُ منه كلُّ الضوء الواقع عليه ولا يعكسُ شيئاً إطلاقاً. وفي حياتنا العادية قد لا يُرام من الشفافية إلا أن نرى ما في جوانيتك وباطنها وكيف تتفاعل أمورك وأفعالك وتتعاطى أفكارك وآمالك.
ويكون أن الشفافية العصرية بمعناها الصادم الخارق للخصوصية ستشعرك أن كريات دمك الحمراء والبيضاء متاحة على حد سواء لركلات عالم مجنون القدم أو أنك تعيش في بيت زجاجي لا يُخفي شيئاً فترصدك كل عين وتقتنصك الكاميرات بحدقاتها أنى وليت. فاحذار الأخ الأكبر وسلطانه السليط فهو أقرب إليك مما تتصور وأقوى مما تحتاط وتتحوط.
أواخر القرن الخامس عشر الميلادي احتاج نبأ سقوط أخر القلاع العربية في الأندلس عدة أشهر ليصل إلى بلاد الشام وأرض السواد. فيما تطلب خبر وفاة نابليون بونابارت مطلع القرن التاسع عشر أزيد من أسبوع ليعمَّ أرجاء فرنسا قبل اجتيازه الحدود والبحر نحو ألمانيا وانجلترا.
لا فرق اليوم بين ولادة خبر وشيوعه. فنحن نحيا عصراً يحلو لي أن أسميه: (صفر مسافة) حيث لم يعد أي معنى للتضاريس وأمها الجغرافيا بعد أن تلاشت الجدران وخطوط القارات والبلدان. فالخبر يصلك بسرعة الضوء القادر على لفِّ كرة الأرض سبعَ مرات في ثانية واحدة.
ولطالما كان الخيال أسبق من العلم. وهذا ما حدا بآينشتاين (العالم الفيزيائي الألماني واضع النظرية النسبية) الإقرار أن الخيال وبناته أهم كثيرا من المعرفة فهو يشعل فتيل الأفكار ويوقدها ويؤججها. وما بساط الريح بإسطورته إلا جموح هذا الخيال الذي تفتقت عنه المطارات والطائرات. ولربما يأتي حين من الدهر يكون متاحاً أن تجول في ماضي الزمن ومستقبله كما تجول في الاقطار شرقا وغربا. من يدري؟ علّ الأمر أقرب من شطحة خيال.
ذات صفاء سأل زعيم جلساءه من أسعد الناس؟ فتباينت ردود القوم متناغمة مع أنفاق نفاق جعل من الزعيم محوراً لكل إجابة. لكنه هزَّ رأسه بابتسامة زرقاء متنهداً ألا إنّ أسعدَ الناس رجلٌ لا يعرفنا ولا نعرفه.
ولربما سيتمنى إنسان القرن الحادي والعشرين المخترق بالأضواء والعيون الراصدة لو أنه ما عرف ولا عاش ثورة الاتصال الخامسة التي جعلت منه كائناً متاحاً يقطن على مقربة كبسة زر من كل طالب له. فأنت لا تستطيع الاختباء في كوكبك الحقيقي أو الافتراضي مهما أُتيت من خفايا وزوايا وهذا يذكرنا بصرخة موشومة على مدخل الأمم المتحدة في النيويورك المأخوذة من قصيدة للطفلة ميلان مورو: لو كانت الأرض مربعة الشكل لوجدنا زاوية للاختباء. لكن الأرض كروية وعلينا مواجهة العالم.